السبت ٥ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

رحلة بلاد الخُلْف

حدثني أبو ضياء، قال:

في ذات صباح ربيعي غائم، طلعت علينا الشمس من الغرب فخرجنا جميعا لنتجادل في ظاهرة الشروق الغريب هذه، وكانت بحق شمسا مخيفة بسبب خيوط ضوئها الأرجوانية القاتمة، وبالبرودة التي نشرتها على بلدنا غرباتيا عوض الضوء الحقيقي والدفء. وقال واحد منا:[الشمس أخلفت شروقها] وسأل آخر:[هل يمكن للشمس أن تخلف الميعاد؟]. فسار هذا السؤال يتردد في عقلي كما صدى في وادي. وعمّتني حيرة. وما هدَّأ منها الجوابُ الفني الذي قدَّمه لنا أستاذي أبو جنان، حيث قال:[الشمس الساطعة ليست هي الشمس التي عهدنا وإنما هي ظل للشمس] وكان يعني أنها انعكاس لشمس لم تسطع بعد في سماء الجهة الأخرى من المعمور. وفي الليل، بزغ في سمائنا قمر مربع الشكل. وتساءلنا:[هل يمكن للكواكب والنجوم أن تغير شكلها وأن تخلف وعدها بالظهور؟] وفي يوم الغد، تلبّدت سماؤنا بأسراب من الغربان البيض، فتساءلنا:[هل يمكن للغربان أن تتنكر لحقيقة ألوانها القاتمة؟] وعند الزوال، اختفت الظلال والشمس في كبد السماء؛ وتساءلنا:[هل يمكن للظلال أن تنفصل عن أجسامها؟] واستمرت تلك الظواهر المحيرة أسبوعا كاملا ونحن من سؤال إلى سؤال، حتى انتهى القول إلى أستاذي أبي جنان:[متى يتكرر السؤال، يتوجّبُ الرحيل]. لكن إلى أي بلد؟ فهزَّ كتفيه عنّي وانصرف. وفي ما أنا مراجع لرحلاتي وللبلدان التي زرت، تجلى لي الجواب:[ إذن هي الرحلة إلى بلاد الخلف] فسرتُ إلى مركبي وبه إلى ظهر موج البحر الأول، رأساً إلى ساحل أمنستان في ليل ذي شمس محرقة ورياح. فها أنا في البلد المكروه لديّ، أتحاشى أناسَه الآليين الباردين، ثم في بلاد الكبريت الذي جزته بالحيلة، ثم في روجيا المستهترة، فقطعةً من بلاد الكامبودج المضحكين، وأخيرا في البلد المرام. وكان أن رأيت أناسه شبه بعض:أناس قِصار مهلوكون لا تميٍّزُ فيهم بين الرجل والمرأة أو الشيخ والطفل؛ يعملون في الحقول كالعبيد ويأكلون من أتربتها الخبيزى والسلق ودرنات البطاطس الصغيرة والقرع الأصفر الخامج، ثم في الليل، يركنون إلى بيوت واطئة جدّا كما لو كانوا من الصراصير. ليتناسلوا كمثلها في الظلام والصمت والخوف. وفي الصباح تطلع عليهم شمس ملوثة وكئيبة فيقفون لها ويتغنون بجمالها الخالص (في نظرهم) ثم يتوجهون بغالا بغالا إلى حقول الذل والأجرة البخسة، ليعملوا فيها حتى غروب تلك الشمس الغريبة وشروق قمرٍ منقوص شاحب ؛ فيسجدون له كما لو كان إلها، ويشرعون في ترتيل أدعية تمجده وتُمَجِّد الشمس التي أعطته من نورها المريض. وما كانوا ليتكلّموا مع غريب مثلي، لأن الكلام محضور عليهم. منعتهم منه طبقة من الأعيان المستبدين القائمين على شؤونهم. حيث علمتُ من واحدة منهم سِرَّ ما هم عليه من سوء الحال. وكان أن راقبتُهم في عملهم الذليل، فسمعنا نقر طبول قوي يخلع القلوب، فقاموا مما كانوا فيه قومة رجل واحد وراحوا يهتفون:[المجد لحاكمنا!] والرعب يملأ عيونهم. فالتفتُّ إلى يمين الطريق فرأيتُ موكبا رهيبا تتقدمه رؤوسٌ معلَّقة على أطراف عصي خيزران. ولقد كانت بحق أقوى إشارات القمع في ذلك البلد، ولكن الناس لا يقدرون على قول ما يدور بخاطرهم، ولذلك أجبروا أنفسهم على العمل والعبودية وتقبل الأجر الزهيد والعيش الذليل. ولمّا قابلتني الرؤوس المقطوعة سمعتُ بعضها يقول:[نحن بخير على كل حال!] وحزَّ في نفسي أنهم لا يستنكرون ما هم فيه، وأن يمجدوا غير الله، وأن يعبِّروا بعكس ما يفكرون فيه، وأن يستمروا في الخوف حتى وهُمْ موات. فتقدم مني أحد من حملة الرؤوس وقال لي:[ما لك لا تمجِّد؟] فقلتُ له :[أنا غريب عن البلد] فنخسني برمحه وقال:[كن غريبا أو ابن البلد، فلا بدَّ لك من أن تمجِّد]. فقلت:[المجد له!] فتركني إلى حالي وانصرف بموكبه ليرهب به عبيدا آخرين في ورشات أخرى. ولم يكن ليفهم قصد شعاري. فخرجت من الحقل امرأة شمطاء، ودبَّت نحوي كعنكبوت وقالت بلكنة العجائز:[تعال معي إلى بيتي فأخبرك بالسِّر]. فرافقتها في دبيبها حتى بلغنا بيتها الحقير. وأوصدت الباب من خلفنا. وقدّمت لي شراب الضيافة. فها هي تسلخ جلدها وتتحول إلى امرأة جميلة . فقالت لي:[أنت في بلاد الخُلْف وهذا يعني أن ما تراه وتسمعه غير ما تراه وتسمعه]. ولم أشأ أن أسألها إذ لا فائدة في تكرار الكلام إذا لاح المعنى. فالطفل الذي في فمه قطعة سكر مسروقة ويخاف من الضرب، لا يملك أن يقول للذي يخاف منه إلا:[أنا لم أشرق الشكر]. وبتُّ والمرأة العجوز اليافعة ليلة كلها صمت حتى اقترب النهار من الطلوع. فقالت لي:[كل شيء يَهاب الحاكم، حتى الشمس والقمر]. فما تمالكتُ وسألتُها:[و أنت؟ ألا تهابينه؟]. فردَّت:[لو لم أكن أهابه لما تنكرتُ في صورة حيزبون].
ـ والأطفال؟ سألتها. فقالت:
ـ الأطفال يُربّون هم الآخرون على قول ما لا يفكرون فيه حقيقة.
فبقيتُ ليلتي أفكر في أمر هذا البلد الرهيب.

(هل أقدر أن أعيش فيه ليوم وليلة؟). وكأنّ الجميلة علمت بما أسررتُ لنفسي فقالت لي:[لا يمكن لأي أحد يحترم إنسانيته أن يعيش ليوم وليلة في هذا البلد]. وذرفت دمعة، فقمتُ لأحضنها بين ذراعيَّ. فقالت:[جميع أهلي قُطِّعت رؤوسهم كما شاهدتَ في الحقل، وإني أفكر دوما في الهجرة إلى أيّ ِ بلد] فقلتُ لها:[هل تأتين معي إلى بلدي غرباتيا؟... فهناك حرية العيش والتعبير ولا أحد يستعبد أحدا؟]. فقالت:[لنذهب قبل طلوع الشمس المريضة!]. وهذا ما تمَّ بالفعل؛ إذ وجدتنا ضياؤها الداكنة الباردة، ونحن على الحدود سألتها عن اسمها وهل سبق لها أن عشقت أحدا؛ فقالت:[اسمي وفاء ولم يسبق لي أن عشقت عبدا من قبل]. فسرتُ معها في القول والموج وأنا أسأل وهي لا تجيب إلا بما يعني أنها راغبة في بلوغ البلد الذي فيه العدل ولو كلَّفها ذلك، الغرق في البحر.

وسرنا وسرنا تتقاذفنا أمواج البحر الأول إلى بعض وتجعلنا نتعانق بالرغم من أنفسنا اتقاءً للسقوط في اليمّ، حتى إذا ما شارفنا جزيرتنا غرباتيا و تأكد لها الخلاص، تخطَّت عوارض مركبي وحاولتْ تقبيلي. ولكني صددتها برفق وقلتُ لها:[سوف تعيشين بخير بيننا، ولكن لي صديقة في اسمك وأنا أهفو لها؟] فضمَّتني إلى صدر مالح وقالت لي:]إن ما يهمني هو التحرر، وأنا لا تهمني أمور القلوب، فلو عشتَ مثلي ثلاثين سنة من الاضطهاد والخوف لما بقي لك أن تعشق سوى الحرية]. فزعزعتني قولتها عن كل ما اعتقدته في مسألة الحب. وقلتُ:[فإذا قلتُ لكِ إني أحبك؟] فقالت:[لا حبَّ إلا للحب الأول... أنت تحب وفاء وأنا لستُ هي وإنما أنا امرأة تجرَّعتِ الذل والمهانة ولا أليق بك]. وكانت على حقّ؛ فلا امرأة نستطيع حبَّها إذا ما ألفت الخضوع والذل للأسياد. وفي المرفأ، استقبلتنا ـ و يا لها من صدفة ـ الصديقة وفاء، كاتبة الكتب عن الإنسان والجغرافيا والتاريخ. فما إن حططتُ رجلي على أرض غرباتيا، حتى شنفتني بقبلة محمومة أمام محمولتي وفاء، وكان ذلك والله من كيد النساء. ولكنه كيد جميل. فقلتُ لها:
ـ هذه أختٌ لنا، فاعتني بها جازاك الله بالحريّة.

فعانقتها وقالت:

 مرحباً بك أيّتُها الغربة في بلدِك الجديد ـ القديم غُرْباتيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى