الأربعاء ٢ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

حظيرة الحياة ..

مذ كان صغيرا يتساءل لماذا يعاب على الحمار نهيقه؟ بينما كل الأصوات الأخرى لا تعاب، كثيرا ما سأل نفسه؟؟ متى ما أراد فك الحمار من العربة وإبعاد اللجام عن فمه، تعود قبلها أن يرفق بالحمار من خلال محادثته عن سبب كونه حمار لا يفقه شيئا، وطالما هز رأسه الحمار وذيله إلى عامر، متى ما أمسك بأذنيه وكأنه يشدها معاقبا إياه على عدم الحديث معه، عملت خبايا غرائز بداخل الحمار تخبره إلى متى تظل تستمع إلى أسئلة هذا العامر دون أن تعطيه جوابا ناجعا؟ عفط فجأة وهز رأسا حط عليه ذباب يحمل مجسات وخز، كأنها تشعره أن عليه الانتباه، فالمسألة تخص عالم الحمير برمته، لذا وجب الدفاع عن وجهة نظرهم، وفق سياقات بشرية، طالما انتهزها الإنسان عاملا لمتغيرات سلوك، عبر طبائع مكتسبة، فلا ضير أن يتعلم الإنسان من الحمار صفات قد تنفعه، في مجريات عمر وأحداث،

كما أن الإنسان بحد ذاته مخلوق دنيوي، فطر على عدم الرضا بما خلق عليه، ويبحث دوما عن التغير، لذا تراه يلبس أقنعة عديدة، لعله يظفر بما يُمَكِنه لأن يكون وجها معروفا، رغم استعارته لذلك الوجه من الآخرين في بيئة الحياة الملونة، عملت هواجس وتساؤلات في غرائزه وحاول النطق، إلا أن نهيقا عال وحركات لا إرادية رافقت ذلك النهيق، أصمت أذني عامر فلجم لسانه عن التساؤل، فهمس: يا لك من حمار فعلا! لا بل أنا الحمار، وإلا كيف لي أن أحدثك، ربما شفقتي عليك وكثرة معاشرتي لك قلبت الموازين، وأمسيت أتحول إلى حمار، فظللت أفكر في مجريات حياتك، كما أني فعلا بعض الأحيان اشتاق إلى رائحة هذه الحظيرة، وكلام بيني وبينك، فكثير من الأحيان أيضا لا أجد لذة في خلوتي إلا هنا.. معك،

وتساءلت كثيرا لم هذه الرغبة في البقاء بعيدا عن عالم الإنسان، واللجوء إلى عالم الحيوان، لا أدري ربما للسكينة والإحساس بإنسانيتي؟ لا تستغرب لذلك، كما أني غالبا ما أرى العديد من الناس لديهم حيوانات أليفة، وتكون في بعض من الأحيان أهم شيء لديهم في الحياة، وتورث ولها من الخدم والحشم الكثير، للاعتناء بها في كل ناحية من نواحي الحياة، هكذا أنت بالنسبة لي حيواني الأليف الذي اقدره وأحبه، واعتز بالعيش معه، ألا ترى أن وجهة نظري صحيحة، فالعشرة معك هي التي أثرت على سلوكِ، فألفيت أفكر في عالمك وكيف تكون الحياة فيه، رغم إدراكي انك حمار، ولكنك خُلقت لسبب؟؟ أهو العمل؟ ام إكمال فصيلة لجنس معينة خلقها الله؟

لاشك أن لك مهمة كبيرة وإلا ما ذكرك الله في كتابه العزيز، ربما قبح صوتك وجميع الأصوات التي تتشبه بك، وما أكثرها يا صديقي في الوقت الحاضر، وإلا ماذا تظن سبب تخلفنا حتى الآن؟ سوى إننا نتشدق بأصواتنا العالية، عبر خطب وكلمات لاكتها الأيام حتى أمست علكة بالية لا يمضغها فم أو تسمعها آذان، هل أحسست هكذا في بعض الأحيان وكثرة نهيقك، انه بلا طعم أو نتيجة، فقط تنهق لتثبت أنك حمار، وإن صوتك أنكر الأصوات!! أم ترى نهيقك كما سمعت عن جدتي، انك تنهق فقط حينما تشاهد شيطان يمر من أمامك،هل هذا صحيح ها...؟ لا عليك إن قلت نعم أو لا، فأنا أصدقك، فأكثرنا الآن شياطين بشرية، كرسوم متحركة، نخترق الطبيعة لنطير أو لنصل إلى مبتغانا لمجرد الرغبة في التسلط، والإحساس بأننا غير الآخرين،

صدقني يا حمار طفولتي وصباي، أني أثمن جهودك وكسبك عيشي وقوت أهلي، قد أكون مقصرا بحقك، ولكن اعتبرني كباقي البشر، متناسيا أمرك في زمن الصعود والنزول ومتغيرات الحياة، وقد تحدثت مع العديد ممن هم في مثل عملي، فوجدت أكثرهم قد استقام تفكيره وأصبح حموريا، لا طموح فيه، وكأن رغبة الطموح انسلت من أرواحهم لتذهب بعيدا، وحتى أن بقي لهم ولي طموح فلا يتعدى سوى الرقي في الحصول والعيش مع أحصنة لا حمير، كونها أرقى منك، وهذا ما أزعجني، فبعد كل مشقتك وتعبك في البلوغ إلى ما أنا عليه أسعى لتغييرك، إذن أكون ناكرا للجميل، وإن كانت هذه الصفة يتحلى بها الحيوان والإنسان، إلا أني لا أمتلكها.. أظن ذلك،

كان الحمار في كل هذا الوقت يتحرك جيئة وذهابا، يحرك رأسه هازاً أذنيه مصفقا بها لسماع حديث عامر، وإن كان لديه بعض الاعتراضات على تصورات ومترادفات إنسانية، إلا إنها شيء على شيء يمكن أن تواءم وجهة نظرة في عالم الحمير، فهو أيضا كجمار مل سياقات حياته الروتينية، فلا يجد تغيرات تذكر فيها، حتى الطعام بات غير مستساغ عنده، فهو لم يتغير منذ عرف طحنه بأضراسه، وتساءل ماذا يريدني أن أقول له، هل أنا نفسي متمرد على طبيعتي؟ أم أنا متمرد على كونه قد تمادى على جنسه وأراد أن يشبهني بهم، فعالم الإنسان هو عالم الغاب الحقيقي، عام التقلبات السريعة ودون معايير أو مقاييس بشرية، فالإنسان عنصر متقلب، وكثيرا وغالبا ما ينقلب الى حيوان شرس ومفترس وخبيث، وحتى بليد مثلي، لكن من المستحيل أن ينقلب الحيوان إنسانا، وهذه نعمة لنا بنو الحيوان، فنحن نمتاز بعدم العقاب والثواب، لا .. لا .. ربما ننال الثواب من الخالق والمخلوق، فكثيرا من الحيوانات التي خلقها الله فيها منفعة للإنسانية، ولم أرى أن خلق الإنسان فيه منفعة للحيوان، فكل ما موجود على سطح الأرض مسخر له، ويكسب منه الفائدة، حتى الحيوانات الضارة تعود بالفائدة على الإنسان وبني جنسه بالخير،

إن تساؤلات عامر هذا، لا يمكنني الإجابة عنها، لعله تحيون من كثرة معاشرتي، ولا أدري كيف لي البقاء أو العيش مع تساؤلاته، التي باتت تؤرقني وتزعجني، فمالي وحاله وما يريد من طموح، ألا يكفي إني أكد ليل نهار في سبيل أن يعيش وأهله تحت سقف ودثار، ألا يكفيه أني لا أشتكي ظلما وجوعا وكثرة ضرب، حين مزاج متعكر، ولكن حسبي أني حمار لا أفقه ما يريد الإنسان، حتى لو بلغ السلطان وأصبح متسلط على الرقاب، لذا سأدعه يسيل لعابه وما يقص من هموم، ومن ثم أحاول أن أعيده إلى صوابه بتصرف حموري، كان في تلك الأثناء لا زال عامر يشكو ويحكي ما يعانيه كإنسان فقط، وهو الإحساس بإنسانيته، إضافة إلى الخوف من التصريح علنا بحقوقه وضياعها بين متسلطي الزمن، وباعة المفردات عبر منابر خطابة وواجهات إعلامية، دخلت تلك الكلمات إلى أذني الحمار الذي لاك حياته علفا لم يتغير مُراً علقما، هز رأسه بشدة لِيُشعِرَ محدثه أنه قد مل سرد الحكايات، عفط بشدة فلطم عامر بتفة ومخاط، معلنا له .. أنك وما تشكي كتلك التي وصلت وجهك،

إلا أن عامر معتاد على تصرفات حماره تلك، وأخذ يسترسل يشكو هما وبؤسا دون تغير حال، فنهق بصوت عال جدا كأنه يقول: هيه أنت .. لو كان بيدي الأمر لغيرت من حالي، وتركت العيش في حظيرة عدمت الحرية فيه، ولرحلت أعيش بين من هم على شاكلتي في أرض الله، ولعل الله خلقني وجعلني أحيا بينكم، حتى لا أ خجل من صوتي وكوني حمارا، فما أكثر البشر الذي يحملون صفاتي دون خجل، لا ماهيتي، فيكفيني أني بلا ذنوب او مساوئ، خارج قوس العقاب الإلهي، لذا عليك الخوض في حكاياتك بعيدا عني، فلست قادرا على هضم سيركم الذاتية، والتي تبحثون عن أنفاق للهروب منها، دون اللجوء للمواجهة، وكشف الحقيقة الإنسانية، أنكم متشدقِ أقوال، وطالبي جاه في ساحات الحياة الفانية، مُلاك السلطة والزندقة، الفقير فيكم وقودا لتدفئة ليل بارد، وغانيات الدعر ملاذ من حرارة أيام سخط، ستنال مني ما يجعلك تفيق إلى رشدك، وتعي الحياة الحقيقية، استدار بظهره إلى عامر، وضربه برجليه ضربة أطارت به إلى البعيد، ومن ثم نهق مرة أخرى وهو ينظر إلى عامر محذرا إياه من الخوض مرة أخرى في حكايا بؤس إنسان من إنسان مثله، يشكوها لحيوان أسمه الحمار في عالم الغاب الانساني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى