الأربعاء ١٦ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم بوشما حميد

الساحر بوجا

الحلقة الرابعة: أيــــــامــــــه السّوداء؟

لم تستطع الأستاذة إقناع هيئة المحكمة بتحريره من قفصه المحمول وقد كانت تتغيأُ من ذلك الترويح عنه نفسياً وإراحته من نظرات التلاميذ والسحرة، في حين أن المحكمة كانت ترى في عقوبة القفص واحدة من بين العقوبات الموضوعة عمداً لما لها من ضغوط نفسية على المتهم، حيث أثبتت معظم التجارب أن المتهمين الذين يوضعون في سجونٍ محمولة يفضلون الاختفاء بردهات سجن (سجفنارت)على أن يبقوا في تلك الوضعية، وهو الأمر الذي يقودهم إلى الاعتراف بسهولة.

ولاغرو فبوجا مثلا سئم من وضعيته كلّ السأم، فكلما مرّ قرب شيطا إلاّ وأبدعت في حقه عبارات جديدة من قبيل: « سفينة بلا شراع!». وقد حلّ كذلك فصلٌ جديد وحلّت معه فواكه جديدة، لها قهقهات مختلفة عن تلك التي تعود عليها. وصار ذلك يزيد من ملله. بيد أن المشكلة تتمثل في كون هيئة المحكمة قد ارتأت العكس فجميع الأذلة تسير نحو إدانته وقد بات احتمال وضعه في سجن (سجفنارت) أمراً وارداً.

وصل ساحة المدرسة، التي كانت مليئة بجماعات وحشود من التلاميذ، كل جماعة تتكون من أربعة إلى سبعة تلاميذ.. يتكلمون فيما بينهم حيث الفترة فترة استراحة. كانت شيطا تتسلى بقطها السحري وتحاول تحويله من قطٍّ إلى إوزة.. إلاّ أنها غالباً ما كانت تفشل في ذلك فتحصل على قطٍّ بجناحي إوزة، أو إوزة بشعر ورأسِ قطٍّ..

وغير بعيدٍ كان عاشور منزوياً لوحده، غير أن بوجا تحاشى الذهاب عنده حتى لا تبصره التلميذة شيطا و صديقاتها اللائي كن يظهرن له مثل سيلمان وجنوده. وانتظرهن حتى مشين في اتجاه دورة المياه وهنّ يضحكن عن أيِّ شيءٍ تقوله لهن، فركض نحو عاشور متسللاً وشرع يصافحه و يعانقه بحرارة. إلاّ أنهُ استقبلهُ بجفاءٍ لم يجد سبباً يفسر به ذلك فقد كان هذا الأخير مرح النفس وخفيف الظل تنهد هذا الأخير وهو يتكلم:« جهبور تحدث لي عن كل تفاصيل محاكمتك». عقب بوجا متسرعا كما لو كان يطلب شفقته:«أرأيت يا صديقي لقد كانت كل الأدلة ضدي >>.

ابتسم عاشور ابتسامةً خاطفة وقطب حاجبيه مستاءً:« كان عليك أن تكون صريحاً ولو معي..لقد أسديت إليك نصائح قيمة، ومساعدات جليلة للأسف الشديد، فقد ذكَّرني جهبور بذلك اليوم الذي حدثنا فيه عن القطع الذهبية التي أبصرها بخزانة الأستاذ حربوء.. لقد كنت يومها تصغي باهتمام ليس من الصدفة أن تقع السرقة مساء ذلك اليوم». قاطعه بوجا بغضب:« مجرد مصادفة..سمعت كل شيء إلاّ أنني لم أفعل أي شيء». إلاّ أن عاشور أجاب ببرودة أعصاب:« آسف..فأبويّ لا يريدانني أن أبقى صديقاً لمشتبهٍ فيه».

خطا عاشور خطواته في اتجاه القاعة وبقيَّ هو مسمراً بمكانه وهو يسمع وقع أقدام صديقه كأنها تدق داخل دماغه ثم ظهرت شيطا وصديقاتها اللائي كن يركضن في اتجاه الفصل رجع بوجا للوراء ليختفي عنهن، تشابكت بعض أغصان الأشجار بقفصه وبقيّ يفك غصناً تلوى الآخر.
بدأت الأستاذة (ضفدوعة) تستعد لاستئناف الدرس. وهي تفكر في اختيار بعض التلاميذ المتفوقين وتدريبهم على بعض العروض الفنية، ليُشاركون بها في مهرجان"القلعة السحرية" وهو مهرجان سنوي شهير، تشارك فيه فرق من جميع العوالم حتى من مملكة النمرود، حيث يتم القيام بعروض سحرية مختلفة أو رقصات جميلة،أو لعب سحرية تتجسّد فيها آخر الابتكارات.

بدت الأستاذة ضفذوعة حائرة فيما إذا كانت ستختار بوجا أم لا، فرغم أنه أظهر موهبة كبيرة في قابلية التعلم. إلاّ أن القفص سيحد من مشاركته بصفة لائقة ومقبولة، بالإضافة إلى أنه إذا تعرفت عليه بعض فرق النمرود التي ستشارك بالمهرجان يمكنها أن تنهي حياته،أو على الأقل ستسهل على النمرود عملية اختطافه، ومع ذلك فقد ارتأت أن يشارك هذا التلميذ باسم مستعار وإمكانية تقديم طلب للمحكمة موضوعه تحرير بوجا من قفصه طيلة أيام المهرجان.

نحنحت الأستاذة مستعدة لاستئناف الدرس، غير أنها رمقت كرسي بوجا فارغا، وقد كانت تكره من بين ما تكرهه،أن تكون منشغلة في التدريس ويطرق تلميذ ما الباب ويشرع في الاعتذار، ثم يأتي بعده تلميذ آخر...

نظرت إلى ساعتها العجيبة فوجدت أنه تأخر ببضع ثوانِ، شغلت حاسوبها بعجالة ظهر العفريت الباحث (جوجن) صاحب السبعمائة ألف رأس ورأس فسألته:« أين يوجد بوجا الآن؟». أعطاها الجني ورقة فيها مائة ألف شخص مسجلين تحت هذا الاسم، وأمكنتهم حيث ذكر حتى الأموات منهم وأماكن مقابرهم، امتعضت الأستاذة وتضجرت ومدت له تفاحة وهي تقول:«آهٍ أنت تعلم أي بوجا أقصد، إلاّ أنك أصبحت هذه الأيام تتسلّى في عملك، لا تفَّاحَ بعد اليوم».

طرق بوجا الباب ثم فتحه ودخل وانحنى وفرائصه ترتعش وهو يعتذر بصوت به هزاز:« آسف سيدتي لقد تشابكت أغصان بعض الأشجار بقفصي فوجدتُ صعوبة كبيرة في التخلص منها». شرع التلاميذ يضحكون وقهقهت شيطا بنزق وهي تهمهم<< لازالت البطة تتخبط في مشاكل كثيرة>>.

وتابعت الأستاذة ضفدوعة كلامها باستهزاء:« أقرأتَ كتاب تشفير الإشفير؟». أجاب بصوت مشروخ:« أجل سيدتي».

فزاد جوابه من غضبها وبدأت تتكلم بصوتٍ هستيري:« لو كنتَ قد قرأتَهُ كما تعتقد، لوجدتَ فيه تقنيات التخلص من الأشجار، إنها من الأبجديات الأولى التي يتعلمها التلميذ، إذن أنت تكذب..اسمع بوجا لا تستغل تعاطفي معك استغلالاً سلبياً. فأحياناً عندما يتعاطف الناس مع شخص يتيم أو صاحب احتياجات خاصة وإذا لم يعرفوا كيف يتعاطفون معه فإنهم سيفسدون نفسيته، حيث يضحي معتقداً، أن إحسانهم إليه حقاً من حقوقه عليهم فيعلمونه الاتِّكال..». احمرَّ وجهه وانتفش شعر ظهره وذراعيه، لقد نال منه هذا التوبيخ، إلاّ انه تجلد وتابع اعتذاره:« سيدتي إنني لم أتأخر إلاّ بدقيقة واحدة».

وارتفع صوت الأستاذة ورافقه جفاف في نبرتها:«إذا سمحت لك بالدخول وجاء من بعدك تلميذٌ فعليّ أن أسامحه لأنه لم يتأخر عنك إلاّ بدقيقة، والعدالة تقتضي أن أسامح الرابع والعاشر.. لأن كل واحد منهم لم يتأخر عن سابقه إلاّ بدقيقة.(ثم تنهدت)حسناً لابد لك من إحضار ورقة الدخول إننا هنا نعبد القانون».

غادر القاعة، ونظرت هي للباب شزرا فانغلق بقوة. وظلت ذاكرته القصيرة المدى تسترجع ما قالت لهُ آنفاً، بخصوص تعاطفها معهُ، ويا ليتها ما تعاطفت. واسترجع موقف عاشور الأخير، فرواده إحساس بأنه أصبح مثل بعوضة حقيرة سقطت في بركة ماء وشرعت تؤِدي كل من يُحاول إنقاذها، لم يكن يعرف قاعة الحراسة المسئولة عن قسمه، تذكر ما حدث له في بداية السنة حيث لم يكن يعرف القاعات، ولا الممرات المؤدية إليها، كان فقط يقتفي خطى ملاك أينما حلّت وارتحلت، حيث لم يكن يميز سوى وجهها من بين وجوه جميع التلاميذ خاصة عندما يختلطون في الساحة مع تلاميذ الأقسام الأخرى. وذات يومٍ اتبع ملاك في الوقت الذي دخلت فيه إحدى الأبواب فالتفتت وبدأت توبخه:« ألا تخجل من نفسك أيها الحقير؟أتتبعني حتى إلى دورة المياه، حسناً سوف أشكيك إلى الأستاذ حربوء!».

كان يفكر في طريقة يعرف بها قاعة الحراسة التي سيأخذ منها ورقة الاعتذار. فكر في الذهاب إلى حجرته واستعمال الحاسوب إلاَّ أن ذلك سيزيد من إهدار الوقت، فكر في التعويذة الخرافية "بزجلٍ"ولما لا؟ فقد جربها تلك المرة فظهر صديقه جهبور الذي أرشده خير ما إرشادٍ. رددها فوجد نفسه أمام باب إحدى القاعات كأن أحداً حمله من قفاه ووضعه ها هنا، بدأ يتردد بين الدخول والإدبار. وهو يتكلم وحده، وصل عليه الجني جَنُّوت الذي يشتغل بمنزل ملاك. والذي كان ذاهبا إلى حاجة له فشرع يوبخه:« إلى أين أنت داخل أيها الأحمق إنك أمام مقر حيوانات الحراسة الليلية، قططٌ مُنَيَّبة وأسودٌ مجنحة ومخلوقات أخرى سحرية عجيبة».

فكر جوانياً:« إذا حدث أن جربتَ تعويذةً خرافية، وتوفقتَ، فمجرّد صدفة نجاح الخرافة يتغذى من الصدفة، لا" بزجلٍ" بعد اليوم. (وارتفع صوته وهو يجيب) أُريد الحراسة العامة.. أريد ورقة اعتذار».

أسرى به جنوت في اتجاه الحراسة، بسرعة البرق وأشار إليها بسبّابته، وهو يربت على كتفه باليد الأخرى ويتكلم:« لا تنسى هذه المساعدة أنتَ مدينٌ لي بها. كنتَ ستصيرُ قوتَاً لمخلوقات الحراسة».

دلف إلى القاعة، وجد ثلاثة مسئولين يُقهقهون حول قفصٍ مليءٍ بالقنافذ، حيث هنالك قنفذٌ يروم نكاح أنثاه، وآخر ينافسه في ذلك، انضبط الحراس في كراسيهم بمجرد ما رأوا هامته، وبعدما تبين لهم أن الأمر لا يتعلق سوى بتلميذٍ بسيطٍ، شرعوا يضحكون بهستريا، كما لو أنهم يريدون الانتقام منه لأنه شوّشَ عليهم مزاحهم رمى أحدهم ورقة الاعتذار في الأرض وردد في وجهه وهو يقاوم رغبة الضحك:« هيا خدها وانصرف!». انحنى ليأخذها إلاّ أنها طارت في اتجاه الباب وحطّت غير بعيد، وشرعوا يقهقهون ويتمايلون. وتبعها هو يطاردها وينحني حتى يكاد يمسكها إلاّ أنها تنفلت، وابتعد عنهم وتبددت جلبتهم عن مسامعه. إلاّ أنه بدأ يسمع قهقهات الأشجار الضاحكة، وتذكر الطائر الأحمق وخشيَّ أن تكون هذه الورقة هي الطائر نفسه إلاّ أن الحراس كانوا يتابعونه عبر الحاسوب السحري. فقال أحدهم:« هيا لِنُزِل اللعنة عن الورقة حتى لا تكتشفنا الوزارة وتتهمنا بالتلاعب.. لقد ضحكنا بما فيه الكفاية».

استقر بمقعده سمِع همسات التلاميذ:( ـ امتحان مفاجئ.. ـ اللعنة لم أُراجع نظرية موغا..). كانت الأستاذة قد قررت أن تمتحن التلاميذ وبالضبط في كتاب" تشفير الإشفير". وقد توخت من جهة مباغتتهم حتى تتأكد من مداومتهم على واجباتهم. ومن جهة أخرى تتأكد من صدق بوجا أو كذبه، فإذا كان قد قرأ الكتاب فلا شك انه سيجيب عن أسئلة الامتحان، وإذاك لا بأس إذا كان قد أهمل تعويذة التخلص من الأشجار.

قسّمت ضفدوعة أسئلة الامتحان إلى مجموعتين ولكل تلميذ حق اختيار المجموعة التي يريد الإجابة فيها، وطلبت منهم التأكد من أن كاميرات الأقسام مشغلة، وقد أكدوا لها ذلك وأشهدتهم عليه، وذكّرتهم بعقوبة النقل فرددوا بصوت جماعي:« إذا نظرتَ إلى ورقة صديقك تُفقعُ عينك في الحال وإذا همست في أذنه، فضضتَ غشاءها الداخلي...». ومارست عليهم الأستاذة تعويذة تقليص مسافة الإبصار حتى لا تُفقع عين أحدهم لمجرد أنه اختلس نظرة لا إرادية من ورقة صاحبه وبدأت تمشي بين الطاولات وهي تقول:« ممنوع استعمال الذاكرات السحرية.. وليكن في علمكم أنني سأختار بعض المتفوقين منكم في هذا الامتحان، للمشاركة بعروض في مهرجان القلعة».

انغمس التلاميذ في التفكير ولم تعد تُسمع سوى طقطقات أصابعهم وهي تتحول إلى أدوات الكتابة والرسم، فشيطا مثلا وجدت صعوبة في السؤال الأول الذي جاء فيه:« يقول موغا:" إنها ليست أصابع وأعضاء الساحر هي التي تتحول إلى أدوات، بل تختفي الأعضاء وتظهر محلها أدوات، بطريقة توهمنا أن أعضاءه هي التي تحولت إلى تلك الأدوات، حلل وناقش؟». وبقيت شيطا تتضور في كرسيها كأنها ابتلعت ثعبان.

وبدؤوا ينصرفون واحداً تلوى الآخر، بعدما يضع كل واحد منهم ورقة إجابته أمام الأستاذة التي كانت منغمسة في قراءة كتاب" أناشيد مالدورو"، وضعت ملاك ورقتها ووضعت معها محلولاً سحرياً وهي تقول للأستاذة:« لا يمكنك أن تصححين ورقتي ما لم ترشينها بهذا المحلول السحري فهو الوحيد الذي يمكن أن يُظهر الحروف على الورقة». غمغمت الأستاذة شفورة مبتسمة:«حسناً هذا اجتهاد كبير منك أتمنى ألاَّ أضيعه. وإلاَّ كلفني تفكيك شُفَرِ وطلاسم ورقتك أربع ثواني إضافية!». وتقدم جهبور وهو يشتم بصوتٍ مرتفع:« اللعنة.. لقد وجدت صعوبة كبيرة في تحويل بعض أصابعي إلى أدوات، فقد احتجت المسطرة والريشة والممحاة.. لم أكن أبداً قد فكرت في البركار.. كما أن مداومتي على غرس الفسائل قد جعلت أصابعي متآكلة كأصابع مجذوم ولذلك لم أحصل على أدوات جيدة، فحتى ريشتي لم تكن صالحة للكتابة». ردت الأستاذة وعيناها مركزتان على الكتاب الذي بين يديها:« حسناً سوف آخذ ظروفك بعين الاعتبار».

كان بوجا آخر من اتجه نحو مكتب الأستاذة ليسلم ورقته إليها، تصفحتها بسرعة وحدجته بنظرة توحي بعدم الرضا فغادر القاعة بخطى متثاقلة ونفسية منحطة وهو يسترق السمع من بعض التلاميذ الذين كانوا يناقشون ما كتبوه آنفاً. غير أنه اكتشف أنهم أجابوا في المجموعة التي لم يُجب فيها هوّ وبالتالي لا فائدة للاستماع لحوارٍ بلا جدوى، وصل على شيطا التي كانت تتذرع بربط خيط حدائها قامت معه بواجب التحية. وسارا نازلين في السلم الحجري الحلزوني نحو ساحة المدرسة، وبعد دخول وخروجٍ في الموضوع اكتشفا أنهما لم يكتبا في نفس المجموعة فأثار ذلك حفيظة شيطا،وشعرت بخيبة أمل فبدأت تستفزه:« ألا تشعر بالخوف؟». رد برباطة جأش:« الإنسان عليه أن يشعر بالخوف لمجرد أنه كائن بشري».
ـ هل تعلم لماذا تحولت أمك إلى ضفدعة؟ في الحقيقة..

ـ لأن الضفادع هي المخلوقات الوحيدة التي لا يستطيع النمرود شرار التمييز فيما بينها. وليقتل أمي عليه أن يبيد جميع ضفادع العوالم.أهذا كل ما لديك؟.

ـ حسناً أنا أخجل من أن تكون أمي ضفدعة.

ـ وأنا لي شرفٌ عظيم أن أكون كذلك، بل وحتى ابن ضفدع.

ـ لو كان لي عدوٌ قوي مثل النمرود لقتَلْتُ نفسي.

ـ أمّا أنا فلو كان لي خلُق سيء مثلكِ، فسأدفن نفسي حيّاً.

وصلا أرضية الساحة التي كانت مزدحمة بالتلاميذ ابتعدت عنه شيطا قليلاً، وهي تضحك وتنظر إلى الأعلى بعينيها الغائرتين الماكرتين، وهو يتفحص جبهتها التي لا زالت تحمل أثار خدوشٍ كثيرة، من بينها أثار الثقبين اللذين أحدثهما فيها الأستاذ عبقور في بداية السنة. بدأ القفص يرتفع به رويداً رويدا كأنه منطاد. فهم أن شيطا ربطت القفص ببعض التعاويذ الساخنة. بدأت الأشجار الضاحكة تقهقه عنه. والتلاميذ ينظرون إليه وهو يرتفع في السماء. علق أحدهم قائلا: « إلى أين ترتفع تلك السلة بذلك العنقود». ورد آخر وهو يحاول جاهداً أن يبصر القفص الذي بدأ يظهر كنقطة سوداء:« هذا هو السجن الطائر التي كانت الحضارة الأمريكية قد ابتدعته منذ قرون.. العامة بطبيعة الحال يعرفون قصدي». وطل حسُّوب من نافدة إحدى القاعات وتمتم:« اللعنة، مجتمعنا لا يرحم.

صيًّر التلميذ سبَّابته سيفا، ليزيل تلك التعاويذ عن قفصه، إلاّ أنه تذكر كلام أحد الحراس:«..شخصيّا تهمني سلامة القفص». إذا فعلها سيقع القفص مرتطما ـ بقوة ـ مع الأرض وستتهمه القلعة بتخريب ممتلكاتها.

تريث قليلاً ثم حوّل خنصره إلى محرار، فوجد أن شيطا قد استعملت التعاويذ الساخنة، ومعلومٌ أنه لو استطاع تبريد تلك التعاويذ لهبط القفص تدريجياً، ولن تُصاب قضبانه بأية خدوش.
توفق في ذلك إلاّ أنه وجد نفسه بالغابة المشئومة، وهي غابة الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، شعر بصعوبة الموقف فحوّل راحتيه إلى مكبر صوتي وشرع يطلب النجدة، سمعه الجني (جنُّوت) الذي كان في سبيله إلى حاجة له. فتدخل وأنقده لثاني مرة.

12ـ إلى المهرجان

تصير القلعة، بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً، مكاناً مظلما ومهجوراً، فبالمدرسةِ مثلاً تختفي الأكشاك و القاعات والأشجار الضاحكة..كأنما ابتلعتها الأرض ولا تبقى في الوجود سوى الأبنية المسلحة سحرياً، كما تنشُطُ الحفر والمناطق الخالية من الأوكسجين..وتُطلق القطط المنيبة والأسود المفترسة.. وكل ذلك تحسباً لأي اختراق من طرف عصابات النمرود الإرهابية، فرغم أن الاتفاقية بين الطرفين تحظر الحرب لبضع سنين إلاّ أن هذا النوع من الاتفاقيات لم يكن معوّل عليه. فكل طرفٍ كان يعتقد أن الآخر يستعد للحرب ويهيئ قواه لها.

لم يستطع بوجا النوم هذه الليلة حيث بات يتقلب في مكانه كأنه ينام على فراشٍ من قتاد، اقترب من نافدة حجرته وهو ينظر إلى الساحة المظلمة من خلف ضلفات النافذة، وبدأ يبصر بهلعٍ ذلك الأسد الذي كان قريبا من حجرته وهو يزأر ويهاجم شيئاً شبيها بعلبة حليبٍ فارغة، وتذكر عندما قال له القاضي في الجلسة الأولى ما معناه:أن الخروج في منتصف الليل بدوره يعتبر جناية يجنيها الفاعل على نفسه.حقاً لقد كان هذا القاضي على صواب واسترجع أحداث تلك الليلة التي خرج يبحثُ فيها عن كرمة التين، لماذا لم ير هذه الأشياء،لاشك أن ساحراً كان يوفر له الحماية ومن يكون يا ترى هذا الساحر؟. وارتفع صوته كأنه يكلم نفسه:«وعندما كنتُ أبيتُ خارج حجرتي، قبل أن تهيئ لي الأستاذة شفورة رقمي، لماذا لم أر هذه المخلوقات؟».رد شبح الجدة من إحدى المرايا وهو يضحك:« الجواب بسيط..كانت القلعة تتكلفُ بحراستك، دون أن تشعركَ بذلك». غير أن بوجا لم يهتم به فقد تعود عليه، وربما كان ينظر إلى أشياء أكثر أهمية منه، حتى أنه لم يهتم بإصلاح وضعيته فقد كان أنفه منضغطاً مع النافذة.ولم يهتم بتعديل وضعيته كان السبب الأول الذي أرَّقه، هو الجلسة الثانية من المحاكمة والتي مرّت بالأمس وكانت أسوأ بكثير من الجلسة الأولى، بل أسوأ حتى مما كان يتوقعه، وما إن تذكرها حتى خطى نحو سريره، وجلس وصفق راحة يسراه على راحةِ يُمناه لتظهر الشاشة السحرية على الحائط. وبدا يقرأُ ما كتبته بعض الجرائد حول موضوع محاكمته حيثُ كتبت جريدة "مستقبل السحر":<< لا أمل في براءته، فكل القرائن تسيرُ نحو الإدانة. ومؤازرته (الضفدوعة ‼) التي لا يُشقُّ لها غبار ربما ستعلنُ انهزامها هذه المرة، خاصةً عندما تقدم تلميذ يدعى عاشور،وشهد بأن بوجا قد حصل منه ومن تلميذٍ آخر يسمى جهبور، على معلومات ٍ حول خزانة الأستاذ حربوء ابن شراهيا، في الوقت الذي كانوا يتحدثون عن ذلك عَرَضَاً». وكتبت جريدة "تسعة رهطين":« امرؤ القيس بمملكة العباقرة، هذا هو حال الضنين بالقلعة، سارق بليد وبدويٌ عاميٌ متطفل».

أما الجريدة الوحيدة التي تعاطفت معه وبقليلٍ من الحذر. فقد كان موقعها على الشبكة مخرباً ولم يستطع العفريت (جوجن) أن يجمع منها شيئا سوى بعض الحروف المتقطعة أو المحروقة، وفي أحسن الحالات عناوين لمواضيع تافهة من قبيل: « تزوج زوجته على أساس أنها ساحرة، وبعد أربعين سنة اكتشف أنها جنيّة»، أو « ساحر يقتل زوجته بعدما اكتشف أنها تعشق أبو الرؤوس العفريت جوجن».

وطلب من العفريت (جوجن) أن يجلب لهُ جريدة ورقية من أحد الأكشاك، ودفع له بعض القطع النحاسية، وانشطر رأس من رؤوس جوجن وسار يبحث في الأكشاك،وبعد دقيقة من البحث رد جوجن وهو يلهث: « آسف سيدي لم أستطع الحصول على أية نسخة، قيل إن بعض الأشخاص جمعوا تلك النسخ من الأكشاك وأدوا ثمنها تواً».

أما السبب الثاني الذي أرقه فيتجلى في كون الأستاذة، كانت قد اختارته للمشاركة في مهرجان القلعة معية بعض التلاميذ المتفوقين من أقسامٍ أخرى وقد أشرفت على تدريبهم لمدة شهرٍ بكامله وهو الآن يتذكر ما قالت له ذات مرة: « على ألأقل إذا كنتَ جيداً في المهرجان فإن القلعة ستخفف عنك العقاب» وها هو موعد المهرجان قد حان وهو لا يعرف ما إذا كان سيوفق أم سيفشل.

أطفأ حاسوبه السحري ووضع فوقه الغطاء وهو جالس حتى أصبح مثل الخيمة وشرع يقرأ كتابا خاصاً عن المهرجانات التي انعقدت في السنين الماضية، وهو يسمع أصوات العويل والزئير..وأصوات أخرى يجهلها، وبعد ساعاتٍ كانت طويلة عليه، غادر فراشه استعداداً للذهاب إلى المهرجان..

خرج من دورة المياه وقد قرأ للمرة الألف تلك الجملة المُشخبطة، وهو يرى أن كاتبها على حق فالأستاذة ضفدوعة صارمة أكثر من اللازم، فقد كانت تعنف تلميذا لمجرد أنه أهمل مسح حدائه..ولأول مرة عرف أن شيطا عندما كانت تتفوّه بلقب"مدرسة عسكرية"فإنها تقصد الأستاذة ضفدوعة.

خرج من الحمام ودلف إلى المطبخ وحضر وجبة فطورٍ بدوية عتيقة..كأس حليبٍ بالزعتر، وفطائر مدهونة بزيت أرﯖان الممزوج بمسحوق اللوز، ثم كأسَ شايٍ، ذلك المشروب السحري بلا سحر، وفتح باب حجرته هاماً بالانصراف وهو ينصت إلى همسات الشبح الذي كان يدندن بسرور: » اذهب إنهم ينتظرونك،اللعنة عليكم أيها الأحياء إنكم لا تخشون شيئاً سوى الموت».
كان الأمر يتعلق بأربعة عفاريت عمالقة من حراس( سجفنّارت)، الذين كانوا ينتظرونه أمام الباب، كانت قاماتهم طويلة إلى درجة أن رأسه لم يكن يتجاوز ركبة أحدهم. ورغم أشكالهم الإنسانية فإن ملامحهم كانت شبيهة بملامح الأسود أما تجاعيد وجوههم فقد كانت ملفتةً للانتباه. حيث يظهرون معها كأنهم يُعانون من النحافة، اهتز قلبه في البداية إلا أنهم قاموا معه بواجب التحية على أحسن ما يرام وبسرعة بدأ أحدهم يُعبر عن سخطهِ وسأمه من مهنته. وأن القلعة لا تعوضهم عن المشاق التي يتكبدونها في عملهم. كان يتفوه بذلك وهو يفتح قفص الضنين ويُخلصه منه أما الثلاثة الآخرون فكانوا يكتبون تقريرا حول العملية. حيثُ لم يكن يُسمع سوى صرير ريشاتهم على الورق. ونظر بوجا إلى أرجلهم، فاقشعرّ بدنه، وارتعدت فرائصه فقد كانت شبيهة بأرجلٍ كبيرة لنسور كاسرة. وقد أضفت عليهم تلك المخالب هيبة أكثر من الهيبة التي أضفتها عليهم أنيابهم البارزة. انتهى الثلاثة من كتابة التقرير.وتحولت ريشاتهم إلى أصابع في زمن واحد ثم أخرج أحدهم رزمة كبيرة من المفاتيح وتمتم بتعويذة صار معها القفص صغيراًً بحجم مفتاح، ووضعه مع تلك الرزمة. ولأول مرة خطر لبوجا أن تلك المفاتيح يمكن أن تكون أقفاصاً بدورها(سجون محمولة). وشقوا طريقهم سائرين في اتجاه المهرجان، وظل هو يجاهد نفسه ليبق لصيقاً بهم.

ابتعدوا عن ضجيج المدرسة وكاميراتها فوجدوا الفرصة سانحة وشرعوا يتناقشون بصوتٍ مرتفع، ويخوضون في مواضيع لم يكن بوجا يسمعها في المدرسة همهم أحدهم:« والفتى أنسيتموه؟».عقّب الآخر: » لا عليك، سأغسل ذاكرته عند عودتنا.(والتفت نحو بوجا الذي كان يلهث، وضحك وقال) الجَمَلُ يسير على مهله، والكلب يكاد يفقد عقله!». وانحنى حتى قرّب رأسه من قدمي التلميذ وتفل عليهما. وشرع بوجا يركض بسرعة وقد خفت قدماه حتى أنه بدأ ينظر إليهما بين الفينة والأخرى، معجباً بهذه الخفة، فتجاسر على مشاركتهم الحديث: » أسيادي لماذا أنتم على هذه الغاية من النحافة،أتتهاونُ إدارة السجن في تغذية أطرها؟» أجاب أحدهم يدعى ميمون الطيار:« على النقيض يا فتى، لدينا فائض في التغذية فبمستطاعنا أن نأكل حتى وجبات النزلاء فمعظمهم يضربون عن الطعام بسبب التعذيب البشع.(وتابع كلامه بخفوت)العامل الوحيد المسئول عن نحافتنا هو معاينتنا لأساليب التعذيب، مما يفقدنا شهية الأكل فرغم أن الوزارة انتزعت منا ذاكراتنا إلاّ أن المشاهدة وحدها كانت كافية لتؤثر فينا. في الحقيقة على الوزارة أن تعوض لنا عن ذلك».

رد بوجا بصوت من يُحاول إقناع نفسه:« أنتم لا تعاينون تعذيب السجناء بل تعذبونهم بأنفسكم». ضحك الحارس وعيناه تدوران في محجريهما: « عفواً نحن لا نفعل شيئاً، كل شيءٍ أصبحت تفعله الربوتات السحرية. مات دور الساحر.. مات دور العفريت، إذن من نحن؟. آهٍ!. نحن عفاريت الكارتون». وشرعوا يُقهقهون بهستريا حتى أن الشرر كان يتطاير من أفواههم.

وانتظر هوّ خفوت قهقهاتهم ليتساءل مرة أُخرى:« ألا يُسبب لكم فقدان الذاكرة هذا أية متاعب؟. حيث يصعب عليكم مثلاً تذكر أعداءكم أو أبناءكم..عفواً أقصد عندنا نحن العامة من يُصاب بمرض "الزهايمر" يُواجه مشاكل كثيرة». رد ميمون الطيار بعدما مرر سبابته على أسنانه المتفحمة:« على العكس يا بنيَّ. الماضي كله مسجل في الإنترنيت السحرية. وعلى عتبات الأبواب ووجوه السحرة والعفاريت.. التطلع للمستقبل هو الأمر الصعب. ونحن محظوظون لأن الوزارة عوضت لنا ذلك بذاكرة تتذكر المستقبل. وكان من نتائج ذلك علينا، راحة النفس وطمأنينة البال، فأنا مثلا عندما أعرف أنني لن أموت في حرب ما، فإنني سأقاتل فيها ببسالة. وعندما أعلم أنك لن تهرب من قبضتنا طوال هذه الأيام، وأنك ستشارك في المهرجان ثم تعود لقفصك. فإنني لن أضايقك كثيراً!. وعندما أعلم أن النمرود لن يقبض عليك اليوم بل كُل ما يستطيع فعله ُ هو محاولة تسميمٍ فاشلة. فإنني لن أتكلف عناء حراستك حراسةً لصيقة». وانحنى ميمون وقرّب فاه من أذن بوجا حتى تضايق هذا الأخير من أنفاسه التي كانت كأنفاس حصان وهمس:« لذيّ إليك أخبارٌ سيئة، فأنت ستَحلُّ نزيلاً عندنا بسجفنارت، في المستقبل القريب، ألم يقُل لك الأستاذ عبقور شيئاً عن هذا؟. أعتقد أنه غيرَ متمكنٍ من مادته».
انتفش شعر رأسه، مثل قطٍّ استشعر وجود كلبٍ بقربه وهمّ بالبكاء إلاّ أنه امسك عواطفه تجلُّدا. وشرع الحراس الثلاثة يِؤنبون صديقهم عن إفشائه هذا السرغير أنه بدا مقتنعا بما فعله ُ وتابع كلامه بإصرار:<< لا تبالي بهم يا بُويْجا إنهم يقدسون الوزارة ويطبقون أوامرها حرفياً، أما أنا فلم تبق لي سوى أربعة أشهر وأحال على التقاعد، أفنيتُ عمري كله في خدمتها والآن سأخرج بلا تغطية صحية ولا سكن ولا ولا..اللعنة على أصحاب الخطاب الديماغوجي والوعود الكاذبة «هدر بوجا باستعطاف:« سيدي ألا يمكن لذاكرتك أن تخطئ».

ـ عفواً يا ولدي الأمر لا يتعلق بمادة التنبؤ إن الفرق بيننا وبين أساتذة التنبؤ كالفرق بين المؤرخين وكُتاب السيّر الذاتية. لقد استعملت القلعة في ذاكراتنا أقوى التقنيات السحرية المستمدة من علم التنجيم، واحتمال نسبة الخطأ عندنا أقل من واحد بالمائة، وانفرجت أسارير وجهه وهو يقول:« لكن لا عليك يا ولد فعندما ستخرج من السجن سأزوجك ابنتي! ولما لا فالزوجة سهم زوجها».

أدرك بوجا أن مسألة تزويج البنت هذه إنما هي طريقة يمزحُ بها الكبار مع الصغار حيث شرع الحراس يضحكون ويصفقون راحاتهم مع بعضها. وسأل أحدهم صديقه:« أيهن ستزوجها له؟». فردّ ميمون الطيار مزمجِراً:« أتتجاهلُ عدم امتلاكي لذاكرة؟. ( وبدأ يقترب من جبهة محاوره وهو يُهمهم) دعني أقرأ فقد كتبتُ أسماء بناتي على جبهتك،(وبدأ يتهجى ببطء).آهٍ البصرُ يتناقصُ تماشياً مع التقدم في السن، حسناً اسمها: (شيطاآآآر)>>. وتنفس بوجا الصعداء بعدما شعر أن قلبه كاد يَكُفُ عن النبض فقد حسب في البداية أن بنته هيّ شيطا. وتابع أحد الحراس كلامه ٌ قائلاً:« أرى من الأفضل أن تزوجه ملاك فهي أجمل بناتك!».

وضاق صدر التلميذ، وشعر لأول مرة أن إحساساً غريبا إزاء ملاك، يسكن ُ فؤاده،إحساسُ كالإعجاب وتذكر الأصنام المسحورة واسترجع ما قال له جهبور بخصوصها آنذاك:« تتجسدن لك في صفة الفتاة التي تفكر فيها». ترى هل فكر ساعتئذٍ في ملاك؟. أم أن ذلك حدث في كواليس اللاّشعور.وهل التماثيل السحرية تستطيع الغوص في اللاشعور الإنساني؟. انشطرت في ذهنه أسئلة كثيرة. واقترب من ميمون وسأله فيما إذا كانت ملاك بنته فعلاً فهي تدرس في نفس القسم الذي يدرس فيه. بيد أن الحارس ردّ متنهداً:« وهل تراني محظوظاً حتى تكون بنتي هي ملاك؟. إن ملاك بنتُ أحد الأطر السامية في القلعة.ابنتي اسمها ملاق وهذا الأبله لديه عقدة في لسانه، فهو ينطق القاف كافاً».

وتابعوا طريقهم حيث لم تعد تفصلهم عن المهرجان سوى مسافة تسعة أميال. فبدءوا يسمعون جلبة الزائرين ولغطهم، ويلتقون بسحرة،ذاهبين ورائحين، ممتطيين مخلوقات عجيبة. وحذرهم أحدهم مهمهماً:« هيّا استرجعوا جديتكم.لقد وصلتم منطقة مغطاة بالكاميرات السحرية!».
فسمعت طقطقات شبيهة بصوت فتح المظلات، نتيجة استرجاعهم لجديتهم. وظل بوجا يخطف نظرات وميضية بين الفينة والأخرى، ليرى وجوههم منعكسة على العدسات السحرية المعلقة على جذوع الأشجار ووجد أن أحدهم يملك جناحين كبيرين. يشبهان جناحي نسر. وتذكر بيتا شعرياً جميلاً( إياك أن ترى أنياب الليث بارزة<><> فتظن أن الليث يبتسم). وخمن أن تلك الطقطقة التي سمعها آنفاً يمكن أن تكون نتيجة إطباقه جناحيه.

لم تكن الأشجار الضاحكة تضحك هذا اليوم، إنما توشوش فيما بينها كأنها تشعرُ بالخوف وجذوعها ترتعشُ ارتعاشا خفيفاً تتساقط بسببه أوراقها وقطع ميمون خواطر بوجا بقوله:« أرى الأشجار خائفة إنها تهابُ النمرود فهو عندما يغضب يردد لعنةً تصيبُ أزيد من ألف شجرة».وهدر بوجا مع نفسه:« اللعنة حتى مكونات البيئة تهابه لأول مرة كانت شيطا على حق فمن له عدوُّ مثل شرار، من الأحسن أن يقتل نفسه». وعقب حارسٌ آخر قائلا:« الأشجار ترتعد، رغم علمها أن النمرود شرار لن يحضر شخصيا حيث سيبعث فقط بعض وزرائه. فما بالنا نحن؟.من حسن حظنا أن المدرسة قد وقّعت معه اتفاقية عدم الاعتداء». فعقب عليه ميمون الطيار متنهداً:« أحيانا أفضل أن يأتي النمرود على أن يبعث ببعض وزرائه. فكلما أمرهم أمراً إلاّ وضاعفوه فقط لإرضائه..أتذكر الطريقة التي اعتدى بها على بعض الأشجار في إحدى حروبه، لقد حولها إلى رمادٍ في رمشة عين، وبقيت الأشجار شاخصة ورمادها يتطاير مع هبوب كل نسيمٍ أو ريحٍ». وتكلم الحارس صاحب الصوت الفحيحي الذي لم يسمع بوجا صوته منذ ذلك اليوم الذي وضعهُ في القفص:« أنا لا أومن بالاتفاقية الموقعة بيننا وبينه.إنها مسألة وقت، وهو عندما سيتقوى سيضربها بعرض الحائط. يا ليت قلعتنا فكرت في الإتحاد مع مملكة العباقرة». تكلم ميمون الطيار رغم أن صديقه لم ينه كلامه بعد:« أنا على يقين أن عملاء النمرود سيستغلون المهرجان، وسيقومون ببعض الأعمال كالجاسوسية والتسميم والاختطاف.. غيرَ أنه لا يجب أن نتشاءم فحتى نحن ُ لدينا مدافعون أكفاء، لدينا حراس سجفنارت، وفدائيو القلعة.. ولدينا بوجا!». ونظر بوجا إليهم فوجدهم يضحكون خفية وهم يضعون أيديهم على أفواههم، ثم أنفجر أحدهم مقهقهاً وهو يقول:« لو اعتمدنا عليه. لن نهزم حتى عالم الضفادع فصاحبنا لا زال يخشى الحفر السحرية!».

كانت إدارة القلعة قد عينت مجموعة من الحراس يتكفلون بأمن المهرجان وسلامة الحاضرين واستشعار الخطر وتدبيره.وعينت على رأسهم لجنة مشرفة تتكون من عمالقة العفاريت وجهابذة السحرة. وكانت من بينهم الأستاذة ضفدوعة وكل من الأساتذة: عبقور ثم صنوع وحسوب. ثم القاضي زوبعة بصفته رئيساً. وصلت اللجنة إلى الغابة حيث وصلها الخبر وضعت الأستاذة ضفدوعة يدها على إحدى الأشجار، وشرعت تتأمل الوضع وهي تحاور أعضاء اللجنة:«أرى أن الارتجاج أصاب جميع الأشجار حتى أن بعضها ستسقط الثمار أو الأوراق». وبدأت يدها بدورها ترتعش بسبب اتكاءها على تلك الشجرة وتابعت كلامها:« نحن نعلم جميعا أن الأشجار مسحورة بطريقة تجعلها تستشعر الخطر وأنه إذا اقترب أي خطرٍ من الغابة فإن أية نبتة سترسل رسالة تنذر فيها الأشجار والنباتات بالخطر القادم». رد عليها الأستاذ صنوع كما لو أبرقت في ذهنه فكرة وود استباق الآخرين:« إذن فالسيد النمرود سيدخل مدرستنا منتحلاً شخصيةً أخرى». أثارت انتباهها لازمة:" السيد النمرود".إلاّ أنها تجاهلت الأمر وعقبت:« في قلعتنا الاستنتاجات ذات البعد الواحد تبقى عديمة الجدوى والنفع. (فَشرَّار)هذا سيد البعض يمكنه أن يزرع شجرة كاذبة.تقوم ببث الرعب في صفوف أشجارنا. وأنت كذلك تعلم أن احتمالات أخرى ممكنة». كمّش الأستاذ عبقور مابين حاجبيه وهو يقول:« إذن فلنبحث عن الشجرة الكاذبة».

ردت الأستاذة متأففةً:« مستحيل، فالغابة كثيفة و أشجارها كثيرة.سنكون كما لو كلف أحد من العامة بالبحث عن شجرة وحيدة في غابة الأمازون مع العلم أن الأشجار متشابهة ومع احتمال وجود تلك الشجرة أو عدم وجودها». ردد حسوب في قرارة نفسه:« اللعنة هذا هو سر نجاحها إنها تسير بخطى حثيثة وثابتة، يا لها من ذكية ومتمرسة». علقت الأستاذة كما لو سمعته:« أمممم.. أخطر شيء هو أن يكون بين ظهرانينا جاسوسا، وبناء عليه فإنني سأحتفظ ببعض الأسرار لنفسي». أومأ زوبعة برأسه موافقا عن كلامها أما الأستاذ صنوع فقد حسِبها تتكلم عنه، وكان بعض الأساتذة يقاسمونه نفس الظن.

وبعيدا عن هذه اللجنة بستين ميلا كان الحراس الأربعة قد سئموا من الكلام والضحك وخلا كلّ منهم إلى خواطره. ولم يعد يسمع سوى وقع أقدامهم، وطقطقات الحصى الذي يتطاير بين الفينة والأخرى من تحتها وخشخشة الأوراق اليابسة والمتساقطة على جوانب الطريق.ثم حفيف هزاز الأشجار وارتجاجها. وكانوا قد اتفقوا كذلك على أن يسيروا بطريقة لا تجعل أحدا يعرف أنهم يرافقون ضنينهم. أما هو فقد بدأ يتدرب على إحدى اللعب حيث حوّل سبابته إلى قلم. وأظهر ورقة من الهواء ورسم عليها خطوطاً مستقيمة، وشرع يخط فوق كل مستقيم خطاً آخرا يُطابقه تماماً.وهو يحرص على ألا يصطدم بالمارة الذين يتقابلون معه.وعلى أن لا يتوقف في ممشاه فالحراس يسيرون بإيقاعٍ منتظم ولن يسمحوا له بالتأخر.وأكثر من ذلك فهو يتدرب على تلك الرسوم وهو مغمض العينين. وشعر أن أحد الحراس التفت نحوه.ففتح عينيه وأخفى الورقة، وأرجع سبابته إلى حالتها الأصلية. فقد كانت الأستاذة ضفدوعة قد نصحته وأصدقائه. بأن يحافظون على سرية ما تعلموه من عروض.بدءوا يسمعون الأشجار وهي تنشد:

جهبور يا شجاع
اغرس اللوز والكرﯖاع
جهبور يا ميمون
اغرس التفاح والليمون
جهبور يا فنان
ازرع المحبة والسلام
"الطريق طويلة والشجر غطاها "
" وايامك يا جهبور وعلى محلاها".

فهم بوجا أن جهبور اقترب منهم فالأشجار تنشد هذا النشيد كلما مر صاحبنا من قربها. رغم أن أصواتها اليوم كانت حزينة وكئيبة ويتخللها الهزاز والانقطاع بسبب الخوف. وصل جهبور خلفهم وهو غاضب ويردد بصوتٍ مسموع:« يا للنحس الكون كله أصبح يعرف أنني تبولت على جدع شجرة». لكزه أحد المارة هامسا:« انتبه ألم تر حراس سجفنارت». فرد بصوت أكثر ارتفاعاً وإصرارا: » وماذا سيفعلون لي. أتراني قتلتُ موغا؟!». مرر ميمون الطيار لسانه على أسنانه حتى بدا كبلغةٍ قديمة. والتفت صوب جهبور وسأله:« ما سبب تلك الكدمات على وجهك يا بنيّ؟». أجاب جهبور ثائرا:« تلك الفصيلة الحقيرة من الأشجار! كلما مررت بجانبها إلاّ ورمتني ببعض فواكهها. اليوم كان بئيساً. فقد كانت صواريخها أقوى». اقترب منه ميمون وانحنى حتى بدا كحصان كبير وهو يقول:« دعني أشافيك فأنا عفريتٌ مصريٌ ولذي بعض التعاويذ السحرية التي نقلتها عن بعض البرديات الفرعونية..». و شرع ينفث لعابه على وجه الولد ثم مرر لسانه على كدماته. وأبعد رأسه قليلا ًوهو يغمغم بكلمات غير مسموعة، في حين كان جهبور يقول في نفسه:« كفى أيها الشيخ الهرم. فلسانك مشوك مثل لسان بقرة!». وأبعد الحارس لسانه وبدأ يتفرس وجه جهبور حتى شك هذا الأخير أنهُ اخترق دهنه. وتساءل ميمون وهو يلفظ أنفاسه الكريهة على وجه التلميذ:« وما السبب الذي جعلها ترجمك بفواكهها؟». أجاب جهبور بامتعاض وهو يمرر راحة يسراه على وجهه متفحصاً مكان الكدمات:« هذه الأشجار الممقوتة تعتقد أنه مادمت قد تبوّلت على شجرة سفرجل. فإنني ملزم بغرس فسائل نوعها فقط. أنظر يا سيدي الصراع موجود في كل مكان.. شخصياً أقسمت ألا أغرس فسائل نوعها. فالحكم لم يلزمني بغرس نوع محدد!..(وضحك جهبور) من حسن حظي أنني لم أتبول على شجرة الكوكو، وإلاّ كنت الآن في عداد القتلى!».

فكر بوجا في تكليم جهبور الذي كان قد جفاه منذ الجلسة الثانية من المحاكمة. حيث طفق يحسب أن صديقه ضليع في السرقة. غير أن هناك ما لفت انتباههم أجمعين فقد أحس بوجا مثلاً ببطنه ينتفخ. فالتفت فإذا بالأستاذ عبقور قد وصل خلف الجماعة وهو يسري مرتفعاً عن الأرض ببضع بوصات. لم يفلح الأستاذ في نفخ بطون الحراس كل ما حدث أن شعر رؤوسهم قد انتفش شيئاً ما.بل كانت مقدرته على ذلك محل استهزائهم. فقد بدا مثل شخص أراد نفخ عجلة جرّار بأداة ضغط صغيرة جاهد عبقور نفسه ليرتفع قليلا. حتى دنا من أذن ميمون وهمس فيها. حدَس بوجا أنه يريد حثهم على التشدد في حراسته.أراد جهبور أن يخترق عقل الأستاذ حبا في الاستطلاع. إلاّ أنه وجده موصدا بالتعاويذ الكثيفة. وشعر عبقور بمحاولته، فحدجه بنظرة قوية احترقت معها رموش عينيه. وسار يوبخه:« أنت تريد التجسس على ذهن أستاذ رائد في الأكلومينسي#. ألم تقرأ كتابي:" الأكلومينسي وتحديات القرن الرابع والعشرين"؟».
ارتعدت فرائص جهبور حتى بدأ يُسمع صرير اصطدام الفأس بالمعول، المعلقان في عنقه. وخفض رأسه وقد تبددت كلمات الاعتذار من لسانه. وعلى مضض تحول غضب الأستاذ إلى ابتسامة قوية وهو يودع الجماعة. ويربت على ركبة أحد الحراس حيث ثمة وصلت راحته، ويردد:« هيا استعدوا لقد وصلتم صخرة مولاي بوعزة».

حول أحد الحراس سبابته إلى فرشاة. وشرع يغسل أسنانه بسرعة وهو يتكلم ويقفز في مكانه:« سأوأبِّلها اليوم..سؤأبِّلها..». وفرغ من ذلك، وبدأ يتضح كلامه: « سأقبلها اليوم..سأقبلها.. مفتشة سيرتي جنيتي الحلوة!. أنا سعيد لأنني سأعبر عبر التماثيل المسحورة. مفتشة سيرتي تتجسد لي في صفة "عيشة قنديشة"#. تلك الفاتنة الباهرة، الشهية البهية..(وارتفع صوته) شكرا بوجا فبدونك ما كنت سأحضر هذا المهرجان!..». إلاّ أن ميمون الطيار قاطعه:«أمممم..عيشة قنديشة. من سمعك تتحدث هكذا، يعتقد أنك تتحدث عن عشتروت#. في حين أنها أقبح جنية شاهدتها في حياتي. حتى إنسان عينها رأسي».

رد صاحب عيشة بامتعاض وقد بدت عيناه تتوهجان:« صه يا ميمون الثرثار. فأنت لا تفقه شيئاً في جمال الجنيات.لا أظن أن إحداهن تملك صدرها إنه كلبان الفرس. ومهما كنتَ تراها قبيحة فقبحها يوقظ عفريتيتي!».

«يتبع»

الحلقة الرابعة: أيــــــامــــــه السّوداء؟

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى