الثلاثاء ٣ أيار (مايو) ٢٠١١
الباحث زهير الخويلدي
بقلم نور الدين علوش

بدأ الفكر العربي ينتفض من سباته

يصعب على الانسان أن يتحدث عن نفسه وأن يقدمها للآخرين خصوصا عندما يعيش طوال حياته تجارب اثبات الذات والصراع من أجل انتزاع الاعتراف وحينما يكون مغرما دائما بالتوجه نحو الفكر والارتحال نحو الظفر بمعنى الوجود.

المشكل هو أن التواضع في التعريف بالذات والتقليل من الحديث عن النفس يؤدي عادة الى ممارسة نوع من جلد الذات أو الانخراط في لعبة التخفي والغموض التي تنفرد بها الطبيعة على حد عبارة هراقليطس ، وان استفاضة المرء في التطرق الى انجازاته وتعديد الأعمال التي قام بها والاشادة بالمحطات العلمية التي اجتازها والتجارب النضالية والمعارك الوجودية التي خاضها هو وقوع في نوع من الافتخار الذاتي وانتاج خطاب مدحي أشبه بالنظرة النرجسية والاعتقاد
في الأناوحدية. فكيف يحكي المرء عن نفسه قصصا فلسفيا يند عن كل غلو أو تقصير وينأى به عن الشطط والتبديد؟ وهل تقتضي آداب المقابلة التفنن في الاطلالة أم اجادة الاعتاقة؟

لذلك كان سؤال من هو؟ يقتضي استدعاء لهذا الهو وليس الهوهو المطابق للتكلم بلسان حاله ونطق اسم زمانه وختم نمط وجوده في العالم ولوصف حال الفكر في المدينة التي يسكنها ويتدبر معاناة الأغيار الذين يعيشون معه في كرهم وفرهم. ان المرء بباسطة اختار لنفسه أن يكون كاتبا فلسفيا جوالا باحثا عن الحكمة معظم الوقت ومحاورا لطالبيها ومجادلا لمنافسيها ومتحديا مانعيها في بعض الأحيان. لقد هبط من جبال الشمال مزودا بقيم المغامرة والاقدام ومسكونا بالروح الشرقية الى المركز المتمدن على سبيل المجاز والموغل في الاقتداء بمعايير الثقافة الغالبة.

الكتابة الفلسفية ديدنه والاهتداء بالنصوص نبراسه والانشغال بهَمّ الزمان والانصات الى مشاغل الشبيبة وتطلعاتهم والتعرف عن كثب على مشاغل الناس وأشكال الزيف التي يعاني منها الفكر والعمل على التصدي الى موجات الاستهلاك والرطانة والصفاقة التي وقعت فيها الثقافة والاستغراب من ندرة التشجيع على الابداع وانعدام الاقبال على الاختراع والتشييد.

لقد تعلم الكاتب منذ ولادته المعرفية الثانية أن رسالة المفكر هي التحريض على الثورة ضد السائد والخروج عن المألوف كما يقول حسن حنفي وأن هذا الجيل مهمته هو أن يتعلم درسا في التخريب كما أنشد الشاعر العراقي مظفر النواب. ولكنه آمن بالفلسفة العملية باعتبارها فلسفة أولى وجعل من النقد والتفكيك سلاحا ضد الشمولية والتعصب واتخذ من الفينومينولوجيا والهرمينوطيقا منهجا لانقاذ الظواهر والعودة الى التجارب كماهي في ذاتها دون أحكام مسبقة وتأويلات مغرضة وجعل من الاتيقا الكبرى أفقا.

ربما استيقظ على اشكالية أساسية ذات يوم واستدعته الى أن يتحسسها ويثيرها ثم يبلورها وكانت في ثوب حالة الفكر زمن العولمة في حضارة اقرأ، جمع فيها ربما بين رصد الحالة واعادة التموضع في الزمان والمصالحة مع الذاكرة. كان التشذير هو الأسلوب من أجل الخلخلة والتدير وتحرير الذات من سلطة الميراث وغبار القدر وكان اقتفاء آثار المعاني أينما وجدت ولو على قارعة الطريق وليس في المعاجم والموسوعات هو الطريق المؤدي الى التفلسف.

لزومية العود على بدء كان الأمر الباطني الذي استيقظ عنده الفكر والاقبال على الوجود بغير تحفظ هو التمشي والمبادأة الجذرية هي المطلب الأسنى والربط بين النظر والعمل هي العروة الوثقى التي تلبي النداء وتجعل الفؤاد منشدا الى الفضاء العمومي وحاملا فانوسه في واضح النهار.

لقد اتخذ المرء لنفسه من الحيرة المقضة صومعة للتفكير وجعل النوايا الطيبة والقلوب المتقدة معينه الأخلاقي وكانت الفلسفة وطنه والعقل المحض في تفقده لرواقه هو الأداة وكانت السياسة والتربية والنقد الثقافي واليقظة النقابية هي المحك ومدار العمل. لا يهم ما يكونه المرء ولكن الأهم هو أنه يمضي ببطء نحو تنوير أصيل يؤثث في الفراغ ويفتح شرفة لاستقبال الآتي.

 *باعتبارك من الباحثين الشباب في الفكر الفلسفي ما هو رأيك في المشاريع الفلسفية المطروحة ( الجابري وأركون وطه عبد الرحمن..)؟
 لقد أراد الناطقون بالضاد والمتأولون للقرآن أن يكون لهم فكرا عتيدا فكان لهم ما أرادوا بفضل ما انتخبوه لأنفسهم من فصوص الحكم والدرر اللماعة والعبارات المنمقة وبواسطة ما نقلوه من قصص وعبر ونواميس ترجمة وتعاليق وتلاخيص وتفاسير ومجاميع من الثقافات الغابرة وتركوا من التأليفات ما يعجب له القلب وتطرب له الأذن ويحير عنده العقل. ولكن حالة الفطام التي حدثت بين سكان اقرأ وفعل القراءة وغلبة الاجترار والتقليد ووقوع المعرفة بين حبائل السلطة أسقط كل المحاسن في المحابس وحول الفكر العتيد الى ميراث ثقيل وطبقات من الأحكام الظنية والفتاوي الكيدية.

لقد استمر الأمر على حاله طوال قرون وظلت الخصومة تحوم حول القبيلة والمذهب والحيلة تكمن في درء الفتنة، الى أن استيقظ أهل العلم على نهضة دينية عقلية أولى سعت الى دحر الاستعمار واللحاق بالغرب المتقدم، وقد أفرزت قيام دولة الاستقلال القطرية ذات الثقافة النخبوية الموالية للقيم الثقافية الامبريالية المهيمنة. وقد أوصل هذا التمشي الى فشل ذريع وسقوط الأقنعة وحصول النكسة وخروج العرب من التاريخ ولتدارك مثل هذا المطب طلبت النخب اللجوء الفكري الى الثقافة الغالبة مرة أخرى والتطبيع مع الواقع وانخرطوا في التبشير بالنهايات وغرقوا في العدمية والنزعة التشاؤمية.

غير أن بارقة الأمل ظهرت في الغرب الاسلامي مع مجموعة من المفكرين الأحرار الذين مثلوا ضمير الأمة وعقلها اليقظ ونادوا بنقد العقل واصلاح الذهن وتجديد التراث وتاريخية الدعوة وزرعوا التفاؤل وشجاعة الارادة مثل حسن حنفي ونصر حامد أبي زيد من مصر وهشام جعيط وأبي يعرب المرزوقي من تونس ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان من المغرب ومحمد أركون من الجزائر وغيرهم كثير في المشرق العربي وفي تركيا وايران وباكستان وعلماء المهجر في أوروبا وأمريكا الشمالية.

ان قيمة العمل الذي قام به دعاة المشاريع الفكرية أنهم تظننوا على الحلول الايديولوجية الشمولية وأفاقوا العرب من غفوتهم وبينوا كبوة الطموح النهضوي وتعثره وهشاشة عظام الدولة الأمة الوطنية وحاجة الثقافة العربية الى جرعة نقدية وعدة ابستيمولوجية من أجل المراجعة والتفقد والتمحيص في العيوب وتشخيص الأمراض واقتلاعها من الجذور.

لقد بينت مشاريع "التراث والتجديد" مع حسن حنفي و"نقد العقل الاسلامي" مع أركون و"نقد العقل العربي" مع الجابري وبدرجة أقل مشاريع "الحق في الاختلاف الفلسفي" مع طه عبد الرحمان و"اصلاح العقل" مع أبي يعرب المرزوقي أن التعويل على العلوم الانسانية والاجتماعية والعلوم اللغوية والابستيمولوجية والنظريات الفلسفية المعاصرة في قراءة التراث وفهم الأصول يحقق العديد من المكاسب ويفتح نافذة للعرب على العالم ويجعلهم يواكبون التطور ويدشنون الحداثة بالمعنى الحضاري للكلمة ويعيدون اكتشاف أنفسهم ويعرفون الكائن الآدمي لديهم على نحو مختلف بحيث يجعلون من منظومة الحقوق والمعايير قيمة كونية ومبدأ توجيهي لنمط العيش في مدينتهم. علاوة على ذلك لقد أعاد هؤلاء الثقة الى الشخصية العربية والى العقل العربي في امكانية التعويل على الذات وايجاد حلول من خلال التنقيب في التقاليد والكنوز المعرفية والعلمية التي يحتوي عليها التاريخ المجيد للمسلمين.

لقد بدأت فرضية تحريك السؤال الفلسفي العربي تقترب من تحققها الفعلي مع أصحاب المشاريع الكبرى وبدأ الفكر العربي ينتفض من سباته ويرنو الى الأعالي وشرعت الثقافة العربية في طرح القضايا الجدية على طاولة البحث الأكاديمي الرصين وانطلق الجري نحو الافتراض والتنظير واستشراف المستقبل.

 لكن لماذا لا نجد صدى لأعمال هؤلاء المفكرين العرب في الثقافة الغربية وفي بقية دول العالم؟ وما تفسير التركيز الاعلامي الغربي على بعض الأسماء التقليدية والزعامات السياسية المستهلكة من أجل صناعة رأي عام مضاد وتصدير الخطاب الاستشراقي المعهود والتخويف من العروبة والاسلام؟ ثم ألا يمكن أن نفترض أن ما نراه من التحولات والثورات التي تقوم بها الشبيبة في المشهد العربي سنة 2011 هو نتيجة لهذه المشاريع الفكرية الجدية وقطعها مع الشعارات والمغالطات؟
هناك *الكثير من المفكرين العرب يهتمون بفلاسفة الاختلاف. أين موقع فلاسفة الحداثة في المشهد الفلسفي العربي أمثال هابرماس؟

 ظل الفكر العربي يتابع خطوات الفكر الغربي ويقلده في مدارسه ونظرياته وشخوصه ورموزه وربما هي نقيصة ودليل تبعية وافلاس من جهة وربما تكون مواكبة وموضة ودليل نضج وحب اطلاع وفضول معرفي من جهة أخرى. ولذلك وجد عدنا الوجوديون والماركسيون والداروينيون والفرويديون والديكارتيون والمثاليون والهيجليون والنيتشيون والشخصانيون والوضعيون والهايدغاريون والكل يكيل بمكياله والجدة العربية هي المفقودة والحاضر هو الاتباع. ولكن الجديد مع مدرسة الاختلاف وسر انتشارها وتفضيل المفكرين العرب لها هو أنها لا تدعوك الى تقليدها ومسايرة المنتوج الغربي بل انها تشرع لك حق المغايرة وتترك لك مكانا في تاريخ الأفكار وتعترف بخصوصيتك وبأهمية ومعقولية المجهود الهامشي والمهمل من التفكير والابداع والتخييل والترميز والانشاء، ولعل جيل دولوز هو الفيلسوف الأبرز الذي تحدث عن جغرافية الفلسفة عوض تاريخها وفكك بذكاء الحكم المسبق القائل بأن الفلسفة معجزة اغريقية غربية وبين أن كل أرض يمكن أن تعمر فوقها الفلسفة شرط أن تتوفر شخصيات مفهومية ومسطح محايثة وصورة للفكر مختلفة ونمط من الكينونة ، ولذلك فإنه افترض امكانية انتقال الفلسفة من الغرب الى شعب جديد فوق أرض جديدة، فهل تعود الحكمة الى الشرق ويكون الاسلام والعرب هم هذه الأرض الجديدة؟

يورغن هابرماس والمدرسة الألمانية الراهنة وكارل أوتو آبل وما تبقى من مدرسة فرانكفورت وأضيف هانز جورج غادامير وماكس فيبر وماكس شيلر هؤلاء كلهم مفيدون للمرء الآن فيما يتعلق بالحداثة المنقوصة لدينا أو الموؤودة منذ كلام المعتزلة وفقهاء الرأي وعلماء التأويل وتصوف البقاء والحكمة المشرقية مع ابن سينا والفلسفة المشائية مع ابن رشد ومنذ تدبير المتوحد لابن باجة وانية حي ابن يقظان لابن طفيل وموافقات الشاطبي ومقاصد القرافي.

من نافل القول أننا نحتاج الى تركيز منظومات من الاتصال والاعلام فما بالك بفضاء عمومي للنقاش السياسي والحوار العقلاني والفعل التواصلي كما يريد هابرماس، نحن نحتاج الى استئناف الحداثة والأنسنة وامتلاك الذاتية والتحلي بالموضوعية في الأحكام والتأليف في حلقة هرمينوطيقية دائرية بين مسار التفسير ومسار التأويل. اللافت أن الاهتمام بالعقلانية التواصلية بدأ يتصاعد خصوصا في الغرب الاسلامي وهذا علامة صحة ورشاد والمطلوب هو نقد هذه العقلانية النقدية حتى لا تتسرب الينا مسلماتها الضمنية المعولمة وحتى لا نغدو دمى تحركها الرياح الثقافية النيوليبرالية.

ان ما يفكر فيه هابرماس لأوروبا العجوز هو أن تعود الريادة الهيجلية الى ألمانيا وذلك بتملك مشروع التحديث والسعي للحاق بالعالم الأنجلوساكسوني، أما بالنسبة الى الديار العربية فأمرها يختلف لأن الأولويات منصبة في الانتقال من حالة الفرقة والتمرد والتبعية الى الحالة المدنية وامتلاك الاستقلالية الذاتية والسيادة الشعبية والتحول من لحظة الثورة الى زمن الدولة-الأمة العصرية وما يتطلب ذلك من استكمال التحرير والشروع في التوحيد عبر الآلية الديمقراطية التوافقية الاندماجية.

  لكن الى أي مدى تساعد اتيقا النقاش وفلسفة التأويل والنظرية النقدية ومدرسة الاختلاف العرب في تملكهم للفعل المدني واستئنافهم للقول الفلسفي مجددا من جهة الابداع والاضافة وليس من جهة الاستعراض والنقل؟ بالفعل هناك تطور فلسفي ملحوظ في الفلسفة لكن الفلسفة السياسية ضعيفة فما هي الاسباب في نظركم؟
 في الحالة العربية ليس هناك فكر سياسي مستقر بالمعنى الدقيق للكلمة ولا توجد بدائل مرجعية حقيقية بل كل ما يتم هي ممارسات مرتجلة للسياسة عبر أشكال من الخطاب قديمة وطرق اقناع تراثية ومراكمة للأخطاء، وبالتالي ما نلاحظه هو تخلف الخطاب السياسي العربي وطغيان الدسيسة والمؤامرة والانقلاب والتسلط والكذب وغياب عقل الدولة وثقافة الأمم عن الناشطين وعن اللغة السياسية المتداولة.

الأسباب المفضية الى ذلك كثيرة ولكن يمكن حصرها في اهمال السياسات الشرعية التي صاغها حكماء الضاد من فقهاء وأدباء ورجال سلطة وكذلك عدم مواكبة الثورة الحقوقية والطفرة السياسية المعاصرة وخاصة في أمريكا الشمالية والتي اقترنت بظهور نظريات جديدة مثل سياسية الاختلاف وسياسة الكرامة وسياسة الهوية وسياسة الاعتراف وسياسة الانصاف والتعددية الثقافية والنسبية الثقافية والسياسة الكوكبية.

انه الآن الأوان للقطع مع تسرب بعض الأفكار السياسية الخاطئة التي دخلت بطريقة عجيبة ووقع الترويج اليها من طرف النخب التابعة مثل الواقعية السياسية عند نيقولا ماكيافيلي وفكرة السلطة المطلقة عند توماس هوبس والنظرية النفعية عند بنتام والبراغماتية المبسطة والساذجة والأجدى هو التركيز على النهل من التراث السياسي الانساني والعودة الى الحكمة العملية عند أرسطو ومقاربات جوليان فروند حول ماهية السياسي ومقاربات اريك فروم في العنف والحوار والاستفادة من النقد الجديد للمركزية الغربية.

أما المطلوب فهو ترجمة هذه الأدبيات في مرحلة أولى والعمل على مناقشتها ونقدها وتنسيبها في مرحلة ثانية ثم في مرحلة ثالثة الاستفادة منها على مستوى التجربة العملية وتوخي استراتيجية الانتقاء والاهمال تجاهها واجراء حوار جدلي بينها وبين النظريات السياسية الكلاسيكية الموروثة عن الفلسفة القارية مع السياسات الشرعية المحفوظة في رفوف التاريخ العربي الاسلامي وأخص بالذكر الماوردي وابن الأزرق والطرطوشي وابن خلدون وابن قتيبة وكذلك الفلاسفة الفارابي وابن رشد والكواكبي وعلي عبد الرازق. لكن أي سياسة تنفع اليوم في ظل انهيار المعسكر الاشتراكي وسقوط الايديولوجيا الماركسية وبعد أدت العولمة الاختراقية والعقيدة النيوليبرالية المحافظة الى شن حروب غير عادلة وتدمير دول بأسرها وتمزيق أوطان؟ أيها أفضل اجتماعية السوق أم الليبرالية الاجتماعية أم الاشتراكية الاجتماعية والاشتراكية الديمقراطية؟ وهل هناك نموذج سياسي يوجد وراء كل هذا ويكون نموذجا لا شرقيا ولا غربيا وانما ينبع من حضارة اقرأ ويخص فلسفة الضاد؟

 * الكثير من الفلاسفة السياسية المعاصرين( انطوني نغري واغامبيوو ودولوزو وحنا ارنت..) لهم كتب مهمة لكنها لانجدها في الساحة العربية ؟
 اللافت للنظر أن مدرسة الاختلاف وقع توظيفها في الساحة العربية من أجل بناء فلسفة المقاومة ومناهضة العولمة المتوحشة والتصدي للامبريالية ولعل دولوز ونيغري وأغامبي هم من الذين أسهموا في شريحة كبيرة من الشباب منذ عشرين سنة وخاصة تلك الأفكار التي تشرع لهذه المقاومات وتدفع نحو اعطاء دور كبير للشعب في الفعل السياسي وتركز على ارادة الحياة والبعد المادي والمحايثة والمسألة الاجتماعية. لكن حنا أرندت هي فيلسوف مختلفة تتدعى مواصلة هايدغار في الجانب الأخلاقي والسياسي الذي سكت وتسعى الى اكمال نقيصته ولكنها في المقابل تخرج عن الأنطولوجيا المباشرة نحو أنثربولوجيا للوضع البشري وتعود الى التقاليد والمدونة الرومانية من أجل ايجاد كشوفات تنقذ الفكر السياسي الحديث والمعاصر من المآزق التي وقع فيها بسبب هيمنة العقل الأداتي وسطوة قيم المردود والعنف.

ان الأهمية التي تحتلها حنا أرندت في الفلسفة السياسية المعاصرة – وقد كشف عنها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في مؤلفاته السياسية- تعود الى نقدها للنازية وتفكيكها الأفكار اليمينية المتعصبة وفي تصديها للستالينية والأفكار الماركسية المتصلبة ومناهضتها للامبريالية في تعديها على حقوق الانسان وسيادة الشعوب ومقاومتها لظواهر العنف والكذب واعتبارها الأحزاب السياسية هي مجرد أديان وضعية ودعوتها الى نوع من التدبير السياسي الذي يحترم حقوق الأقليات والتعدد الانساني وحقوق الشعوب ونحتها لمفاهيم جديدة تبدو في الظاهر دينية ولكنها في الباطن اتيقية بامتياز مثل الوعد والصفح والولادة.

بيد أن عدة تحفظات تبرز على السطح نتيجة هذا الجهد التأصيلي وكبيرة خصوصا عندما يتعلق بفكر ناضل يوما ما من أجل قيام الدولة العبرية وقد لا تشفع له تنصله في خاتمة العمر من العقيدة الصهيونية حتى يمنح البراءة الأصلية.

 * هناك الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ، في المقابل لا نجد مراكز مختصة في الفلسفة . إلى ما ذا تعزو في نظرك هذا الغياب؟
 ان وضعية الفلسفة في الفضاء العمومي العربي بائسة وعلاقتها بالثقافة متوترة والسبب هو الحالة الخصامية الدائمة التي تنشب داخل الفضاء الفلسفي ذاته وادعاء البعض امتلاك الحقيقة وعدم التقيد بالروح الفلسفية الباحثة وافتعالهم لمعارك وهمية مع حراس العقيدة ومنظري المؤسسة الرسمية وعدم قدرتهم على المجازفة والجرأة وتحمل المسؤولية، ثم يمكن أن نضيف تخلف طرق تدريس الفلسفة وبروز صعوبات في التقبل لدى الناشئة راجع الى التجريد المبالغ فيه وغموض العبارة وضعف الترجمات وتردي الوسط التربوي وحالة الرفض الدائم للنقد والتفكير الحر والقيم الجديدة .

ان حالة الغياب ناتج عن اهمال الأنظمة السياسية المتعاقبة محور هام في الحياة الفكرية هو الفلسفة والتركيز على استهلاك أشياء تافهة ومبتذلة ويفسر ذلك بالتخوف من تدخل الفيلسوف في الشأن العام وبارضاء الرأي السائد والفقهاء. كما أن حالة الاستقالة التي يتصف بها المشتغلين بالفلسفة وغربتهم عن الواقع وبقائهم حبيسي الكهف الأفلاطوني ومساندتهم اللامشروطة للأنظمة فاقدة الشرعية هي من العوامل التي أدت الى تراجع الاقبال على الكتب الفلسفية وغياب التشويق والطرافة والابتكار في المفاهيم والأفكار. اللافت أن الدين يحتاج الى الفلسفة والى المجهود العقلي من أجل استئناف حركة الاجتهاد وتفعيل تجارب التأويل والاستنباط وتجديد العلوم النقلية. كما أن السجل السياسي والقانوني ينظر بشغف الى ما تجود به عقول الفلاسفة في مجالهما من أجل الاستفادة منه وعصرنة الحياة السياسية وتطبيقها وتنشيط الفضاء المواطني بالأفكار الخلاقة والقيم المستحدثة ولنا في أفكار بول ريكور حول الهوية السردية وميشيل فوكو حول السياسة الحيوية ونظرية العدالة بما هي انصاف عند جون راولز حيث مثال.

نحن نشتغل داخل "الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية" وهي تنظم الملتقيات والأيام الدراسية وتصدر بعض الكتب و"المجلة التونسية للدراسات الفلسفية" بطريقة شبه منتظمة ولكن هذا غير كاف وينبغي تكثيف هذا الجهد ومأسسة العمل والانفتاح على الوسط الثقافي والاجتماعي والدفاع عن الفلسفة في وجه التحديات الاقتصادية والشمولية السياسية.

ان الخروج من هذا المستنقع ممكن شريطة الاستفادة من القيم الجديدة التي جاءت بها الثورة العربية وتحرير الفضاء العمومي من سلطة الفضاء الخاص واعادة الاعتبار الى الفاعل الفلسفي بوصفه الفاعل السياسي الأبرز الذي يحتكم اليه جل الفرقاء. فمتى نرى مراكز دراسات فلسفية عربية ناجعة تمول من طرف القطاع الخاص والعام على السواء وتعتنى بالشأن الفلسفي بحثا وتدريسا وتأليفا وتحقيقا وترجمة؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى