الثلاثاء ١٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم إلياس خوري

تأملات في شقاء العرب

لا تكمن أهمية كتاب سمير قصير: تأملات في شقاء العرب ، (صدرت ترجمته عن دار النهار ) في غياب مؤلفه، الذي اغتيل في الثاني من حزيران عام 2005، في بيروت. غير ان الموت اضفي طابع الوصية على نص اراده صاحبه تأسيسيا. هنا تقع مفارقة العلاقة بين كتابة التاريخ وصناعته. سمير قصير كان يبحث عن بداية تواصل الفكر التنويري الذي صنعته النهضة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فقاده الشقاء العربي الى نهايته المأساوية.

انها مفارقة الانتقال من الديكتاتورية الى الديمقراطية، التي يمر بها المشرق العربي وسط تعقيدات كبرى، وبحار من الدم والمآسي، تمتد من فلسطين الى العراق، مرورا بلبنان وسورية.

سمير قصير، الصحافي والمؤرخ والأكاديمي والمناضل في صفوف اليسار الديمقراطي، قضى اغتيالا، وهو يصوغ شعارات انتفاضة الاستقلال اللبنانية، ويمارس دوره كمثقف نقدي، وكمناضل عرف ان الفكر يستطيع ان يتحول سلاحا ديمقراطيا في مواجهة نظام بوليسي ـ مافيوي، وان المواجهة في ساحة الحرية في بيروت، اختزنت احتمالات الحرية في لبنان وسورية وفلسطين.

مؤرخ بيروت، الفلسطيني الأصل، رأى في انتفاضة الاستقلال اللبنانية اطارا لترجمة افتراضات هذا الكتاب على ارض الواقع. لكن رافع شعار ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت، وجد نفسه ضحية الشقاء العربي. قتل المثقفين العرب وتهديدهم وادخالهم السجون وطردهم الى المنافي، هو احدى علامات هذا الشقاء، التي وسمت الحياة الثقافية العربية منذ ثمانينات القرن الماضي. وكان قدر من حاول مقاومة هذا الشقاء بالكلمة، ان تكون حياته القصيرة هي الثمن.

يحمل هذا الكتاب ـ البيان، قوة الوصية ورؤيوية البداية. في هذا المزج التراجيدي بين النهاية الفردية والبداية الجماعية، يلخّص سمير قصير مقتربه لنهضة عربية جديدة، تدافع عن الحداثة، وتعيد قراءة الثقافة العربية المعاصرة بروح نقدية جديدة.

يمكن تحديد هذا المقترب بثلاثة عناصر:

1 ـ اعادة تقويم عصر النهضة العربية، عبر وضعه في سياق بحث العالم العربي الخارج من الهيمنة العثمانية الطويلة، عن الاستقلال والحداثة والحرية. هذه القيم الثلاث صنعت نهضة لغوية وفكرية، ميزتها الانفتاح على عصر الأنوار الاوروبي من جهة، واعادة النظر في الموروث الثقافي العربي من جهة ثانية.

2 ـ تحليل الشقاء العربي في وصفه ابنا للعجز. غير ان قصير لا يسقط في المقولتين الجاهزتين، المقولة الاستشراقية التي ترى العجز متأصلا في الاسلام والثقافة العربية، والمقولة الثانية التي تنسب هذا العجز الى الآخر الغربي في شكل مطلق، بل يقدم تحليلا عميقا لاجهاض الحداثة العربية، الذي يعود الى اسباب متعددة ترتبط بالجواب الانقلابي العربي القاصر، وبالمواجهات غير المتكافئة التي فرضت على العالم العربي.

3 ـ رفض ثقافة الموت والدعوة الى ثقافة الحياة، عبر تعددية ثقافية وسياسية تشكل بداية الرد علي الشقاء. ترتبط هذه التعددية بفكرة الحداثة. فالشقاء ليس نتيجة الحداثة بل نتيجة اجهاضها. الحداثة العربية التي احدثت انقلابا كبيرا في الحياة والثقافة كانت وليدة الفكر النهضوي. اما النكوص الذي تجلّي في هزيمة الخامس من حزيران 1967، فقاد الى استفحال الديكتاتورية، وتجذر وجهها الآخر المتمثل في المشروع الأصولي.

علي الرغم مما في بعدي الوصية والبداية من تناقض ظاهري فإنهما يؤشران الى اللحظة السياسية والفكرية المعقدة التي يعيشها العالم العربي اليوم.

الوصية، التي تعيد رسم صورة المثقف في وصفه ضميرا متحررا من كل التزام سوي التزام الحرية والدفاع عن الحقيقة مثلما يراها.

والبداية، التي وضعت عناوين كبرى، تدعونا الى متابعتها واستكمالها، لأنها يجب ان تكون حصاد عمل ثقافي ـ تاريخي، يعمل من اجل كسر دائرة الشقاء العربي.

كاتب افتتاحيات جريدة النهار ومؤرخ بيروت والحرب الأهلية اللبنانية، اجتمعا كي يقدما رؤية جديدة للثقافة العربية، تجمع التماعة الصحافي الى دقة المؤرخ، وشغف المناضل الى عقلانية الأكاديمي.

ينتمي هذا الكتاب الى سلالة الكتابة النهضوية العربية، التي جمعت العمل الصحافي الى الكتابة العلمية. وقدمت صورة لمثقف يعي دروس التاريخ، ويعمل من اجل التغيير، ويمارس الى جانب دوره الفكري، دور القائد الميداني يوم انطلاق اكبر تظاهرة شعبية في تاريخ بيروت في الرابع عشر من آذار 2005.

لذا يشعر القارئ انه امام صرخة من اجل الحرية والديمقراطية، يطلقها صحافي يعيش الحدث، ويبلورها مؤرخ يصنع الذاكرة. وفي هذا الجمع يعلن سمير قصير فرادته. وهي فرادة مرتبطة بعمق انتمائه الى بيروت، التي لم تكن فقط مركز التحدي في مشروع الحداثة العربية، بل هي المدينة التي قاومت الحصار الاسرائيلي وصنعت افق حريتها في مواجهته، ثم استكملت هذا الافق عبر انتفاضتها ضد هيمنة النظام الأمني السوري ـ اللبناني المشترك، فاتحةً بذلك افق دمج مقاومة الاحتلال بالنضال من اجل الديمقراطية.

في الفصل الخامس من هذا الكتاب، وفي اطار تحليله محاولات اجهاض الحداثة العربية، اشار قصير الى انكفاء بيروت بعد الحصار الاسرائيلي عام 1982، متبنيا مقولة بعض الادباء في اعتباره الحد الذي انتهت عنده مغامرة النهضة.

كان من الطبيعي للمثقف الذي يسعي الى استعادة روح النهضة والحداثة، ان ينخرط في النضال الكبير الذي صنعته بيروت في انتفاضتها الاستقلالية التي اندلعت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.

غير ان المفكر الذي رفض ايديولوجيا الضحية في الثقافة العربية، وناضل كي تصنع بيروت حريتها وفرحها، واجه قدر الضحية، وقتل في انفجار ارهابي اراد اخراس صوته، واطفاء بريق الحياة في عينيه.

هذه هي علامة الشقاء العربي الكبري. ان يُقتل الصحافي والكاتب بتهمة الحرية!

عن القدس العربي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى