الأحد ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم رضا سليمان

ابن الجنية

حكاية من أعماق الريف المصرى
 
فى منتصف أغسطس تخطت الساعة الثانية ظهرا، ارتفعت درجة الحرارة إلى أعلى معدلاتها مما جعل الجميع يهرب من شوارع القرية إلى البيوت، فإذا بالقرية تشبه تلك القرى المهجورة الخاوية التى تظهر فى الأفلام حال حظر التجوال، أوت الكلاب الضالة إلى أركان ظليلة، العصافير هدأت فى أوكارها، ساد صمت قاتل على قرية صاحبنا.

تأكد صاحبنا من أن والده قد استقر فى حجرته بعد الغذاء يلتمس بعض الراحة وما أن أغلقت الأم باب الحجرة خلفها وسمع قرقعة السرير حتى تسلل من البيت خارجا إلى الشارع، عدة خطوات بدأ بعدها يشعر بلهيب الشمس وشعر معها بسعادة فابتسم وهو يسير فى ظل البيوت.

وقف متواريا خلف شجرة أمام أحد المنازل، أطلق صفير متقطع عدة مرات.
بعد دقائق كان صاحبنا يخرج من القرية بصحبة ثلاثة من أقرانه وهم فى حالة نشوة، فما هى إلا دقائق وتتحقق لهم السعادة التى اتفقوا عليها أمس.

بقدر ما كان اقترابهم من مصدر سعادتهم يقترب بقدر ما كانت قريتهم تتلاشى خلفهم.
دار بينهم حديث عذب عن الأمانى والمستقبل الأخضر الموشى بالزهور، حديث لم تطله يد الأحقاد بعد، وانطلق صاحبنا متحدثا عن أمنيته التى طالما تحدث بها:

لا أريد أكثر من العيش فى هدوء مع زوجة ممتلئة الصدر..

فيضحك أحد الرفقاء معلقا:

أما أنا فأريد الزواج براقصه.. 

يضحكون جميعا ويسأله صاحبنا:

ولماذا راقصه؟

الراقصة ستمتعنى وحدى بكل ما تملكه من مهارات فى حياتى الدنيا وبعد وفاتى سوف أدخل الجنه بسببها..

لماذا؟

لأنها سوف تتوب على يدى..

تتعالى ضحكاتهم وهم ينطلقون بين الحقول حتى يصلون إلى الترعة الكبيرة والتى يقصدونها للاستحمام فى مثل هذه الأيام من كل عام.

باستمرار كانت هناك مشاكل بين صاحبنا واقرانه وبين أهاليهم بسبب الاستحمام فى الترعة الكبيرة، فهى ذات عمق كبير ومن لا يدرك السباحة سيغرق فيها حتما.

كثيرا ما دارت حول الترعة الكبيرة الحكايات ونٌسجت الاساطير، ففى أعماق الترعة الكبيرة تسكن الجنية التى سوف تسحب ضحيتها ممن يستحمون فى الترعة، وهذه الجنيه شاهدها الكثير من الأهالى حال عودتهم إلى القرية فى الليالى المظلمة، فقد شاهدها أحدهم تجلس أسفل شجرة التوت وهى تمشط شعرها الطويل وقد نظرت إليه بعينيها الحمراوتين والمفتوحتين من أعلى إلى أسفل وابنها فى حجرها..

وقيل عن أحد رجال القرية بعدما كثـُر خروجه ليلا وسهرة بجوار الترعة الكبيرة، قيل عنه أنه قد تزوج من هذه الجنيه وأن هذا الجنى الصغير ابنه، وهذا ما سبب الكثير من الرعب لدى الأطفال عند رؤيتهم لهذا الرجل، فذات يوم شاهده أحد الأطفال فتوارى فى ركن حتى يمر الرجل، لاحظه الرجل فنظر إليه غاضبا فهرول الولد صارخا إلى أمه وهو يقسم أنه شاهد الشرر ينطلق من عينا الرجل ولم يستبعد أن الجنيه هى التى كانت تمر أمامه وقد تمثلث فى شكل هذا الرجل.

لكن هذه الحكايات لم تمنع صاحبنا وأقرانه من التسلل فى الأيام شديدة الحرارة إلى الترعة الكبيرة للاستحمام و اجراء المسابقات فى السباحة والمرور إلى الشاطئ الآخر للترعة وهى مسافة تصل إلى الخمسين مترا إن وضعنا الانجراف مع التيار فى الاعتبار.

وصلوا جميعا إلى الترعة وخلعوا ملابسهم إلا مما يستر عوراتهم، وهنا وقف صاحبنا فى حيرة من أمرة، فكيف ينزل الماء بـاللباس الداخلى؟ ففى هذه الحالة سوف يبتل اللباس بالماء وسيتسرب الماء إلى الملابس الخارجية وتبتل هى الأخرى وتكون دليل ضده يرشد والديه إلى أنه خرج للاستحمام فى الترعة الكبيرة و وقتها تكون الطامة الكبرى.

ببساطة شديدة خلع أحدهم لباسه و انطلق كما ولدته أمه قافزا فى الماء وهو يصرخ من فرط السعاده ويغطس ويقب مناديا عليهم بالاسراع فيقفزون خلفه الواحد تلو الآخر.
خلع صاحبنا لباسه وصار عاريا تماما لحظة امتدت يده توارى عورته بلا ارادية ثم قفز خلفهم إلى الماء.

علت الصيحات والسب والقذف وتناثرت الضحكات مع قطرات الماء التى اطفأت لهيب الشمس.
وبدون اتفاق انطلقوا يسبحون إلى الشاطئ الأخر من الترعة الكبيرة، فأسرع صاحبنا بكل همة ونشاط حتى يصل أولا، قاوم سرعة التيار وتلاحقت أنفاسه وخلفه باقى الرفاق وقد تملكتهم روح المنافسة.

فجأة توقف الرفاق فى الماء على اثر صيحة أتتهم من الخلف، نظروا فإذا بوالد أحدهم وقد وقف على الشاطئ حاملا كل الملابس والأحذية بين يديه وصدره هاتفا بأعلى صوته ومتوعدا ابنه.
وقف الأولاد فى الماء يسبحون دون تحرك من المكان وقد تمكنت منهم الدهشة الممزوجة بالخوف من هذا الرجل.

ارتبك صاحبنا خوفا من وصول الخبر إلى والديه ووقتها ستكون هناك " علقه معتبرة "..
لم يستمر كثيرا فى البحث عن وسيلة يدبر بها أمر العلقة المعتبرة، فقد يئس الرجل من عودة ابنه إليه فحمل كل الملابس والأحذيه وركب حماره ورحل عائدا إلى القرية.

يا دى الوقعة السودة.

قالها صاحبنا فى نفسه وهو يرى الرجل يرحل حاملا معه كل ملابسه ويتركه عاريا كما ولدته أمه.. تمنى فى هذه اللحظة أن تهبط عليه أمه من السماء ومعها أى قطعة ملابس..
ما كنت فضلت باللباس؟! كنت خايف إن اللباس يبل باقى الهدوم؟! أهو ما فيش هدوم خالص..

ظل صاحبنا يردد فى نفسه هذه الأقوال وغيرها حتى وصل إلى الشاطئ الأخر هو ومن معه.
بعد فترة الراحة بدأت رحلة العودة إلى الشاطئ الأول، وما أن وصلوه حتى أسرعوا الخطى بحثا عن أى قطعة ثياب تكون قد سقطت من الرجل، دون جدوى..

جلس صاحبنا متواريا بين أعشاب الشاطئ هو والأخر الذى سبقه وخلع لباسه ووقف الثالث والرابع فى شجاعة ومنتهى السعادة فقد كانا يرتديان ما يوارى سوءاتهما.. نظر صاحبنا إليهما نظرة حسد.. الأن فقط عرف قيمة اللباس..

ظلوا هكذا بعض الوقت إلى أن اقترح أحدهم بأن عليهم العودة إلى القريه..
كيف ونحن على هذه الحالة من العرى؟

أنا أرتدى لباس وسوف أذهب إلى دارنا وآتيكم بأى قطع من الملابس تسيرون بها حتى منازلكم.

لم يكن هناك بد من الانصياع غلى هذا الرأى.. لكن صاحبنا توقف لحظة مفكرا ثم قال لمن يرتدى قطعة الثياب:

عليك أن تسبقنا لتأتى بالمطلوب حتى نصل نصل نحن إلى أطراف القرية ونتقابل هناك.
أسرع الفتى ومشى الآخرون على مهل وصاحبنا لم يرفع يديه عن عورته الأماميه متناسيا مؤخرته..

كانت أشعة الشمس القاسية قد ألهبت جلودهم لكنهم لم يهتموا كثيرا بهذا الأمر فهناك خطب جلل، هناك مصيبة فى انتظارهم.. إنهم الأن بلا ملابس.. بلا مأوى.. لحظات وتنكسر حدة الشمس وتخرج الأفواج من البيوت ويشاهدهم الكبير والصغير عرايا..

دى مش علقة وبس.. دى فضيحة يا رجاله..

قالها صاحبنا وهو يحبس دمعه حاولت الفرار بالرغم منه، واساه أحدهم بأن صديقهم سوف يعود بالملابس وينتهى الأمر وإن رسيت على علقة تبقى علقه تفوت ولا حد يموت.
وصلوا إلى أطراف القرية ولم يجدوا لا صديقهم ولا الملابس، شاهدوا سيدة تقترب حاملة طشت.. جرى صاحبنا للاختباء فى الحقل المجاور وخلفه رفيقه العارى وبقى الثالث مكانه.
دخل صاحبنا بين الأشجار ليتوارى ولم يشعر بأى شئ فى الوهلة الأولى فتركيزه كله كان متجها نحو السيدة وهل شاهدتهم هكذا أم لا..؟

لحظات وهدأت أنفاسه بعدها بدأ يشعر بوخز رهيب فى مختلف أنحاء جسده فقد كان يختبأ بين اشجار الباميه، وهذه الأشجار بها أشواك دقيقة لا ترى بوضوح ولكنها كانت كافية لأن تجعل صاحبنا يتنطط مكانه صارخا صراخ مكتوم وهو يقول:

هو أنا كنت ناقص الباميه وشوكها كمان؟ دى كانت حُمايه طين..

وصديقه يهمس إليه طالبا الصمت، أتت السيدة وألقت ما فى طشتها من مخلفتها وقاذورات، ثم التفت إلى رفيقهم باستياء ولم تملك نفسها من الاندفاع، فسبته وكالت له من المنقى خيار كما يقولون:

إنت فرحان بنفسك يا ابن ستيته الهبله؟ وحياة النبى لا أنا قايله لأبوك قدام الرجاله فى القهوه..

ها تقولى له أيه؟

هاقوله ابنك الهلف واقف لى بلبوص من غير خشا ولا حيا..

وظلت تردد الكثير من العبارات كان أخر ما وصل منها إلى صاحبنا المدفون وسط الباميه:
بالذمه الواد دا ما يحبل مره م الصبح؟! أمال يا ختى واقف كدا ليه؟

وقف صاحبنا يشكر الله فى قلبه، كل هذا حدث لرفيقه الذى يوارى سوأته، فماذا عنه لو رأته هكذا؟؟

لم يستغرق فى أفكاره كثيرا حتى سمع صوت حركه يأتيه من الخلف، فالتف ناحية مصدر الصوت فإذا به يشاهد صاحب حقل البامية وقد أتى ليجمع ثمارها..
يعنى حبكت؟؟

صارخا قالها صاحبنا ولكنها لم تخرج إلى الوجود، فقد شاهده صاحب الأرض شاهده هو ورفيقه عرايا.. وقف الرجل مذهولا لحظات ثم انطلق خلفهم ليكيل لهم بيده ولسانه لم يتوقف عن القذف:

بتعملوا أيه فى أرضى يا ولاد الكلب يا نجاسه..

جرى صاحبنا ورفيقه دون أن يدركا سبب ثورة الرجل حتى خرجا من حقله و وقفا على الطريق المجاور، اقترب الرجل منهما مستمرا فى ثورته ولكنه ما أن رأى الأولاد الثلاثة وعليهما فتوة الصبا ونظر يمينا ويسارا ولم يجد أحدا من رجال القرية يكون رفيقة حتى توقف مكانه وظل يسبهم طالبا منهم الابتعاد ولكنهم لم يتحركوا، إنهم الأن ليسوا فى أرضه
إحنا واقفين فى مِلك الحكومة..

قالها أحد الأولاد بشدة جعلت الرجل يتراجع قليلا، تقدم صاحبنا للرجل يشرح له كى يستميله، فقد يحن قلب الرجل الذى يرتدى ملابس كاملة، ومن يعلم فقد يرق ويخلع لباسه ليعطيه لصاحبنا..

تقدم منه صاحبنا بهدوء وأخبره سريعا بما حدث، لم يهدأ الرجل ويبدو أنه توقع أن هدوءه سيكون ضعفا فظل على نفس حاله وعاد إلى أرضه ولم يتوقف لسانه.

تأوه صاحبنا بشدة وأشاح بوجهه عن المكان.. لمح من بعيد صديقهم الرابع قادما يسير على مهل مرتديا ثيابه كامله و يحمل على يديه بعض الثياب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى