الأحد ١٣ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم بشير خلف

مسألة الهُويّة في الشعر الجزائري

إنّ الشعرَ فكرةٌ وعاطفةٌ وموسيقى..بغير الموسيقى لا يكون الشعرُ، ولولا الأذن ما كان الكلام، وما يتولّدُ من ارتباط المعاني، وما يندمج من ألوان الصّور، وما يتآلف من رنّات اللّفظ..ليس إلاّ هذا الكائن الفنّي المتناغم الذي نسمّيه شعْرا، وكيف لا يكون الشعر موسيقى وهي التي تجلو الإحساس، وترفع من مستوى العاطفة، وتجعل الفكرة تتسرّبُ إليك بين الكلمات، كما تتسرّبُ روح الشاعر من خلال المسافات الصامتة المرتعشة التي تجيء بين النبرات
والاهتزازات صعودا ونزولا في نصّ القصيدة.

يقول ستيفن سيندر الشاعر والناقد الإنقليزي:

« إن الشعر فنٌّ من الفنون الراقية..والفن بقدْر ما هو أداة تعبير عن هموم الإنسان، والدفاع عن قضاياه، فهو أداة اتصالٍ وتواصلٍ..كما أنه لغة الوجدان..فالشعر لصيقٌ بحياة الإنسان، وبمسيرة الإنسانية، وبمصيرها ؛ يقول أحد الشعراء.»

إذا كان الشعر فنًّا من الفنون الراقية، وهو أداة فعّالة في الدفاع عن قضايا الإنسان أينما كان، وأداة تعبير عن هموم هذا الإنسان فإن مديرية الثقافة بالوادي، وإيمانًا منها برسالة الشعر، ودوره في الحفاظ على هُويّة الأمة الجزائرية، وكذا التعبير عن قضايا الإنسان الجزائري فإنها رسمت لكل ملتقى وطني للشعر المعاصر رسالة يندرج ضمنها الملتقى، فكان الملتقى الأول الوطني للشعر الفصيح في سنة 2009 تحت عنوان:" قضايا المجتمع والتراث في المجتمع الجزائري"، كما كان الملتقى الوطني الثاني في سنة 2010 تحت عنوان:" مسألة الهُويّة في الشعر الجزائري" وملتقى هذه السنة أيام:05 ـ 07 مارس 2011 تحت عنوان:" توظيف الثقافة الإسلامية في الشعر الجزائري المعاصر" تزامنًا مع فعاليات تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية.

لقد دأب القطاع الثقافي بولاية الوادي والجمعيات الثقافية الفاعلة منذ سنوات على أن يكون التوثيق والتدوين من الإجراءات الأولى التي تعقب كل تظاهرة ثقافية: ندوات، ملتقيات، أيام دراسية، وأن تكون في إصدارات في حلّة جميلة يستفيد منها الباحثون، وتُثرى بها المكتبات، كما تبقى رصيدا للأجيال القادمة.

في هذا المجال أصدرت مديرية الثقافة بالولاية هذه الأيام، وتزامنًا مع انعقاد الملتقى الوطني الثالث للشعر الفصيح كتاب الملتقى الثاني تحت عنوان: " الشعر الفصيح..مسألة الهُويّة في الشعر الجزائري".

الكتاب في حلّة جميلة، وورق صقيل.. تحفة فنية في مستوى عالٍ. يقع في 186 صفحة من الحجم المتوسط.تصميم الغلاف للفنان التشكيلي المعروف سواسي محمد البشير.قُسّم الكتاب إلى قسميْن بعد كلمات التصدير، ووالي الولاية، ومدير الثقافة بالولاية الأستاذ حسن مرموري، فالقسم الأول للقصائد، والقسم الثاني للمحاضرات.

جاء في كلمة التصدير:

« إن نجاح الملتقى الوطني الثاني للشعر الفصيح 2010 لم يأت من قبيل المصادفة بل هو ثمرة جهد كبير وامتداد لنجاحات أخرى حققتها مديرية الثقافة بالتكاتف مع جميع الفاعلين في الحقل الثقافي وعليه فإن طبع الأعمال المقدمة في هذا الملتقى تعبر عن رغبة الإدارة في الخروج من الثقافة الشفوية إلى ثقافة التدوين والتأصيل حتى يكون هناك مرجعية ثقافية للأجيال القادمة.

جاءت الأعمال المقدمة في هذا الملتقى متفاوتة من حيث المستوى ومن حيث الموضوع فكان ذلك التنوع الذي يعبر بصدق عن أطياف المثقفين والباحثين والشعراء.
فلكم أن تلجوا هذا الفضاء مستأنسين بهؤلاء المبدعين الذين أعطوا للمشهد ثراءه وتنوعه وللكلمة حقها.

وبهذا نجد أنفسنا مجبرين على العمل من جديد كي نصل بكم من خلال الطبعة الثالثة إلى مستويات أرقى وأطروحات أثرى إن شاء الله.»

وممّا جاء في كلمة والي الولاية:

« أساتذتنا و ضيوفنا الأعزاء نرحب بكم بداية في مدينة الشعر و الأدب و في ضيافة هذا الملتقى الثاني للشعر الفصيح الذي أرادته الوادي منبرا لأهل الإبداع و الأدب و رواد الشعر و لغة الضاد في الجزائر الحبيبة

إن الوادي كانت دائما تتميز بأدبائها و شعرائها و مثقفيها و هي تفخر باحتضانها لهذه للتظاهرة الوطنية التي ستزيد الكثير لرصيدنا الإبداعي المحلي و إلى المشهد الثقافي الوطني عموما
إن اختيار موضوع الهوية الوطنية لهذا الملتقى له دلالة عميقة ترتبط بالشعور القوي بأهمية الوقوف على معالم الشخصية الوطنية و رصد أسسها لسبر أغوارها في مواجهة التطورات المتسارعة التي أثرت كثيرا على خصوصيتها الوطنية و ما لذلك من أثر على مستقبلنا و مستقبل أبنائنا و إن التطرق لمثل هذه المسائل ستضع المبدعين الشعراء في طليعة الدفاع عن الهوية الوطنية و القيم الثابتة لشعبنا و تسلحهم و تسلحنا بالزاد الإبداعي من اجل خدمة قضايا الوطن و الحفاظ على سؤدده.»

مدير الثقافة الأستاذ حسن مرموري والذي كان الحريص الأول على ترسيخ ملتقى الشعر بالولاية، كان دقيقا في كلمته حيث حدّد أهداف الملتقى، وتثمين الملتقى الذي سبقه:
« ها نحن نجتمع اليوم للمرة الثانية حول الشعر و الأدب العربي لنبحث مرة أخرى في جانب من جوانبه و لقد جاء ذلك كما تعلمون بعد الهجمة الهمجية الجريئة التي تعرضت لها كل رموزنا و قيمنا الحضارية و التاريخية و لذلك فإن اختيار شعار "مسألة الهوية في الشعر الجزائري"هي طريقة حضارية لدحض كل الافتراءات و الإدعاءات الزائفة حول هويتنا و تراثنا لاسيما الأدبي و الذي لم يكن وليد الأمس فقط بل هو امتداد لقرون عديدة و تراكم لمعارف كثيرة،و التي بلغ تأثيرها كل أقطار العالم.

أيها السادة و السيدات:

« إضافة إلى الأهداف السابقة فان ملتقانا هذا يصبو إلى ترقية الأدب في شقه الشعر و تشجيع الإبداع فيه لذلك حاولنا جاهدين في هذه الطبعة الثانية أن نركز على النوعية سواء ما تعلق بالمداخلات أو الأشعار هذا إلى جانب فتح الباب واسعا للتنافس في المسابقة التي أقيمت خصيصا لهذا الملتقى و التي شهدت إقبالا كبيرا كما و نوعا،و كما تلاحظون تميزت هذه الطبعة أيضا بوجود معرض للكتاب الأكبر من نوعه في ولاية الوادي،هذا من جهة و من جهة أخرى يكفينا فقط مجرد اللقاء الذي يجمع كبار أدباء الوطن من مختلف الجهات لتبادل الأفكار و الخبرات و إفادتنا بملاحظاتهم و توصياتهم المهمة لتوفير و عمل كل ما هو مناسب لتحقيق الأهداف المرجوة من التظاهرة.»

القسم الأول

في هذا القسم 32 قصيدة لشعراء من ولاية الوادي، سطيف، باتنة، الجلفة،تلمسان، تمنراست،الجزائر، تيسّة، تمنراست،برج بوعرريج، قسنطينة.

القسم الثاني

يضمّ هذا القسم المحاضرات اللستّ التي ركّزت على قيمة الهُويّة في الشعر الجزائري وهي:
سؤال الهوية من الوعي الجمعي إلى الذات الفردية الشاعرة للدكتور أحمد زغب ولاية الوادي، الهوية الوطنية في شعر مفدي زكرياء للأستاذة/ سعدون فاطمة ولاية سطيف، الشّعر الجزائري الحديث و المعاصر أزمة هويّة و انتماء، أم أزمة قارئ للأستاذ مصرني أمين ولاية تلمسان، الثوابت الوطنية في الشعر الجزائري الحديث والمعاصر للأستاذ شبرو عبد الكريم ولاية الوادي، دلالة الاتصال وصور الانتماء عند الشاعر"عثمان لوصيف"للأستاذ أحمد بقار ولاية ورقلة، الوطنيـــة ودورهـــا في ظهــور الشعر الجزائري الحديث للدكتور محمد قماري ولاية الجزائر.

القصائد

القصائد التي جاءت في القسم الأول أغلبها قصائد عمودية علمًا أن أغلب الشعراء من جيل الشباب والذين تلقّوْا تعليمًا جامعيًّا، وتخرجوا من الأقسام الأدبية، كما أن عددا ممّن يكبرونهم سنّا وخبرة وتجربة هم أساتذة في الجامعة، ومرحلتي الثانوي والمتوسط..القصائد تراوحت ما بين الجيّد، وما بين المتوسط من حيث توظيف اللغة في إطار معاصر، وكذا كثافة الصّور الشعرية، والتضمين الأسطوري، والتعبير عن قضايا العصر، ومعاناة الشعب الفلسطيني سيّما مأساة الإنسان الفلسطيني في قطاع غزّة..قصائد عدة تميزت بفضاء شعري رحب، تتداعى فيه الصور المنسجمة الجميلة،وعذوبة الإيقاع الموسيقي.

هذا الشاعر لزهر محمودي من الوادي يتغنّى بالأم الحنون في قصيد بعنوان " إلى امرأة تلدني كل يوم:

يا وجهها المنزاح بين الشمس والقمــــــــر
يا حبها المسكوب بـين العـيـن والـــنظـــــــر
يشتاقنــي سبيــا ليعـــــزفنــي علــى وتــــــر
لحنا يسعـــر فــي دمـي نــارا بـــــلا شـــرر
أنشودة نشـوى بهمس المــاء للشجـــــــــر
يا جرحي الممدود منسابـا علــى أثـــــــري
وجها ألملمه مـع الأوراق فـي سفــــــــــري
يجتاحنـي كالوجـــد كالأمـــواج كالكبــــر

شاعر الوادي المعروف السعيد المثردي يسائل أهله في عالم العروبة عن النخوة العربية التي ضاعت، وضيّعت معها المجد والسؤدد، وعمّا إذا كانت هذه النخوة ستعود يومًا( ونقول له هاهي عادت في أيامنا هذه) وبلد الشهداء وفية وما خيّبت الظن، فالنخوة باقية، ودم العروبة يسري في أبنائها مجرى النيل ووادي الرافدين:

أطلي شمسنا الخجلى و شقي و عدي في سماء الألف ألفا
فدون الألف كم طاولت مجدا و بعد الألف هل أدركت سرا
فما سر الحقيقة في "أمكني" أيا "نيل الكنانة"هل ستروي
بأنا قبل ربعــــــــــــكما كتبنا وأنا الثابتون على ضفـــاف
و أنا الزارعون نماء بـــــر زمان السطح يا بيضاء ولى
"لوادي الرافدين"غدا جوابا بملحمة الطعام هنا..كـــــتابا
من التاريخ تستل الخطابـــا تضوع في سنى الدنيا انقلابا

مدينة تلمسان من خلال شاعرها الفذ بغداد سايح يتغنّى بالوطن، وبأمجاده التاريخية في قصيد بعنوان " حلم أخضر":

بلادٌ لحنها نبضٌ أصـــيـــــــــلٌ كعطرِ الزنبقاتِ يسيلُ هــــــمساً
و بعضُ النبضِ أنغامٌ حيـارى جزائرُ روضُ وجدٍ حينَ يمشي
تذوبُ الأمنياتُ على يـــــــديهِ وتُغفي الذكرياتُ بمقــــــــلتيهِ
بأرضِ الطّهرِ تقطُرُ وشوشاتٌ همُ الشهداءُ يهواهُـمْ تـــــــرابٌ
و في دمهمْ لغاتُ العشقِ تنمو وتحبو المفرداتُ إلى عـــــيونٍ
و تُغمدُ نظرةُ الأوراسِ لــــيلاً شموسُ الذّودِ تحضنها لحـــودٌ
و أنفاسُ الشهيدِ تضيءُ طيناً عليهِ العُشبُ يسري بربــــــريّـاً
كــــوجهٍ في ربى التاريخِ عنهُ يُــطاولُ بالعيونِ الخُضرِ حُلْماً
أمازيغُ العلا شُهُبُ الحنـــــايا مآذنُ منْ رمادِ القــــهرِ قامتْ

وهذا الشاعر المعروف زبير دردوخ في قصيد بعنوان" نهر الطفولة..و القصيد..الإهداء: إلى الطفل

الذي كُنتُ.. في عيد ميلاده.."
وطُفُولَتي عرشِي.. وَتَاجُ مَــوَدَّتِي
وَنعِيمُ أَزْمِنَتِي.. وَشَايُ سَعَــــادَتِي
وَنَقَاءُ رُوحِي.. وَانْسِجَامُ سَرِيرَتِي
وَتَدَفُّقُ الأَلْوَانِ في زَهَرَاتِــــــــــهَا
وَأنَا أُخَبِّئُ فِي الخَيَاَلِ مُرُوجَــــــهَا
لِي صَهْوَتاَنِ.. قَصِيدَتِي وطفُولَتِي
فَرَسَا رِهَانٍ.. يَرْكُضَانِ بِــــدَاخِلِي
يَتَعَانَقاَنِ.. ويَعْشَقَانِ.. ويــَنْفُراَنِ
فَرَسَانِ يَسْتَبِقَانِ أَجْنِحَةَ الـــــرُّؤَى
يَتَقَارَبَانِ وَيَبْعَدَانِ بِخَــاطِـــــــــرِي
عُصْفُورَتَانِ منَ الحَـنِينِ تُغــاَزِلاَنِ
تَتَأَرْجَحَانِ نَقَاوَةً وَشَــقَـــــــــــاوَةً
وأنَا الحرائِقُ والجَدَاوِلُ فِي فَــمي
نَهْرَانِ يَخْتَصِمانِ.. في مَجْراهُما
الطِّفـــــــلُ يَغْفُو في سَنابلِ حُلمِهِ
ويُعِـيدُ تَمْتَمَةَ الحرُوفِ بلاَ فَــــــمٍ
لتَصِيدَ مَملَكَةَ الصِّبا أَقـــــــــْمَارُه
وأَنَا الـمُعَطَّرُ بالرُّؤَى.. فَمَصَبُّها
يَسْرِقنَ عُمْرِي مِن ضِفافِ مَسَرَّةٍ

المحاضرات

ركّزت كل هذه المحاضرات على انبثاث الهُوية بكيفية أو أخرى في الشعر الجزائري الحديث والمعاصر، وحتى في الشعر الشعبي، الدكتور أحمد زغب يرى أنْ لا هوية للذاتية الشاعرية للفرد خارج هوية الجماعة، وأن الشاعر لا يغرّد خارج سرْب الجماعة:

« عندما نتناول مسألة الهوية فإننا كثيرا ما لا نكترث بالهوية الذاتية للفرد بمعزل عن مجتمعه، إنما تنصرف الأذهان مباشرة إلى الهوية الجماعية، فالمسألة تتعلق دوما بهوية الفرد في الإطار الاجتماعي، والسبب في ذلك أن الفرد لا يكتسب هويته إلا من المجتمع الذي ينتمي إليه.
ونحن حين نتحدث عن الأدب،فإنه لا وجود لأدب يغرد في المطلق متحررا من تأثير المجتمع فيه فالشاعر الأديب الذي يدعي أنه يكتب دون أن يكترث لمن يقرأ أو لا يقرأ ما كتب إنما يغالط نفسه فعالم الخيال المشترك بين جميع البشر المتحرر من كل البيئات الاجتماعية لا وجود له لأن كل إنسان يستخدم للوصول إليه طريقا يمر حتما بوسطه وبيئته الاجتماعية والثقافية.»
الأستاذة سعدون فاطمة تؤكد على أن أطروحة الشعر الجزائري الحديث كانت أطروحة الثورة، فكان لزاما على الشعراء إظهار كلمتهم في مجابهة المستعمر، وبوصف أسس الثورة التحريرية هو إثبات الهوية الوطنية واسترجاع السيادة فكانت العناصر الثلاث لثوابت الأمة الجزائرية المنبع للعديد من القصائد الشعرية.

ومن الشعراء الذين كانوا يدافعون عن هذه الثوابت وسعوا إلى ترسيخها، شاعر الثورة مفدي زكرياء، الذي نجده يحارب بالكلمة كل ما من شأنه محو آثار هذه الهوية وطمسها. فسعى في شعره إلى التغني بالعروبة والاعتزاز بهذا الانتماء الذي كان عن طريق الدين الاسلامي، فكان الاعتزاز بالعربية اعتزازا بالإسلام كذلك.

بينما الأستاذ مصرني محمد في محاضرته الموسومة بـ " الشّعر الجزائري الحديث و المعاصر أزمة هويّة و انتماء، أم أزمة قارئ." يرى أن الهُويّة تكاد تكون مغيّبة في الشعر العربي المعاصر، ومنه الشعر الجزائري:

« إنّ الواقف على الإبداع الشّعريّ العربيّ عامّة، والجزائريّ خاصّة؛ لتواجهه مشكلةٌ باتتْ تُؤرِّق كثيراً من الباحثين، وتتمثّل في غياب الهويّة، أو في أنّها صارتْ باهتةً لا يكاد المتملّي يهتدي إليها في النّصّ الشّعريّ الحديث والمعاصر.»

الأستاذ شبرو عبد الكريم في محاضرته التي موضوعها: "الثوابت الوطنية في الشعر الجزائري الحديث والمعاصر" ينطلق من ردّ الدكتور أبو القاسم سعد الله في ردّه على الناقد هنري خوري:

« إنني يا أخي كعربي جزائري يعيش بعمق قضية وطنه أنظم الشعر ليكون تحية لثائر، أو وصفا لموقعة أو استلهاما لنكبة، أو أسطورة، أو تمجيدا لبطل رفع راية الكفاح العربي الدّامي على قمم الأطلس الشامخة وبالتالي أنظم الشعر ليكون رصاصا يخترق صدر العدو لا لوحة فنية في دار الآثار »

ويستطرد الأستاذ شبرو:

« إن الحركة الأدبية ذات صلة وثيقة بالوضع الوطني والاجتماعي والسياسي والثقافي … فقد كان الشاعر دائما ضمير الأمة، وصدى همومها وآمالها، ولسانها المعبر عن معاناتها وطموحها، داعيا إلى التمسك بالمثل العليا مناديا إلى المحافظة على ثوابت الأمة، معلنا عداءه لكل أشكال الظلم والقهر، وكل أساليب المصادرة التي تتعرض لها حرية الأفراد والأوطان.
إن الأدب كنشاط إبداعي يتشكل في شكل لغوي. ومعنى هذا أنه تجربة إنسانية للأديب المبدع تأخذ طريقها إلى الآخرين عن طريق الشكل اللغوي الذي تتشكل فيه. إن الحديث عن الثوابت الوطنية في الشعر الجزائري الحديث والمعاصر يعد أمرا قديما قدم هذا الشعر، فمنذ أن تأسست الدولة الجزائرية على يد الأمير عبد القادر الجزائري، والشعراء لم يتوقفوا لحظة عن الدعوة إلى هذه الثوابت وحث الشعوب على رفض كل أساليب المستعمر الذي أراد طمس معالم هذه الهوية العربية الإسلامية »

الأستاذ أحمد بقار في محاضرته الموسومة بــ " دلالة الاتصال وصور الانتماء عند الشاعر"عثمان لوصيف" يستند إلى مجموعة عثمان الشعرية " الكتابة بالنار" كمنارة يلج من خلالها إلى عوالم هذا الشاعر المفتون بحب ّ وطنه الجزائر.

«… فالشاعر عثمان لا يقصد أي كتابة و إنما يعني كتابة من طينة خاصة في ظل أوراقه و أقلامه إنها كتابة بدم القلب، هذا القلب الذي سكنه حب الوطن الذي أرضعه الوطنية حدثا، وكذا الحب لهذه الإنسانية الممتدة في البسيطة وهذا ما تعكسه هذه العناوين (لامية الفقراء، أناديك يا زهرة العاشقين، كلمة إلى الجرح، تجيئين يستيقظ الريح و البحر والميتون، أغنية إلى الفراشة، العناق الطويل، عودة العاشق، أطفالنا على الطريق) أو قصائد أعراس الملح: (الوردة، الجوهرة، السنابل، سيمفونية البعث و الحضور في خريطة الوطن المفقود،عمري ليس خرافة، حنين، حورية.

ويمثل في شعره أروع صور الالتصاق بالأرض، فالشاعر بمشاعره الدافقة هو الابن الصميم للأرض، لذا يلتصق بها كغيره من الأدباء أمثال الروائي: "أميل زولا" في (الأرض)، "فرانس فانون" في (معذبو الأرض)، "عبد الرحمن الشرقاوي" في (الأرض)، و "يحي حقي" في (دماء و طين) و:مولود فرعون" في (الأرض والدم) وغيرهم، فهي تمثل لأحدهم الطبيعة، ولآخر القضية، وثالث يرى فيها الوطن، بينما يرى فيها شاعر آخر الحياة مجسدة بهاءها وجمالها، يرى فيها طبيعة الوطن، مشكلات أخيه الإنسان، بحيث يظهر جوانب البؤس و الحرمان و الفقر الذي يحياه الفرد الكادح في مقابل حفنة من المستغلين، يقول " السياب" في قصيدته (حطمت قيدا من قيود) صارخا في وجه الإقطاع»

الدكتور محمد قماري في محاضرته التي كان موضوعها: " الوطنيـــة ودورهـــا في ظهــور الشعر الجزائري الحديث " ارتأى أن الشعر العربي لمدة طويلة لا يعكس تمثيل الشعور وخلجات النفس البشرية، وبخاصة أثناء عهد الانحطاط:

« لقد مضى الشعر العربي كله مهملاً، حقبة طويلة من الزمن، كان في أكثره لا يعكس تمثيل الشعور وتصوير خلجات النفس، ورصد نبض الحياة وأحداثها، فكان الشعر زمن الدولة العثمانية أشبه بالحرفة المتبذلة منه إلى الفن الجميل الذي تهواه النفوس وتحن إليه الأفئدة، ومن أجل ذلك كانت هذه الفترة من حياة الشعر العربي عموما، فترة ركود أو كمون إن استحضرنا ما تلا تلك القرون من انبعاث في حياة الشعر.

انفلق صبح الشعر العربي الوطني، مع بداية العصر الحديث، وربا وكثر حتى طغى على غيره من الأغراض الشعرية، فغدا لا يكاثره غرض آخر منها، ولم يتم له ذلك إلا لأن الاستعمار جاس خلال البلاد العربية كلها، واستباح بيضتها ومزق أوصالها، فأصبح أهلها خاضعين للنير الأجنبي، يتشوقون لاستعادة حريتهم، تشوق الظمآن للماء البارد..

ورافق الشعر جولات المقاومة، يتغنى تارة بالنصر الذي تحققه، وتارة يستعرض مواقف المجد والبطولة في تاريخ العرب الأدبي والحربي، يثير الشعراء بذلك، شعور مواطنيهم للسعي في طلب اليوم الذي تشرق فيه شمس الحرية على ربوعهم، فيعود إلى الوطن وأهله ما فقده من العز والعظمة، وتارة أخرى يستفز الشعراء قومهم، شاجبين عليهم تخاذلهم وقعودهم عن حرب العدو الجاثم على صدر أوطانهم، وما يبتز أموالهم وخيرات بلادهم، ويسومهم سوء..

لقد حاول شيخ المؤرخين العرب الدكتور ابو القاسم سعد الله في موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي"، أن يتتبع مسار الشعر الجزائري المعاصر وان يجمع ما تناثر من دراسات قليلة حوله، وخلص إلى أن مده يعلو بعلو تيار الوطنية، وينحسر في جزر وانكماش إذا ما مس ذلك الحراك عنت ولغوب، كما هو واضح في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى بزوغ ثورة نوفمبر.
وجاء جيل الاستقلال الأول سائرا على خطى من سبقه، يؤكد على مفردات هوية سُقيت بالدماء "الزاكيات الطاهرات"،وإنْ خالطها تغنٍّ بربيع الاستقلال ونشوة الحرية، والانصراف المحتشم أحيانا لأغراض شعرية أخرى، لكن المؤكد أن روح الجيل المؤسس وألفاظه ومخياله ظل حاضرا في قصائد ذلك الجيل..

إن هذا الكتاب الموسوم: بـ " الشعر الفصيح..مسألة الهوية في الشعر الجزائري"، والذي سبقه للملتقى الأول بعنوان:" الشعر الفصيح..قضايا المجتمع والتراث في الشعر الجزائري"، وكتاب " تجليات الشعر الجزائري المعاصر في وادي سُوفْ " التي صدرت كلها عن مديرية الثقافة بولاية الوادي، وكذا " أعلام وادي سوفْ في الشعر الملحون" بأجزائه الثلاثة، وآخرها الجزء الثالث الذي صدر عن دار الثقافة بالوادي..هي كلها تُعتبر إسهامًا في تفعيل المشهد الثقافي الوطني، وإثراء للمكتبة العربية، وتعزيزًا للغة العربية وآدابها.


مشاركة منتدى

  • انا التائه في عالم الاحزان لم اجد من يفهم مغنى كلامى
    انا الذى تضيق احوالى فيتدفق قلبى بتلك العبارات
    انا ودمعة ووقت قد مضى رات العالم قد فنى
    من الحب والامل قد جفى وفى بيوت الدفء والحنان خلاء
    انا الذى يصرخ بصرخة الايتام ولم اجد في الشارع يد السلام
    يا من تركنى و رمانى في عقدى الثانى ولا يبالى
    انا الذى ترعرعت بين الحيطان اشرب من كاس المر والنسيان
    انا من منحت الثقة فى الجار اغوانى ودخلت عالم الاجرام
    صرت انسج من سوء اوهامى واتكلم ما على لساني
    جرتنى اعمالى الى قفص يخلو بالوحدة والحرمان
    كتمت مشاعرى واسراري على من سالنى فى حالى
    يا من يفهم معنى كلامى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى