الخميس ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم أنمار رحمة الله

ليلة ٌ ضاعَ فيها الرغيف

الذاكرة ُ مرفأ الخيالات، يعصفُ بحرُها تارة، ويستكينُ، يقلّبُ الماضي على راحتيها، الأوجاع َ /الأماني َ/البكاء َ/الشعورَ التائه في عالم ٍ أثيري عميق. فمن الصعب ِ مصارحة ُ الذات، والأشدّ صعوبة الاسترسال في عدم ِ نكران ِ الواقع. وخصوصا ً إن من تخصّه ُ الحكاية ُ رجلا ً ستينـيا ً يـودّع ُ زمنا ً غابرا ً، ويمارسُ الحياة َ في بساطة ٍ مألوفة ٍ لعمره ِ الأبيض. الشتاء ُ يعانق المساء َ ناثرا ً على المدينة الساكنة قبلا ً باردة. كنت طفلا ً أراه كالباقين قرب المدفئة، يتصفـّحُ كتابا ً أوصحيفة ً أويعتكِفُ كناسك ٍ يُرسلُ أنظاراً بعيدة ً من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة. كنت ُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافيا ً بكاءَهُ عن الكبار ومسترسلا ً في دموعِه أمامي غير آبه، بحكم ِ أني صغير وغير مكترث ٍ لدموع ِ رجل ٍ عجوز، وهوالآخر ينظرُ لي النظرة َ ذاتها من دون ِ اكتراث.

مازلتُ اذكرُ صوته البعيد، وارتعاشَ يده ِ الشائخة. سألني ليلتها عن حال ِ المدرسة وهموم المذاكرة، أجبته وكفي اليمنى تخط ُّ على الورقة خطوطا ً لا اعرفُ مغزاها، سوى أن الحركة َ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعة:

 بخير.

صمت برهة ً فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي :-

 جدي . . جدي. . لماذا تبكي . ؟؟!

أشرقتْ ابتسامة ٌ على وجههِ المتعب، ثم ربّتَ على كتفي . اعتدلتُ في جلستي وبدأت أطالعُ قسماتِ وجههِ وهويزفرُ تأوها ً على الماضي الذي أشرقَ في كلامِهِ كشمس ٍ خجــولة ٍ قائـلا ًً:
بني أنها قصة ٌ من الماضي البعيد تطاردني دوما ً..

فتوسّـلتُ إليه راجيا ً أن يقـصّها لي، فما هي إلا ثواني وانفرجتْ الستارة ُ في مسـرح ِ الـذّاكرة معلنة ً هي الأخرى تأوهات ٍ خفية ٍ في اللاشعور حيثُ استطردَ قائلا ً:

 حين كنت ُ شابا ً وكان علي لزاما ً أن أكملَ خدمتي الوطنية، تعلـّقتُ بصديق ٍ حنون ٍ لي في تلك المحنة .

قاطعته ُ مستفسرا ًعن اسم صديقه فأجاب:

 لايهمنا اسمه.. فالأسماء لوحات رخام تخفي تحتها قبور الأرواح) لم افهم قصده في تلك اللحظة فتركته يكملُ حديثه قائلا ً:

كان صباحنا يعلنُ بداية َ يوم ٍشتائي جديد، وكانتْ الطيور تحلـّق ُ من فوق ِ كتيبتنا الباردة، تطالعُ في نـَهَم ٍ تدريباتنا الصباحية الرتيبة، نقفز. . ونتمرن. . ونهرول. . غير آبهين بالبرد، كنا متحابين تجمعنا شفافية ُ الوئام والحب والصفاء. . كنت ُ وإياهُ بمنأى عن الباقين . . فقط ْأنا وهو، نأكلُ وننام ُ ونحكي وقتَ الغروبِ حكايات ٍ عن مدننا وقرانا البعيدة، فتارة ً يحكي لي عن حب ٍ أرّقه ُ، وتارة ً أحكي له مشاعري وحكايات حب انتهتْ يوما ً ولم تفلح ْ. كانتْ حياتنا سعيدة ً برغم ِ تعاسة ِ المكان. . وتكالب ِ الهموم ِ الوطنية التي جمعتنا في معتقل ِ الرتابة والواجب.

اعتدلتُ في جلستي بعد أن رَعدتْ السماء، نظرت إلى وجه جدي الخافت مستفسرا ً في استغراب:

 ولكن يا جدي ما هوالذي يبكيك في هذه الحكاية.؟؟

وضع الرجل العجوز نظارته على الطاولة المجاورة، ثم دلك عينيه بهدوء وقال:

 مرتْ علينا ذاتَ شهر ٍ أيام ُ جوع ٍ وقحط ٍ شديد، بسبب ِ بعد ِ موقعنا البائس، وتكالبُ الطـقس ِ علينا قطع المدّ من معونة ٍ وإعاشة ٍ دورية، وتكفـّلَ الشتاء ُ بالباقي . . حين أذابَ ما أخفيناه من طعام ٍ وشحوم ٍ وعزيمة ٍ زجاجية، وبعد أيام ظهرتْ بوادرُ الخير حين لاحتْ لأعيننا مركبة ُ الإعاشة من بعيد، عادتْ كـ (سانت كلوز) محملة ً بالهداية للجائعين . في يومها لم تسعنا الفرحة، لقد كنـّا على مشارف ِ الموت ِ نتيجة َ السغب، قلت لصديقي العزيز سوف نأكل حتى نموت من الشبع) ضحك َ صديقي طويلا ً وحمدَ الله َ بوجودي معه في محنته الأخيرة، وصلتْ المركبة ُ المتهرئة ُ إلى باب ِ الكتيبة ِ اليتيمة، ثم أغلـق َالسائـقُ باب َ المركبة بقوة ٍ، وسـلم َ على الموجودين، قاصدا ً مقرّ الإعاشة، ومبلغا ً أن ما بحوزتهِ أرغـفة َ خـبز ٍ لا أكثرْ، صُعـِقَ الجميع ُ بهذا الخبر ِ القاتل، وتنازلَ بعضُهم عن قيمه ِ الكبرى كافرا ً بكل ِ مقدس ٍ في الوجود، واستغفرَ بعضُهم ربَه صابرا ً على ما ألمَّ بنا من ضـيم ٍ ومـرار، وأنا وصديقي كنا متفرجين على مهزلة ِ الجوع ِ الأزلية، لا نعرفُ هل نبكي. ؟؟ أم نضحكُ حتى الموت؟!.

وزِعِـتْ أرغفة ُ الخبز ِ حيث ُ أخذ َ الآمرون َ حصتهم المألوفة، ومن ثم تم توزيع ُ الباقي على من له ُ يد ٌ طويلة ٌ ولسان ٌ يفتكُ بالأعراف ِ والأخلاق ِ الحميدة، وأنا وصديقي الجائع نتفرجُ كطفلين ِ على واقعة ِ الجوع. همسَ صديقي في أُذني . . سوفَ اجلبُ لنا رغيفين ِ كي نتعشى بهما) هرولَ إليهم مسرعا ً عله يخطفُ قرصَ رغيف ٍ بائس، أنا لم أفعلْ شيء سوى رجوعي إلى مقر ِ نومي منتظرا ً الموتَ أووصول َ قافلة ِ للإمداد مِن جديد. عاد َ صديقي مبتسما ًوبحوزته قرصُ رغيف ٍ واحد، جلسَ قربي وهويحكي قصة َ مغامرتِهِ للحصول ِ على الجائزة، ومصارعة ِ الباقين لخطفِ دواء ٍ يُخرِسُ صوتَ الجوع ِ في غابة ِ أحشائنا المظلمة. وضع َ الرغيفَ أمامي طالبا ً مني الأكل . . فرفضتُ معلنا صبري على الم ِ الجوع، عاطفا ً على صديقي الجائع، فقرصُ رغيف ٍ واحد لا يكفي لرجلين . توسّلَ بي أن أشاطره فرفضتُ مجددا ً، وأخبرته إني سوف احصلُ أيضا على قرص ِ رغيف ٍ آخر، ثم خرجت ُ عله في خروجي جدوى . تركته وحيدا ً فـَرِحـا ً بالنصر، فلمْ نحاربْ في تلكَ الكتيبة عدوا ً إلا الجوع، وقد هـَزمَنا شرَ هزيمة.

عدتُّ إليه خالي اليدين، سألني في استغراب . . هل حصلت على شيء. ؟؟ فأجبته . . بنعم ولم اخبره أني مهزوما ًرجعت إلى مثواي التعيس، سألني. . . ولكن أين رغيفك.؟؟ أجبته بسرعة . . لقد أكلته في الطريق).

خيم َ الليلُ وشيكا ً خافيا ً تحتَ لحافـِهِ أنـّات ٍ متفرقة ٍ لبعض ِ الجائعين، مثلي طبعا ً لم يفلحوا بالوصول إلى بغيتهم، صديقي أخفى رغيفه في حقيبته البسيطة، ثم توجه للصلاة شاكرا ً ربَه على ديمومة ِالحياة، كنت ُ أراقبه عن كثب، فقد أوصاني أن لا أفارقَ الحقيبة، وخصوصا ً أن فيها بعضَ ما يملكُ من أشياء، وعلى رأسها رغيفُ الخبز الثمين.

أكملَ صلاته وشكرني على صبري، ثم توجهت أنا بدوري إلى خارج ِ المكان لقضاء بعض الأشياء، وإذا بصوت ِ صديقي يعلومن داخل القاعة، رجعت راكضا ً إليه . . ماذا حصل . . ؟؟ ماذا حصل.؟؟ سألته في عجل ٍ فأخبرني أن رغيفه سُرق، سألتـُهُ هل رأيتَ أحدا ً أخذه .؟؟ قال . . لا لم أرَ أحدا ً قربَ الحقيبة) . بدأ صديقي يسأل الباقين، يستحلفُ هذا. . . ويقسم على هذا. . هل من احد أخذ قرصي الوحيد) يصيح بصوت ٍ عال ٍ، بدأ يفقدُ أعصابَه /يشتم/يبصق /يلعن الذي سرقَ رغيفه، والكلُ في صمت ٍ نائمون . . مستسلمون للجوع ِ والقدر. سألته هل وضعته في مكان آخر .؟؟ أجابني بـ( لا . . لا) .

رجعَ صديقي إلى فراشِه مستلما ً هوالآخر للجوع، وغط ّ في نومِه كعصفور ٍ مبلل ٍ خائـف، في تلك الليلة الكلُ نام َ في هدوء، إلا إنا بقيتُ ساهرا ً حتى الصباح أرقـُبُ أسرابا ً من الملائكة تهبط ُ على قاعة ِ المنام، حاملة ً روح َ صديقي العزيز إلى عالم ٍ أنقرضَ فيه الجوع والحسد والأنانية، لم اعرفْ ليلتها هل رحل بسبب الجوع .؟؟. . . الألم.؟؟ أم الضياع. .؟؟. نعم سهرت ُ ليلتها وأصبحتُ بلا صديق. . بلا رفيق. . بلا رغيف جديد، أطفئ به سغبي، واهربُ به إلى عالم ِ الخلاص. وهانا ذا جائع ٌ إلى ألان بعد رحيل ِ ذاك الصديق، لم يشبعني رغيف العالم كله، ومصيري أن أظل جائع إلى صديق حنون . . وقرص رغيف.

توقف جدي عن الكلام سارحا ً في عالم ٍ بعيد، فانبريت له سائلا ًبفضول ٍ شديد:
 ولكن . . ولكن يا جدي هل عرفت من سرقَ قطعة َ الرغيف. .؟؟

هزّ رأسه واثقا ً وأشارَ إلى صدره بحزن ٍ عميق، وتكلـّمَ في استحياء ِ الأطفال متمتما ً:

...أناالذاكرة ُ مرفأ الخيالات، يعصفُ بحرُها تارة، ويستكينُ، يقلّبُ الماضي على راحتيها، الأوجاع َ /الأماني َ/البكاء َ/الشعورَ التائه في عالم ٍ أثيري عميق. فمن الصعب ِ مصارحة ُ الذات، والأشدّ صعوبة الاسترسال في عدم ِ نكران ِ الواقع. وخصوصا ً إن من تخصّه ُ الحكاية ُ رجلا ً ستينـيا ً يـودّع ُ زمنا ً غابرا ً، ويمارسُ الحياة َ في بساطة ٍ مألوفة ٍ لعمره ِ الأبيض. الشتاء ُ يعانق المساء َ ناثرا ً على المدينة الساكنة قبلا ً باردة. كنت طفلا ً أراه كالباقين قرب المدفئة، يتصفـّحُ كتابا ً أوصحيفة ً أويعتكِفُ كناسك ٍ يُرسلُ أنظاراً بعيدة ً من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة. كنت ُ أراقبه عن كثب حين يبكي من دون سبب، خافيا ً بكاءَهُ عن الكبار ومسترسلا ً في دموعِه أمامي غير آبه، بحكم ِ أني صغير وغير مكترث ٍ لدموع ِ رجل ٍ عجوز، وهوالآخر ينظرُ لي النظرة َ ذاتها من دون ِ اكتراث.

مازلتُ اذكرُ صوته البعيد، وارتعاشَ يده ِ الشائخة. . سألني ليلتها عن حال ِ المدرسة وهموم المذاكرة، أجبته وكفي اليمنى تخط ُّ على الورقة خطوطا ً لا اعرفُ مغزاها، سوى أن الحركة َ كانتْ تحولُ بين عيني ّ وعينيه اللامعة :

 بخير.

صمت برهة ً فانتبه إلى نظارته وقد تلطختْ بدمعهِ المترقرق فأنزلها ماسحا ً زجاجها القديم وأرجعها ثانية ً فعاجلته حينها بشغف طفولي:

 جدي . . جدي. . لماذا تبكي.؟؟!

أشرقتْ ابتسامة ٌ على وجههِ المتعب، ثم ربّتَ على كتفي . اعتدلتُ في جلستي وبدأت أطالعُ قسماتِ وجههِ وهويزفرُ تأوها ً على الماضي الذي أشرقَ في كلامِهِ كشمس ٍ خجــولة ٍ قائـلا ًً:
بني أنها قصة ٌ من الماضي البعيد تطاردني دوما ً. .

فتوسّـلتُ إليه راجيا ً أن يقـصّها لي، فما هي إلا ثواني وانفرجتْ الستارة ُ في مسـرح ِ الـذّاكرة معلنة ً هي الأخرى تأوهات ٍ خفية ٍ في اللاشعور حيثُ استطردَ قائلا ً:

 حين كنت ُ شابا ً وكان علي لزاما ً أن أكملَ خدمتي الوطنية، تعلـّقتُ بصديق ٍ حنون ٍ لي في تلك المحنة .

قاطعته ُ مستفسرا ًعن اسم صديقه فأجاب:

 لايهمنا اسمه . . فالأسماء لوحات رخام تخفي تحتها قبور الأرواح) لم افهم قصده في تلك اللحظة فتركته يكملُ حديثه قائلا ً:

كان صباحنا يعلنُ بداية َ يوم ٍشتائي جديد، وكانتْ الطيور تحلـّق ُ من فوق ِ كتيبتنا الباردة، تطالعُ في نـَهَم ٍ تدريباتنا الصباحية الرتيبة، نقفز. . ونتمرن. . ونهرول. . غير آبهين بالبرد، كنا متحابين تجمعنا شفافية ُ الوئام والحب والصفاء. . كنت ُ وإياهُ بمنأى عن الباقين . . فقط ْأنا وهو، نأكلُ وننام ُ ونحكي وقتَ الغروبِ حكايات ٍ عن مدننا وقرانا البعيدة، فتارة ً يحكي لي عن حب ٍ أرّقه ُ، وتارة ً أحكي له مشاعري وحكايات حب انتهتْ يوما ً ولم تفلح ْ. كانتْ حياتنا سعيدة ً برغم ِ تعاسة ِ المكان. . وتكالب ِ الهموم ِ الوطنية التي جمعتنا في معتقل ِ الرتابة والواجب.

اعتدلتُ في جلستي بعد أن رَعدتْ السماء، نظرت إلى وجه جدي الخافت مستفسرا ً في استغراب:

 ولكن يا جدي ما هوالذي يبكيك في هذه الحكاية.؟؟

وضع الرجل العجوز نظارته على الطاولة المجاورة، ثم دلك عينيه بهدوء وقال:

 مرتْ علينا ذاتَ شهر ٍ أيام ُ جوع ٍ وقحط ٍ شديد، بسبب ِ بعد ِ موقعنا البائس، وتكالبُ الطـقس ِ علينا قطع المدّ من معونة ٍ وإعاشة ٍ دورية، وتكفـّلَ الشتاء ُ بالباقي . . حين أذابَ ما أخفيناه من طعام ٍ وشحوم ٍ وعزيمة ٍ زجاجية، وبعد أيام ظهرتْ بوادرُ الخير حين لاحتْ لأعيننا مركبة ُ الإعاشة من بعيد، عادتْ كـ (سانت كلوز) محملة ً بالهداية للجائعين . في يومها لم تسعنا الفرحة، لقد كنـّا على مشارف ِ الموت ِ نتيجة َ السغب، قلت لصديقي العزيز سوف نأكل حتى نموت من الشبع) ضحك َ صديقي طويلا ً وحمدَ الله َ بوجودي معه في محنته الأخيرة، وصلتْ المركبة ُ المتهرئة ُ إلى باب ِ الكتيبة ِ اليتيمة، ثم أغلـق َالسائـقُ باب َ المركبة بقوة ٍ، وسـلم َ على الموجودين، قاصدا ً مقرّ الإعاشة، ومبلغا ً أن ما بحوزتهِ أرغـفة َ خـبز ٍ لا أكثرْ، صُعـِقَ الجميع ُ بهذا الخبر ِ القاتل، وتنازلَ بعضُهم عن قيمه ِ الكبرى كافرا ً بكل ِ مقدس ٍ في الوجود، واستغفرَ بعضُهم ربَه صابرا ً على ما ألمَّ بنا من ضـيم ٍ ومـرار، وأنا وصديقي كنا متفرجين على مهزلة ِ الجوع ِ الأزلية، لا نعرفُ هل نبكي. ؟؟ أم نضحكُ حتى الموت؟!.

وزِعِـتْ أرغفة ُ الخبز ِ حيث ُ أخذ َ الآمرون َ حصتهم المألوفة، ومن ثم تم توزيع ُ الباقي على من له ُ يد ٌ طويلة ٌ ولسان ٌ يفتكُ بالأعراف ِ والأخلاق ِ الحميدة، وأنا وصديقي الجائع نتفرجُ كطفلين ِ على واقعة ِ الجوع. همسَ صديقي في أُذني . . سوفَ اجلبُ لنا رغيفين ِ كي نتعشى بهما) هرولَ إليهم مسرعا ً عله يخطفُ قرصَ رغيف ٍ بائس، أنا لم أفعلْ شيء سوى رجوعي إلى مقر ِ نومي منتظرا ً الموتَ أووصول َ قافلة ِ للإمداد مِن جديد. عاد َ صديقي مبتسما ًوبحوزته قرصُ رغيف ٍ واحد، جلسَ قربي وهويحكي قصة َ مغامرتِهِ للحصول ِ على الجائزة، ومصارعة ِ الباقين لخطفِ دواء ٍ يُخرِسُ صوتَ الجوع ِ في غابة ِ أحشائنا المظلمة. وضع َ الرغيفَ أمامي طالبا ً مني الأكل . . فرفضتُ معلنا صبري على الم ِ الجوع، عاطفا ً على صديقي الجائع، فقرصُ رغيف ٍ واحد لا يكفي لرجلين . توسّلَ بي أن أشاطره فرفضتُ مجددا ً، وأخبرته إني سوف احصلُ أيضا على قرص ِ رغيف ٍ آخر، ثم خرجت ُ عله في خروجي جدوى . تركته وحيدا ً فـَرِحـا ً بالنصر، فلمْ نحاربْ في تلكَ الكتيبة عدوا ً إلا الجوع، وقد هـَزمَنا شرَ هزيمة.

عدتُّ إليه خالي اليدين، سألني في استغراب . . هل حصلت على شيء. ؟؟ فأجبته . . بنعم ولم اخبره أني مهزوما ًرجعت إلى مثواي التعيس، سألني. . . ولكن أين رغيفك. ؟؟ أجبته بسرعة . . لقد أكلته في الطريق).

خيم َ الليلُ وشيكا ً خافيا ً تحتَ لحافـِهِ أنـّات ٍ متفرقة ٍ لبعض ِ الجائعين، مثلي طبعا ً لم يفلحوا بالوصول إلى بغيتهم، صديقي أخفى رغيفه في حقيبته البسيطة، ثم توجه للصلاة شاكرا ً ربَه على ديمومة ِالحياة، كنت ُ أراقبه عن كثب، فقد أوصاني أن لا أفارقَ الحقيبة، وخصوصا ً أن فيها بعضَ ما يملكُ من أشياء، وعلى رأسها رغيفُ الخبز الثمين.

أكملَ صلاته وشكرني على صبري، ثم توجهت أنا بدوري إلى خارج ِ المكان لقضاء بعض الأشياء، وإذا بصوت ِ صديقي يعلومن داخل القاعة، رجعت راكضا ً إليه . . ماذا حصل . . ؟؟ماذا حصل. ؟؟سألته في عجل ٍ فأخبرني أن رغيفه سُرق، سألتـُهُ هل رأيتَ أحدا ً أخذه . ؟؟قال . . لا لم أرَ أحدا ً قربَ الحقيبة) . بدأ صديقي يسأل الباقين، يستحلفُ هذا. . . ويقسم على هذا. . هل من احد أخذ قرصي الوحيد) يصيح بصوت ٍ عال ٍ، بدأ يفقدُ أعصابَه /يشتم/يبصق /يلعن الذي سرقَ رغيفه، والكلُ في صمت ٍ نائمون . . مستسلمون للجوع ِ والقدر. سألته هل وضعته في مكان آخر . ؟؟ أجابني بـ( لا . . لا) .

رجعَ صديقي إلى فراشِه مستلما ً هوالآخر للجوع، وغط ّ في نومِه كعصفور ٍ مبلل ٍ خائـف، في تلك الليلة الكلُ نام َ في هدوء، إلا إنا بقيتُ ساهرا ً حتى الصباح أرقـُبُ أسرابا ً من الملائكة تهبط ُ على قاعة ِ المنام، حاملة ً روح َ صديقي العزيز إلى عالم ٍ أنقرضَ فيه الجوع والحسد والأنانية، لم اعرفْ ليلتها هل رحل بسبب الجوع . ؟؟. . . الألم. ؟؟ أم الضياع. . ؟؟ . نعم سهرت ُ ليلتها وأصبحتُ بلا صديق. . بلا رفيق. . بلا رغيف جديد، أطفئ به سغبي، واهربُ به إلى عالم ِ الخلاص. وهانا ذا جائع ٌ إلى ألان بعد رحيل ِ ذاك الصديق، لم يشبعني رغيف العالم كله، ومصيري أن أظل جائع إلى صديق حنون . . وقرص رغيف.

توقف جدي عن الكلام سارحا ً في عالم ٍ بعيد، فانبريت له سائلا ًبفضول ٍ شديد:
 ولكن . . ولكن يا جدي هل عرفت من سرقَ قطعة َ الرغيف. .؟؟

هزّ رأسه واثقا ً وأشارَ إلى صدره بحزن ٍ عميق، وتكلـّمَ في استحياء ِ الأطفال متمتما ً:

. . . . أنا


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى