الخميس ١٧ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم مصطفى أدمين

رحلة تاوزغا

حدثني أبو ضياء؛ قال:

في منتصف سنة 840 استفاق سكان غرباتيا على سرب من طير النُّقاد المنتمي لعائلة الشرشوريات ذات المناقير القوية القادرة على تكسير ثمار الصُّوان. وقد غطت عينَ الشمس لأجل أن نفرح بظاهرة (القُسوف) المفارقة لظاهرتي الكسوف والخسوف الطبيعيتين. ذلك لأن هاتين الأخيرتين، لا تنتجان إلا متعةَ اختفاء الشمس الطاغية أو القمر المتستِّر، لبعض من الوقت، في حين أن الأولى يتبعها جامُّ النفع للبلد؛ فتحطُّ طيور النُّقاد في ليل النهار لتمحي من حياتنا سائر الأزبال والنفايات وتنظف شوارعنا وبيوتنا وحتى لغتنا من شوائب الكلام. والأجمل من هذا وذاك أن تلك الطيور العزيزة، تنظِّف قلوبنا من الأحاسيس السلبية كالغيرة والحسد والطمع بسلوكها الجميل؛ حيث الإخلاص فيها لبني ريشها. ولما ترحل، تترك الأرض مكسوة بحبوب طلع الصُّوان الذهبي، فتزدهر البلاد وتعمُّه فرحةٌ لا مثيل لها. ولو أتانا ـ مثلا ـ سرب من الغربان الجشعة، لعمَّ البلدَ السواد والحزنُ والقنوط... وكُنّا نعرف أن تلك الطيور ما أتت إلا من بلاد (تاوزغا) وكانت هذه على مرمى إشارة من إصبع من جزيرتنا غرباتيا. فقلتُ لأستاذي أبي جنان:[تعبتُ من الرحيل إلى بعيد وها قد أتتنا رسالة من تاوزغا فبما ذا تنصحني؟] فما قال شيئا وإنما هزَّ كتفيه بما يعني [تدبَّر أمرك!] وأقفل علي الباب. فتدحرجتُ إلى الشاطئ في جوٍّ من الصفرة الذهبية، وركبتُ مركبي رأسا إلى البلد القريب من بلدنا، رأساً إلى استكشاف معالمه الخفية. فوجدتني فيه بعد عقد بحرية مريحة. (تاوزغا) بلدٌ جبلي تكسوه غابة الصُّوان إلا منطقته الساحلية، فهي مكسوة برمال ناعمة وحرارة دافئة على مدار السنة. وكنت أتوقّع رؤية العسس على حدوده، لكن هذه مشرعة لكل زائر على ما يبدو.

ووقفتُ بالمدخل للحظة تأمَّلتُ من خلالها الشاطئ الذهبي المتزوج بخيط سهل مخضرٍّ؛ و لم يكن في الأفق أحد. فاستخرجتُ من جيب سترتي مستنسخا قديما للرحالة الإدريسي الغرباتي لأقرأ ما كتبه عن زيارته لتاوزغا:[... الناس فيه كالجنِّ؛ يظهرون أو يختفون من حيث لا تتوقَّع. ولهم سمة المرح وخصيصة المداعبة وغرابة السلوك والقدرة على المتاجرة في كل شيء، وفن بيع ما لا يباع. وإني أكاد أقسم أن التاوزغاويين لا يموتون أبدا. وهذا عائد إلى زيت الصُّوان الذي يجعلون منه غذاءهم الأساس...] كتب الإدريسي. فما انتهيتُ من القراءة حتى داهمني جمهور منهم بالعزف على الربابات والنقر على حديد الإطارت والدقٍّ على الطبول. فهاجموني بالحبٍّ والترحيب حتى أنني دختُ من حسن ضيافتهم لي وندمتُ على عدم اصطحاب صديقتي وفاء معي لكي تتمتَّع بكرم شعب تاوزغا. فكانت منهم لعبة اعتبرتها سخيفة ولكن ذات مغزى؛ حيث رفعوني عاليا حتى شارفت على العلا ثم خبطوني على الأرض وراحوا يتفكهون مني بلغتهم الغريبة. وأنا فيهم بالقلق والتوجس ولكن كبيرهم ـ

و قد كان رجلا صغيرا وذا جلباب قصير وتواضع ـ قال لي:[التاريخ يقول إننا شعب مضياف و نحب كل غريب، وهذا قول خراف من ناحية مّا لأن الوافدين على بلدنا لا يفهموننا إلا من منظور حسن ضيافتنا لهم فيعتبروننا شعبا ضعيفا ويسعون للسيطرة علينا] وكعادتي في زيارة البلدان، استأذنتُ الحاكم في استكشاف سوق العاصمة، فأذن لي. ورحتُ أتجوّل فيه؛ فاحزِرْ ماذا رأيت أيها الصاحب القديم؟ رأيت واحدا منهم يبيع رجلا أصلع تماما، مشطا لصلعته، وآخر يُكَوْغِدُ فرشاة أسنان لأدرد، وثالث يتسلم النقود من كسيح عن زوج من الأحذية، ورابع باع امرأة أوقية من الكلام الفارغ، وآخر علَّب شيئا من الشمس والماء لزائر غرٍّ، فقِسْ على هذه الأمور الخارقة ما شئت من قياس، ولا تخف من ألا يصدقك الناس إن حكيتَ لهم عن شعب تاوزغا! ومن فرط حبهم لتلك التجارة، جعلوا من حوانيتهم مساكن لهم، فتراهم فيها من الفجر حتى الفجر لا يبرحونها إلا وُقيتات للاقتيات و للتفكه من بعضهم. وكان أغرب ما رأيت، شيخا في زُقيق من السوق ماسكاً ب (لا شيء) وراح يصقله بشيء لم أتبينه ثم نفخ فيه، وباعه بالدراهم المرئية لامرأة من غرب المعمور. لكن الدراهم، سرعان ما اختفت بين يديه، فذهب إلى صقل (لا شيء) آخر. والنساء رأيتهن يجلسن لحومات لحومات على الأحجار في خلوات يسمونها حدائق، وما فيها إلا الحجر والبعر ولا شجر ولا مقاعد محترمة، والماعز يأتيهن ليتغذى بين أرجلهن على القمامة. والأطفال رأيتهم يلعبون ب (لا شيء) هم الآخرون، ويتسلقون الشجر الميت كما الماعز يفعل، ويسقطون من عليه فتتكسر عظامهم، ويبقون في مكانهم حتى تتجبرالعظام. وكثير من الداعرات يحترفن الرّصيف آتيات من مختلف بلدان المعمور لأجل الاسترزاق في تاوزغا. وكنَّ في ذلك يقدمن للمحرومين بطاقات تخصصاتهن في فنِّ العطاء. وكثير من الخمارات للزائرين، وكثير من المساجد لأجل سعادة الجميع. ولما أنقضت زيارتي للسوق والشارع والفندق والكورنيش، حملتني سيارة إلى قصر الحاكم؛ فكان أن دخلتُ على جمهور من الناس المبتسمين المستبقين للطرافة. فقال لي واحد منهم:(أزول) فقلتُ له:بل لا تزُل وابق حيث أنت! فضحكوا والحاكم. وقال ثان(ما يـْسْكـَرْ؟) فرددتُ عليه:السكر من عنده يعطيه لمن يشاء. فكركروا كثيرا حتى استلقوا على ظهورهم. وتقدم مني الحاكم وفي يده واحد مبتسم وقال:[بالله عليك اصفعه!] فلم أشأ أن أفعل ما يغضب مضيفي، ولكن الحاكم أكَّد عليَّ، فصفعتُ ذاك المسكين على مضض وراح الحاضرون كلهم يتمرغون على السجاد من الضحك. وكان هذا ما يحبون:أن يتفكهوا من بعضهم وأن يحتقروا بعضهم البعض. وجاءت قينة بصينية شراب فشربنا مما جاءت به بُعيد صلاة العشاء، وراحت تغني لنا تحت إيقاع رتيب معاد. والكل فرحان، والحاكم سعيد بالتكرار. وفي نشوة ما قال لي:[نحن لا نفتح أبدا أذرعنا للغزاة] فقلتُ له:أنا لستُ غازيا، وإنما رحّالة يُحب استكشاف المجهول. وأنا تلميذ لأبي جنان تلميذ الرحالة الإدريسي الغرباتي، وكلّنا في همِّ الرحلات سواء.فأعجبه قولي فقال:[رِدْ ما تشاء!] ولم أكن لأشاء غير الذي تكلمتُ لك عنه؛ فأنا مستكشف، وحبي أن أقول ما رأيت. فسألته عن طيور النقاد وعن ثمار الصُّوان فقال لي :[تلك الطيور تكثر علينا بالنقد فنضربها لكي ترحل عنّا، والصُّوان منه الزيت الذي يعطينا الصحة وروح الدعابة وطول العمر] . وبقيتُ فيهم أياما أستكنه سلوكهم الغريب فاستأذنت الحاكم لأجل الانصراف فأذن لي. ولكني عرجتُ على مطعم سمك بالساحل فأكلت منه الطري، و خضتُ في حديث مع نصراني من غرب المعمور فقال لي:[ هنا الشمس لا تغيب و الناس جميل] فهتف في داخلي هاتف أن سحر تاوزغا هو الكرم، وأن العيب فيهم هو روح الدعابة والكرم وهذا من الأمور المستعصية على الفهم.

فعدت للحاكم لأسأله من جديد عن طيور النُّقاد التي هاجمت ـ بالخير ـ بلدي غرباتيا. فقال لي:[نحن لا نحب أن تفرش الطيور عوراتنا] وسكت.

فما كان مني إلا أن استقللتُ مركبي في الساحل وعدتُ إلى بلدي عبر الموج.

ياه! في غرباتيا، الناس لا يتفكهون من الناس، ونحن نرحب بكل طير ناقد، ولا يهمنا ما يقوله فينا، لأننا نعرف من نحن.

وأنت أيها القارئ الحزين؛

ـ هل تعرف من أنت؟

ـ نعم ؟

ـ لا حول و لا قوّةَ إلاَّ بالله... ومرحبا بك في بلدك الجديد؛ غُرْبالتْيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى