الأربعاء ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم أنمار رحمة الله

هذا ما حدث في المقبرة

-1-

حين شتل صديقي المعتوه فكرة ً كهذه ،وراح يسقيها /يشذبها /مداريا ً أرضها المليئة بالخصوبة،لم يكنْ باستطاعتي أن أعانده،أو حتى أن ارفض مبدئيا الفكرة ،والفضول ُ القاتل الذي أطل برأسه عبر نافذة ِ القلق،هو الآخر لعنتي التي دفعتني لكشف ِ التفاصيل أكثر ،ورفع الخمارِ عن وجه المخفيات والمجاهيل. الغروب ُ يبتلع ما تبقى من النهار المغادر بلا استئذان، والشوارع تستعد لتوديع الخطى السائرة،وأنا أنهيت آخر سيجارة في علبتي التي غادرتني هي الأخرى. انتبهت لجفاف شفتيّ الراجفتين ،وتلعثم لساني ،وشهوة أعوام ؛ تمزق أحشائي ، وصديقي عاكفٌ على الاتصال بتلك التي وعدته بالمجيء ،متخفية ً بعباءة الليل المبهم.لا اعرف لماذا تخترقني أنظارُ المارة كسهام ٍ نارية ، ويصيبني شعورٌ أن الجميع يعلم بسرنا،ونيتنا المبيتة ،تلك النية التي شارفنا على ذبحها ،وتفريق لحمها الآثم على شعوب من الجياع ، تضج في غابات ِ الرغبة والوصول.

أنها الثامنة)همست في أذنه محذرا ً،فطمئنني واثقا ً من مجيء فتاة الليل،ثم سألني عن ترتيب مكان اللقاء .؟أجبته :لا

لطم صديقي جبهته ثم جلس على دكة الرصيف لاعنا ً ساعة تعرف فيها علي،وقال لي: ماذا سوف نفعل يا أستاذ.؟ الم تعدْني بان المكان واقتناصه مهمتك،وانك رتبت كل شيء ) لم اجبه ،بل صمتُّ طويلا ً واقترحت عليه فكرة َ الذهاب إلى منزلهم ،لطم جبهته مرة أخرى وقال :هل جننت .؟أي منزل .؟لا استطيع.

صمت قليلا ثم انفجر قائلا :وجدتها..لا مكان لنا سوى مقبرة الانجليز القديمة .

الرعشة ُ المتصاعدة ُ من جوف صدري ،واتساع ُ احداقي ،جعلتني أقفُ رافضا ً بشكل قاطع هذه الفكرة ،محذرا ً صديقي المتصبب عرقا ً وحيرة واصفا ً إياه بالجنون ،وهل ضاقت السبل حتى نتورط في اكتشاف لذتنا الأولى بالقرب من رائحة الموت،وحسيس الأموات. أجلسني إلى قربه وهو يبرر رفضه للفكرة أيضا ،ولكنها البديل حيث اللامفر منه،تحسست جيبي لاشعوريا ً باحثا ً عن سيجارة أخرى ،فتذكرت نفاذ العلبة .طلبت منه سيجارة /أعطاني واحدة/أشعلها لي /والتقط فمه أخرى /نظرنا كل واحد للآخر بنظرة يملؤها اليأس والحزن،رأيت في عينيه ضياعي وحرماني ،وهو الأخر طالعني كقارئ الحظ التعيس،أبتسم/ابتسمت/رمى سيجارته/رميت/نهضنا مسرعين .

-2-

المقبرة ُ القديمة هي آخر ما تبقى من الانجليز(القوات التي دخلتْ لتحرير/احتلال/ مدينتنا).البقعة المهجورة ،يملؤها جيش كثيف من القصب الشائخ،وسياج يوحي بقدم المكان،كم استفزت المقبرة ُ قلوبنـَا الطفولية في عهد ٍ مضى،فلم نجرؤ على دخولها ،بل لم نجرؤ على سماع قصصا عنها ،وكيف تلبست أرواح الموتى في الكثيرين ممن شاع عنهم المس، بل نقل لنا رجال ونساء ابتلعهم الدهر ،إن تلك المقبرة فيها حارس يحرسها ،ولعنة قد تصيب كل من ينوي دخولها ،لتخويفنا ونهرنا عن الذهاب إليها سرا(كل هذه الأقاويل روجها (شقي المنطقة) كي لا يفسد أحد عليه خلوته فيها ،حيث كان هو وزمرته يرتادون المقبرة ليلا لقضاء ملذاتهم الممنوعة عرفا وشرعا)وها أنا ذا ادخلها مع معتوه وفتاة غريبة(حورية ..هذا اسمها ) دفعتها الحاجة ُ لمرافقة ِ كلينا حتى الموت،من اجل ورقة ٍ نقدية .لعلها يائسة من الحياة فلم تكترث حتى لمكان الرذيلة ..كحالتنا وعصابة الشهوة التي عصبناها على أعيننا.أنا وصديقي التائه مثلي كنا دائمي الخلاف والاختلاف ،حول ابسط ِ الأشياء ، بتفاهتها ورخصها .ولكننا هذه المرة اتفقنا على ذبح (حورية)غير آبهين .

لسان ُ الشارع لـَحَسَ المارّة َ ،ووقتنا الراكض كالغزال نحو غابة الليل،لم يمهل اللاهثين فرصة في ترتيب أفكارهم،أوقفت صديقي وهمستُ في أذنه :هل أنت واثق من مكاننا هذا).
غمز بطرف خده الملتصق بوجهي ورد قائلا: لا) تسمرت في مكاني وعاجلتني رغبة ُ الرجوع،ولكنها وأدت تحت تراب اللذة المنفلتة،ولم افهمْ سرَ التواصل ِ برغم المخاوف والمصير المجهول.ذهابنا ورجوعنا عدة مرات ٍ في شارع أو شارعين ،اتعب ساقيّ النحيلتين،والفتاة ُ راغبة في إنهاء هذا الفلم التعيس .ألان حانت الفرصة لدخول المقبرة فلا يوجد غير شبحي رجلين أعطيا لنا ظهريهما وهما متجهين عكس الطريق )قال صديقي وهو يهمُّ ماسكا ً ذراع َ الفتاة بقوة ،قاصدا باب المقبرة المفتوح على النصف نتيجة الإهمال،دخلت خلفهما تابعا ومغطيا الطريق بلحاف الحذر ،رافعا بصري للأعلى ،ناظرا لما هو مكتوب على باب المقبرة ،أنها لغة غير لغتنا،لم افهم شيئا منها ،رائحة القصب والطين ،تسيطران على المكان ،أجول بفكري سارحا في المكان الموحش ،خائفا حتى من ظلي،الليلة مع سوء حظنا ،كانت مقمرة حد الفضيحة الكاملة،وصديقي الذي افترش مكانا يبعد عن عيني عدة أمتار ،راح يمارس هوايته من تقبيل وملامسة ،وأنا متسمر في مكاني ارتعش كهاتف نقال،مستجمعا ما لدي من قوة وتركيز ،لمواجهة ما سوف أواجه،تأخذني رجلاي على مهل ناحية قبر قديم نُقِشتْ عليه لغة ٌ لم افهمها ،راودني إحساسٌ أنها عبارة ُ (هنا يرقد بسلام الفقيد ....)وقبر آخر مكتوب على لوحته (هنا يرقد بسلام فلان...) وآخر ..وآخر . وصديقي المجنون وفتاتنا المستسلمة ،يصدران عنفا وشبقا وعدم اكتراث للمشهد.

حاولت أن استجمع قوة َ النظر ،لمعرفة الوقت من خلال ساعتي ،ولكني لم افلح ،أنفاسي قريبة مني ،وصوت قلبي يخفق كالطبل ،انتظر دوري في إطفاء حريق جنوني ،والتحدث /والافتخار به يوما أمام من يتهم رجولتي . القمرُ المتلصصُ يزفر تأوها ً ،القصبُ الشائخ يعجز تقريبا ً عن ستر عورة شابين وأنثى غريبة المنظر والحال.هناك عند انتهائه ؛جاء مترنحا /منتشيا/فرحا/ناصحا لي أن أأخذ وقتي ،واستجمع ما تكسّرَ من زجاج أفكاري،توجهت نحو الفتاة النائمة بلا حراك،دنوت منها طالبا منها العون (فهذه أول مرة اكتشف فيها جزيرة)،مسكت يدها ؛ ففاجأتني ببرودة واحتقار،لم افهم في البداية ،ولكني حين قبلت خدها ونزلت مرتجفا ،وراعشا ،إلى الأسفل ،حيث العنق البلوري المخفي ،تفاجأت من جديد برائحة سبق وان شممت مثلها،رائحة يحملها كل واحد منا ،بالطبع لم اغفل عنها ..! ..أنها رائحة الدم.

-3-

حالة الذعر وجنون الموقف الصادم قلبي كقطار سريع،جعلني انهض مفزوعا وصورة صديقي تراود ذهني ،ماذا فعلت بها)صرخت ..فنهرني صديقي عن الصراخ،واضعا كفه المترب على فمي وشفتي المرتجفتين،لم افعل شيئا ..اصمت أيها الأحمق وإلا فضحتنا..ماذا دهاك)كلمات أطلقها صديقي وأنا أشير لمكان الفتاة السابحة بالدم ،هرول نحوها ووقف ثوان ،هبط بكل ما يملك من قوة على صدرها مفتشا ً عن أمل في النجاة فلم يعثر عليه هناك.

لم افعلْ شيء لم افعلْ شيء)ردد صديقي خائفا /باكيا ومولولا،جلس بجوار احد القبور القديمة ناحبا على حاله ،بل حالنا جميعا ،كيف سنخرج من هذه المعضلة.؟ ،وعبر أي طريق ياترى..؟؟،فكرت قليلا استدرت نحوه ،ورأسي مليء بالأفكار والمطبات والخوف الكامن ،هل ياترى لعنة هذه .؟؟أم أنها الأرواح .؟هل صديقي كاذب في ما يدعي.؟أم بالفعل انه يومنا الأخير في عالم الطمأنينة ،قفزت في رأسي فكرة دفن الفتاة ؛ونحن في المقبرة ،وهي غربية ،أنها الفكرة الأمثل للخلاص والحياة،توجهت نحوه طالبا ًمنه الاستماع لمخططي الجديد،همست له/كلمته/ناديته باسمه فلان ..فلان/لم يجب.!دفعني الفضول نحوه ،هززت كتفه ؛فوقع جثة هامدة لا حراك فيها ،وقد تدفق من عنقه الدم كنافورة شيطانية حمراء،رجعت للوراء ثم وقعت على مؤخرتي ،صارخا بكل قوتي ،ماذا يجري هنا ،رباه ساعدني ،أنها اللعنة ،لعنة الأموات ،أم روح ٌ تدور تقتل فينا في كل حين من دون أن نشعر،كيف أنجو .؟كيف أنجو.؟) أتحدث مع نفسي باكيا كالطفل المرعوب،هناك وأنا جاث على ركبتي ،لمحت شبحا يدنو من بعيد /متشحا بالسواد/ملثما/ لم أرَ غير عينيه المليئتين بالوميض،حاملا بكفه اليمنى خنجرا طويلا معقوف النهاية،وفي اليد الأخرى سلسلة تلمع مع ضوء القمر الصارخ ، قذف الإرهاب َ في بدني دفعة ً واحدة ،خاطبته متوسلا:

 اتركني أرجوك )لم يجبني سوى انه هزَّ رأسه رافضا ،ومشيرا إلى عنقي ،لم أتحرك أبدا ،خوفي أجبرني على الركوع وتسليمه رقبتي في هدوء،آخر شيئا شاهدته طرف خنجره الحاد،يقترب نحو رقبتي ،والقمر الملتصق بجبهة السماء، يعد مع النجوم مجلسا للعزاء.

جلست مرعوبا على صوت رسالة أتتني من الهاتف النقال، اعتدلت في جلستي/دلكت عيني /قرأتها :

جهز نفسك الليلة ،اتفقت مع الفتاة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى