الخميس ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم زياد يوسف صيدم

عاشق الذهب

استيقظ حيث لا زمن ولا مكان قد اعتاد عليه، أو سمع عنه من قبل، فحتى شطحات كتاب الخيال العلمي وإبداعاتهم تقف عاجزة في وصفهما.. لملم قواه الخائرة، أخذ يرمق ما حوله بذهول، مستذكرا آخر شيء علق بذاكرته، والتي سبقت وجوده في هذا المكان المستحيل وفق إدراكه الآدمي.. حاول أن يعتصر ذهنه بصعوبة بالغة، لكنها محاولات فشلت في لحظات من الريبة والانبهار.. فأغمض عينيه عله يفتحهما من جديد، وقد تغير المشهد الماثل أمامه ما بين الحقيقة والخيال، فقد كان يأمل في كونها مجرد أضغاث أحلام أو كابوس يؤرق منامه ...

ابتسم لها قبل أن يطالبها بمسكن لألم شديد في أذنيه، وصفير يضغط على سمعه، يبدد توازنه، ويعبث بأعصابه .. بدأت تهدأ من روعه، تطمئنه بزوال الحالة من تلقاء نفسها، حين يتأقلم مع الحالة المستجدة نتيجة طبيعية لاختلاف الضغط الجوى..كان يومئ برأسه، زاما شفتيه على مضض قبل أن تستأذنه المضيفة بالانصراف .. استعاد ثقل قدميه على أرضية الطائرة المتجهة في رحلتها إلى أقصى الشرق الآسيوي، بينما كان يعلن قبطانها، بأنهم فوق المحيط الهندي في طريقهم إلى جزيرة تايوان.. تقدم بخطواته المترنحة، يجر ساقيه قاصدا دورة المياه..كان يريد استفراغ ما بجوفه.. كوسيلة لا مفر منها، لخلاصه من هذا الشعور بالغثيان..

يفتح عينيه ثانية، ليجد جسده ممددا على رمال صفراء فاقعة، يغرف منها بكفيه، تبدو ثقيلة وملمسها ناعم على غير عاده.. يدور برأسه في كل اتجاه، يتفحص مندهشا حبيبات الرمال من جديد بأصابعه المرتجفة، يكاد يوقن الآن بأنه ليس في كابوس كما تمنى! كانت تشتد ببريقها الأصفر مع أشعة الشمس وهى تنساب برقة بين أنامله، ينتصب واقفا مذعورا، ينادى.. يركض على طول الرمال الممتدة بلا أفق أو نهاية..لكن أين الناس؟ أين الأشجار و المباني؟ تساءل بصوت خائف مرعوب ..لا شيء هنا غير رمال غريبة عجيبة، لقد تأكد بأنها رمال من ذهب خالص، فبدأ عقله الآدمي المسيطر عليه حتى اللحظة ، يخطط في كيفيه نقله أو إخفاء المكان عن عيون الآخرين ! لكن صوت قادم من عقله الباطني حادثه:

 عن أي عيون تريد إخفاء هذه الرمال والصخور من الذهب الأصفر اللامنتهى؟ إنها نهايتك هنا، ستعيش مع من أحببت طوال عمرك.. ألم يكن يهيمن ويسيطر على تفكيرك طيلة حياتك ؟ألم تكن في رحلتك الأخيرة تنقله ضمن اكبر صفقاتك التجارية ؟ انه ملكك الخاص الآن، فكل ما تراه على امتداد بصرك يقع ضمن مملكتك الجديدة..

 لكنى إنسان ! والإنسان يحب بطبعه وفطرته الذهب والمال..

 نعم لكن ليس إلى هذا الحد من الجنون والهوس به، على حساب جوانب أخرى كثيرة لا تقل أهمية لبنى الإنسان.. أما أنت، فقد تقوقعت ضمن شرنقة من ذهب، وكرست حياتك وحاضرك في سبيله، ورسمت مستقبلك من خلاله، حتى تحجر بصرك، وتاهت بصيرتك عما حولك من اهلك وأصدقاءك .. الم تكن أمنياتك وصلواتك بزيادة تجارتك وامتلاكك له؟ الم تكن تفعل الخير وتقدمه نهارا، وتدعو الله ليلا أن يزيدك منه في تضرعك؟ الم تكن هي قمة أمنياتك وأحلامك وآخر ما تفكر به ؟..إذا خذ منه ما شئت، بل هو لك خالصا، لا يشاركك أحدا به ...

 نعم، لكن ما نفع كل هذا؟ ما فائدته وأنا بعيد عن البشر! لا أحس بوجودي وتميزي، أو قوتي ونفوذي..فكل ما حولي ذهب أصفر فاقع، لا خضرة ولا طير ولا ألوان، وقد غابت كل ملامح لحياة آدمية تشعرني باني إنسان..

 الآن تريد ان تكون من بنى البشر تحيا معهم وفى وجودهم لكنك ما تزال تبحث عن التميز والنفوذ.. لكن مهلا، أريدك أن تنتبه قبل أن استودعك للحظات.. فقد نسيت أن الفت نظرك إلى أمر قد يكون هاما لك!

 قل ما هو؟ قل لي بأنه كابوس سأستيقظ منه ..

- لا، لا لن يكون كما تريد،ستدرك لاحقا! لكن: حاول أن تمسك جسدك وتتحسسه بيديك!

 ماذا؟ لم افهم .. يستمر الصوت القادم من عقله الباطني محاورا: افعل ما قلته لك.. فقد تصل إلى إدراك الحقيقة و واقعك الجديد؟

 عن أي حقيقة تتحدث؟ لكنى سأفعل ما تريد.. نعم أنا افعل الآن ..لكن: ما هذا ؟ تغوص أناملي في أنحاء جسدي ..لكن: أين جسدي؟ انه قطعة هلامية شفافة! يطلق صرخة تلو الأخرى، تهز الأرجاء، ترتد مع موجات صوته في فضاء شاسع لا نهاية له.. صرخات تكاد أن تمزق حباله الصوتية .. انه لا يحس بجسده ، لا كتلة له ولا وزن.. لكنه ما يزال يرى ظله يمشى أمامه.. يتحرك حسب حركات جسد لا وجود له..يخترقه الفضاء والضوء .. يأتيه الصوت هامسا: تخلص من عادات الأرض، لتتكيف في عالمك الجديد الذي ناجيت ربك يوما في ليلة قدر مباركة.. حيث كانت أبواب السماء مشرعة لكل مستجير.. ثم انقطع الصوت ليتركه في ذهوله وحيرته، وانبهاره..قبل أن يبدأ فعلا في استدراك واقعه، وحقيقة ما هو عليه الآن؟...

فجأة أحس بأنه يستطيع تذكر كل شيء بلا عناء أو جهد !.. كأنه يسمع الآن صوت قائد الطائرة في آخر كلماته المتلعثمة والمستغيثة: جاءني أن عصابة من مافيا الذهب العالمية، استطاعت زرع قنبلة في احدي حقائب عميل لها، يسافر معنا على متن هذه الرحلة ..وسنحاول الهبوط على سطح الماء، فشدوا الأحزمة، وتشبثوا بمقاعدكم، وأكثروا من الدعاء والاستغفار..فخرج حينها مسرعا من دورة المياه التي ذهب إليها ليتخلص من حالة غثيانه، يشق طريقه وسط هيجان، وصراخ، وعويل، وهلع بين الركاب..وما أن استقروا جميعا في مقاعدهم، حتى انفجرت مؤخرة الطائرة.. فبدأت تتشقلب في الهواء بجنون، وتهوى مشتعلة ... كان آخر شيء تذكره عاشق الذهب من حياته الأولى ...
إلى اللقاء


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى