الخميس ٢٤ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم موسى حوامده

خطاب الديكتاتور الأخير

القذافي ليس معتوهاً، ولا مجنوناً، إنه يسطر أروع اللحظات في تاريخ الحكام الثوريين، وهو يعطي الانطباع الأكيد بأن التاريخ يصنعه المجانين، وإلا فما الذي جد في خطابه؟ لقد برزت عبقرية الرجل مفكراًَ طليعياً بارزاً في (كتابه الأخضر) الذي احتوى التفاهات والعجب العجاب، وحينما تفتح أي صفحة من صفحات هذا الكتاب تجد سيلاً من الغثيان؛ خذوا، مثلاً، ما يقوله عن الفرق بين الرجل والمرأة:

المرأة تجوع وتعطش كما يجوع الرجل ويعطش..

والمرأة تحيا وتموت كما يحيا الرجل ويموت.

ولكن لماذا رجل ولماذا امرأة؟

أجل. فالمجتمع الإنساني ليس رجالاً فقط، وليس نساء فقط فهو رجال ونساء.. أي رجل وامرأة بالطبيعة..
لماذا لم يُخلق رجال فقط.. ولماذا لم يُخلًق نساء فقط..

ثم ما الفرق بين الرجال والنساء، أي بين الرجل والمرأة؟

لماذا الخليقة اقتضت خلق رجل وامرأة؟

إنه بوجود رجل وامرأة وليس رجل فقط أو امرأة فقط.

لا بد أن ثمة ضرورة طبيعية لوجود رجل وامرأة وليس رجل أو امرأة فقط..

إذاً كل واحد منهما ليس هو الآخر،
إذاً، هناك فرق طبيعي بين الرجل والمرأة، والدليل عليه وجود رجل وامرأة بالخليقة.."

المرأة أنثى، والرجل ذكر..

والمرأة طبقاً لذلك يقول طبيب أمراض النساء (إنها تحيض أو تمرض كل شهر، والرجل لا يحيض، لكونه ذكراً فهو لا يمرض شهريا «بالعادة». وهذا المرض الدوري، أي كل شهر هو نزيف.. أي أن المرأة لكونها أنثى تتعرض طبيعياً لمرض نزيف كل شهر.

لا يمكن، طبعاً، أن ندرج كل الترهات الساذجة التي ساقها المؤلف العبقري، والتي اكشتفها بنفسه، ومن دون واسطة أو مراجع أو مصادر لبحثه المعمق!

هذا الكتاب الذي كان يسميه العقيد والمقربون والنقاد من حوله (النظرية العالمية الثالثة)، ظناً من العقيد أن الكتاب لا بد أن يدرس في الجامعات، ويتم تداوله بين المثقفين والكتاب، ولربما كان يطمح لنيل نوبل من ورائه! ألم يحصل تشرشل على نوبل في الآداب؟

وقد ترجم «الكتاب الأخضر» إلى عدة من لغات عالمية، وكان القذافي يدفع الملايين لتسويق نظريته وترويجها وطباعة الكتاب وتوزيع هذا الكلام التافه مجاناً، والذي كان يتداول بسخرية عجيبة، لكن المفكر العبقري لم يكن يسمع إلا الإطراء على كتابه، ولم يقل له أحد ممن حوله: هذا لا يليق بمتخلف عقلياً، ولا خارج من مستشفى الأمراض العقلية، فهو مجرد ثغاء لا طائل من ورائه، وهو كلام رجل أمي يكتشف الحياة فجأة، وكأنه سيعود إلى كوكب عطارد أو المريخ، ويخبر الناس هناك عما رآى فوق الكرة الأرضية، وهو أشبه بقصصه القصيرة التي طبعت منها مئات الطبعات، وأقيمت حولها الندوات، ودعي لها العديد من الكتاب العرب، وتحدثوا حول الإبداع المتجسد في هذه الكتب.

أما العبقرية التي كانت تتجسد في الزعيم، فهي طريقته في إلقاء كلماته، خلال مؤتمرات القمة العربية، حينما كان يقف ويرتجل الخطابات الهزلية، ولكن لم يكن يتجرأ أحد من القادة الموجودين، أو رؤساء تلك القمم، ليقول له: صه يا معتوه، أو توقف، فإنك تهذي أو تتصرف كمجنون، وكان ذلك ينسحب عليه في خطاباته المطولة في المؤتمرات التي يعقدها في ليبيا، وفي الخيمة التي يتواضع ويقابل الناس فيها.
لذلك فإن خطابه الأخير ليس مفاجئاً، فهو منسجم تماماً معه، ومع عقليته، وطريقة تفكيره، ولكن لعل العالم انتبه اليوم لحجم الدم المليء في الخطاب، وحجم الجنون، فلم يسبق أن خاطب حاكم شعبه بهذه الطريقة الحقيرة؛ لم يسبق أن قال حاكم لشعبه: يا مقملين يا جرذان، الله يلعنكم، اللعنة علكيم، سأحرقكم حرقاً، سأحرقكم في كل زنقة وبيت، وشارع، سأقتلكم قتلاً وحرقاً، إن لم تسجدوا لي، وتنصاعوا لرغبتي وحكمي، إلخ تلك التهديدات المرعبة.

هذا خطاب سيدخل التاريخ، فلا الخيال المسرحي، ولا الفانتازيا الأدبية ولا السوريالية ولا الواقعية السحرية، وصلت إلى هذا الرعب المخيف والكلمات الدموية والتهديد والوعيد والجنون، ولم يسبق لكل شياطين الأرض أن تفوهوا بمثل هذه الدموية والحقد والكراهية.

أيها العالم، أيها البشر، يا مجلس الأمن، أيتها الجامعة العربية، يا هيئة الأمم المتحدة، يا رجال المافيا، يا صعاليك الأرض، يا شياطين الكون، أوقفوا هذا الرجل عند خطابه الأخير، فهو دليل دامغ على معاناة شعبه طيلة اثنتين وأربعين سنة!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى