الخميس ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥
بقلم تيسير الناشف

غلبة السياسي المحترف على المثقف عامل في تخلف المجتمع

شخصية الإنسان معقدة. ومعنى تعقد الشخصية أن لها مكونات مختلفة تتفاعل فيما بينها. وبما أن التفاعل قائم فهو مستمر. وهذه المكونات مزيج من الصفات الموروثة والمكتسبة. وتختلف هذه المكونات بعضها عن بعض قوة وضعفا، رهنا بعوامل منها طبيعة ومدى قوة أو ضعف الظروف السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية والنفسية والتاريخية الداخلية والخارجية التي يعمل الانسان تحت تأثيرها. ومن طبيعة هذه الظروف كلها انها دائمة التفاعل وبالتالي فهي نشيطة (دينامية).

لدى كل إنسان قدر من صفة العالم والباحث ومن صفة الشاعر ومن صفة المشْرفوالمدير والناقد ومن صفة السياسي والمثقف. غير أن الاختلاف بين الشخصيات يتجلى في حجم كل مكون من هذه المكونات. إن الصفة الرئيسة التي يتصف بها السياسي المحترف، مثلا، هي أن توقه إلى ممارسة أكبر قدر من النفوذ وإلى تولي السلطة الحكومية وغير الحكومية، أو الرسمية وغير الرسمية، توق طاغٍ، بينما يكون هذا التوق لدى الأشخاص غير السياسيين أقل طغيانا. وكلما ازدادت هذه الصفة لدى الإنسان قوة ازدادت فيه صفة السياسي المحترف تعزُّزاً وبالعكس. وفي شخصية السياسي المحترف مكون النزعة إلى الاستفادة من الممكن والواقع أكبر من ذلك المكون في شخصية المثقف، مثلا، ومكون الاهتمام بالقضايا الشخصية أكبر من ذلك المكون في شخصية المثقف. وفي شخصية المثقف تكون النزعة إلى النقد أكبر من ذلك المكون في شخصية السياسي المحترف. وفي شخصية المثقف مكون النزعة إلى التغيير أو عدم التغيير لاعتبارات عامة أكبر من ذلك المكون في شخصية السياسي المحترف الذي مكون النزعة فيه إلى البطش بالخصوم أكبر من ذلك المكون في شخصية المثقف. في شخصية المثقف قدر أكبر من الارتداع عن البطش بالذين يخالفونه الرأي وهامش أكبر من التسامح أو التغاضي أو صرف النظر.

ولاختلاف مكونات شخصية المثقف وشخصية السياسي المحترف تختلف طرق العمل وأساليب التعامل مع الناس والأشياء. بحكم شخصية السياسي المحترف لديه قدر أكبر من الاستعداد لأن يغلّب ما يريد تحقيقه على مراعاة مقتضيات مُثُل معينة. ولدى السياسي المحترف، بسبب حافزه القوي على ممارسة النفوذ، قدر من النفوذ في المجتمع والدولة أكبر من نفوذ المثقف. وبذلك النفوذ يستطيع السياسي المحترف أن يحقق أغراضا لا يستطيع المثقف أن يحققها. ويحتاج المثقف أحيانا غير قليلة إلى السياسي المحترف رغم أنه - أي المثقف - قد لا يقبل بالوسائل التي حصل بها السياسي المحترف على النفوذ الذي يجعل المثقف في حاجة إليه.

ولهذا الاختلاف في مكونات الشخصية بين السياسي المحترف والمثقف وأيضا لاختلاف طرق العمل وأساليب التعامل مع الناس والأشياء يشوب التوتر العلاقة بينهما، وبسبب هذا الاختلاف لدى المثقف أسباب لرفض مواقف ووجوه سلوك يتخذها السياسي المحترف أكثر من الأسباب التي لدى السياسي المحترف لرفض مواقف ووجوه سلوك يتخذها المثقف.

وبالنظر إلى أن للظروف الاجتماعية والنفسية المذكورة أعلاه وغيرها المتفاعلة أثرها في تحديد قوة طغيان هذا التوق إلى تولي السلطة فإن شخصية السياسي المحترف دينامية وشخصية الإنسان غير السياسي المحترف دينامية، والعلاقة بين السياسي المحترف والإنسان غير السياسي المحترف دينامية.

ويوضح ذلك أن تكوين شخصية السياسي المحترف وشخصية المثقف يتوقف على شتى الظروف المتغيرة باستمرار وأن مدى التوتر بينهما ايضا متوقف على تلك الظروف. وبحكم هذه الحالة فإن العلاقات بين السياسي المحترف والإنسان غير السياسي المحترف يمكن أن تكون من سماتها العديدة استبعاد السياسي المحترف للمثقف أو تقريبه منه أو علاقة لا تنطوي على الاستبعاد أو التقريب.

ولمعرفة شخصية المثقف وشخصية السياسي المحترف لا تكفي معرفة المكونات جميعها في شخصية كل منهما، ولكن من اللازم أيضا معرفة أثر كل مكون من هذه المكونات وهي تتفاعل مع مجموعة الظروف المتغيرة باستمرار. وأثر تلك الظروف في مكونات الشخصية يتغير أيضا تبعا لتغير أثر تلك الظروف بعضها في بعض، مما يجعل أثرها في مكونات الشخصية مختلفا، وبالتالي تتغير أيضا القوة النسبية لكل مكون من هذه المكونات.

يبين هذا العرض أن مفاهيم الشخصية بمكوناتها المختلفة وفي الظروف المختلفة وفي التفاعل بين هذه المكونات والظروف مفاهيم ذات صبغة دينامية وليست ذات صبغة ساكنة ثابتة. والوجه الثابت في تلك المفاهيم أنها دينامية. ولا مفر من معرفة هذه الصفة لمعرفة طبيعة العلاقات الاجتماعية، ولمعرفة شخصية السياسي المحترف وشخصية المثقف والإنسان الذي يتوفر لديه قدر أقل من الثقافة. ولا يمكن الإتيان بفكر وصفي وتحليلي وتفسيري وتنبؤي بدون معرفة هذه الصفة الجوهرية التي تتصف المفاهيم بها. وبعبارة أخرى، لا تمكن معرفة الواقع والحقيقة بدون معرفة هذه الصفة.

وثمة انشقاق فكري في شتى مجالات النشاط البشري. وبالانطلاق من مفهوم وحدة الظواهر الطبيعية ومن افتراض وحدة الظواهر الاجتماعية الأساسية فإن ذلك الانشقاق الفكري دلالة على النقص في المعرفة البشرية وعامل هام في عرقلة تحقيق المعرفة الأتم لهذه الظواهر. وابتغاء إضعاف صفة الانشقاق الفكري أو إزالته من اللازم الأخذ بمفهوم دينامية المفاهيم الاجتماعية على النحو المبين أعلاه. وبهذا المفهوم لا يوجد استقلال تام للمثقف أو السياسي المحترف أو لحرية العمل السياسي أو الثقافي أو النقد التام أو الحرص الكامل على المصلحة العامة أو المصلحة الخاصة أو التأخر التام أو التقدم التام. فهذه كلها مفاهيم ذات صبغة دينامية. وبالنظر إلى دينامية صبغتها فهي مفاهيم نسبية، نسبية إلى قوة حضور شتى المكونات المتشابكة المتفاعلة لظاهرة من الظواهر وحضور شتى العوامل المتشابكة المتفاعلة فيما بينها في ظواهر أخرى لها أثرها المتغير في تلك المكونات.

وفي الأراضي العربية لا توجد تقريبا فئة المثقفين المستقلين، لأن استقلال أو عدم استقلال المثقف - ونحن نتكلم هنا عن الاستقلال بمفهومه النسبي إذ لا يوجد استقلال كامل - يقترن بنشوء بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة تتيح قدرا من حرية الإعراب دون خوف عن الرأي المستقل النقدي. ومن هذه البنى نشوء المجتمع المدني ووضع وإرساء الكوابح والضوابط التي تطبق على المؤسسات السياسية الرسمية وغير الرسمية والحكومية وغير الحكومية. والمجتمع المدني وتلك الكوابح والضوابط ضعيفة في العالم العربي. وبالتالي لا يتمتع المثقفون باستقلال الفكر النقدي. ومن هذه الحالة تعاني أية فئة أخرى يتمتع الاستقلال الفكري النقدي بأهمية في أدائها لدورها المهني أو الاجتماعي.

وتعرقل هذه الحالة التطور السليم للمجتمع لأن المجتمع لا يمكن أن يتطور تطورا سليما بدون توفر استقلال الفكر والنقد اللازمين لتسليط الضوء على بدائل السياسة وبدائل العمل المتاحة ولإتاحة الحوار الحقيقي بين الآراء لما فيه مصلحة المجتمع.

وبالنظر إلى أن نواحي مختلفة في الحياة العربية، بما في ذلك الحياة السياسية، لا تزال تتسم بالمحافظة ولا تزال التقاليد مسيطرة عليها، وبالنظر إلى أن المجتمع العربي الأبوي غير الحديث وغير الديمقراطي في أغلبه يشكل المرتع المناسب لبقاء أصحاب المصالح السياسية الرسمية وغير الرسمية في مواقع السلطة السياسية، وبالنظر إلى أن الفكر النقدي المستقل الموضوعي لا بد من أن يستهدف تغيير هذه الحالة أو تعديلها فإن أصحاب هذه المصالح يناهضون استقلال الفكر واستقلال النقد الفكري ويعملون لتهميش وإزالة دور المثقفين الناقدين المستقلين في المجتمع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى