الاثنين ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم عدنان كنفاني

نيرون مصر.. يَحرِقُها

كان يعزف على القيثارة لحناً شجيّاً، وينظم قصيدة.. وروما العظيمة تحترق.

يستلهم من فضاءات النار، وسحب الدخان، وروائح الموت أفكاراً يسطّرها في قصيدة تخلّد ذكراه، وقد خلّدته كواحدٍ من أكبر المجانين الذين عبروا التاريخ، وواحدٍ من أكبر السفاحين الذين طغت عليهم جنون الـ أنا، فأحرق إمبراطورية.

ذلك نيرون، وحريق روما..

فماذا يفعل الآن نيرون مصر.؟

تهبّ مصر، رجالها ونساؤها، عمالها وفلاحوها، مثقفوها وعلماؤها، قضاتها ومحاموها، شبابها وشيوخها، من أقصى شمالها، وحتى أعماق الصعيد المصري، تقول بصوت واحد.. "إرحل".!

ثلاثون سنة، جثم على صدور المصريين ليبني لنفسه.. مملكة.!

ثلاثون سنة لم يقدّم لشعب مصر غير الكلام، والوعود، واستعراض العضلات، والانفتاح.!

ولهذا الانفتاح قصّة، فكل مكان باب يفتح على اتجاهين، إما للخارج أو للداخل، وانفتاح صاحبنا كان إلى الداخل الخاص بامتياز، وعندما نقول الداخل، نعني به، أسرته، وما لمّ لمّها، والبطانة المنتفعة، وأصدقاء الحماية.

هذا حال المصريين منذ أكثر من ثلاثين سنة، "والحبل عالجرار" كما يقال. في كل سنة يأمل الناس أن تكون المقبلة أفضل، لكن الفقر يزداد، والغلاء يتضاعف، والأمن يفتقد، والفساد يعمّ.

وعندما طفح الكيل، هبّت الجماهير تعلن غضبها، فماذا كان رد سيد القوم.؟

أول ما فعل أن عطلّ شبكات الاتصالات الهاتفية الداخلية والخارجية، وأوقف "الإنترنت" والمواقع الاتصالية فيه، كان التوجّه أن ينفّذ جرائم القتل والقمع والاعتقال في ظلام ليل، وهو يحسب أن العالم لن يشهد وقائع الأحداث المبيّتة، ثم أعطى الأوامر إلى زبانية السلطة كي يقوموا بواجب القمع، بلا رحمة، نزل الأمن المركزي بالهراوات، والأقنعة، وبنادق إطلاق قنابل الغاز، والبطش كي "كما يفعل دائماً" يربي الناس، لكنه أمام الجحافل البشرية التي كانت تتكاثر دقيقة بعد دقيقة، لم يجد من مفرّ غير استلام أوامر من سيد القصر الجمهوري بتشديد القمع إلى درجة إطلاق رصاص مطاطي وحيّ، تارة في الهواء، وتارة على الرؤوس والصدور، وتارة بإطلاق كميات كبيرة من قنابل الغاز كي توقع أكبر عدد من الناس صرعى أو مشلولين.

صمدت الجماهير في اليوم الأول والثاني والثالث، واستقطبت من كان وجلاً للنزول إلى الشارع، وتلاحمت الجماهير بشكل غير مسبوق، كسروا حاجز الخوف والرهبة، وصمدوا.. تصدّوا بصدورهم العارية لبطش الأمن المركزي، وعسكر الشرطة السريّين في الأقسام.

بدأت أعداد الشهداء تتصاعد، وأعداد الجرحى تتضاعف، وسيد القصر الجمهوري يتابع، بلا مبالاة، وباحتقار واستهانة، وهو يعزف لحن نيرون، على قيثارة أملٍ خائب.

ألم يكن قادراً على حقن دماء الشعب المصري.؟

لماذا لم يخرج إلى الناس ويلبي مطالبهم الحقّة منذ أول الأحداث.؟

لماذا يسكت، ويتجاهل، ويتسهين، بل يواصل التفرّج على سقوط الأبرياء بين قتلى، وجرحى، ومفقودين، أولئك الذين خرجوا للتعبير عن وجعهم وآلامهم وظلمهم.؟

ثم يجنح إلى الطامة الأكبر، ليخلق في مصر، في مدن مصر كلها، فوضى عجيبة غريبة عندما أخرج في عتمة ليل قوات الأمن جميعها من الشوارع والأمكنة، حتى شرطة تنظيم المرور، حتى في الأقسام المتخصصة في المحافظة على أمن الناس وقمع الجريمة، وترك الشوارع، والأحياء، والمؤسسات، وتراث مصر فارغاً من كل نظام وتنظيم وأمن وأمان.

أليست جريمة موصوفة، عن سبق تعمّد وتصوّر، ولغاية القتل والإذلال الجماعي، وهي جريمة غير مسبوقة بحق الشعب.؟

وعندما كلّف عملاءه السريّين العبث بأمن الناس وأرزاقهم، وإحراق المؤسسات، وتعميم ثقافة فوضى في البلد مفتوحة على تدمير كل شيء، وأعطاهم ممارسة الدور العلني الذي كانوا، وخلال ثلاثين سنة، يمارسونه سرّاً وخفية على الشعب المصري، وأفلَت لهم العنان كي يعيثوا فساداً وتخريباً مباشراً على ناس وممتلكات المصريين.

فتح أبواب السجون، وأطلق عتاة المجرمين، أعطاهم السلاح كي تنتشر فوضى تعمل على هلاك الناس كي يبقى وزبانيته على سدّة الحكم، وعلى رقاب الناس، وخادماً لأسياده الغرباء الأعداء.

القتل يتصاعد، والفوضى عامّة، وسيد القصر الجمهوري ما يزال يعزف على قيثارة الأمنيات.

أي رئيس هذا.؟ بل أي إنسان يملك ذرّة من مشاعر المواطنة يرضى أن يفتك في قومه على هذه الصورة.؟

وكيف يتسلّط على رقاب العباد ثلاثين سنة، وهو لا يحمل لهم شعرة من وفاء ولا تقدير ولا قيمة.؟

وأيّ بطانة هذه التي ترضى أن تكون شريكة كاملة في عملية القتل الجماعي.؟

ألم يكن سيد القصر الجمهوري المتصابي قادراً على حقن دماء المصريين، ولو كان على حساب تنحيه عن السلطة، وتغيير النظام للصالح الوطني والقومي العام.؟

من يدّعي أنه يحمل هموم الناس، ويقود مسيرتهم، من المفترض أن يكون الأكثر حرصاً على حياتهم، وأن يلبي رغباتهم المعلنة الواضحة المصممة، ولو كان في تنحيه عن كرسي الحكم.

لكنه صمّ أذنيه، وأوغل في دماء الشعب، حتى أوشك أن يغرق في لجاجته.

ستة أيام والناس في هياج وصمود، أفلت الأمن من كل جانب فنظّمت الجماهير الحد الأدنى من تفعيل حماية لبيوتهم وأنفسهم وأعراضهم.

ونيرون مصر ما يزال في عناده.

مصر تحترق الآن، فهل يمكن لأحد مهما بلغت درجة أنانيته وتسلّطه أن يواصل العزف والنار تكاد تلتهم كل شيء في مصر.؟

وماذا بعد.؟

هل يبقى نيرون مصر على كرسيّ السلطة.؟

هل يستطيع هو ومن حوله أن يتحمّل أوزار ما فعل وأوغل وقتل وشرّد وظلم واستباح.؟

نيرون مصر.. يحرِقُها. ويحرص أن لا يخرج على الناس إلا وهو بكامل زينته، شعر مصبوغ بتأن، ومساحيق تغطي سطوح العفن، وهيكل طاعن، لم يعد أمامه أكثر من خطوات حتى تتلقفه حفرة، ستصير إلى مزبلة، كما المزابل التي تهيأت لكلّ الذين سبقوه عبر التاريخ على المسار ذاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى