الاثنين ٩ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم أحمد حمادي

يا من يسمع أنينها!

«(لين )..علينا الرّحيل الآن» قال صوتٌ ما وامتزج بضربات قلبها المفجوع.

« لين..لقد انتهى الأمر!» أضاف بألم لكنّها لم تستدر. لقد علق بصرها بتلك القرية المُدمّرة التي تلوح مبانيها القتيلة من بعيد،تنوح ذكريات الماضي السّعيد بها.

كان البدر المُكتمل يشير بأصابعه المُضيئة إلى مساحة جبلية غطّتها أشجار الصنوبر أين وقفت شابة فوق صخرة صمّاء تسترق بعضاً من النظرات الحزينة. كان وجهها الجميل الشّاحب مُحطّم الأمل، كان كمركبة أهانتها الحوادث لتُركن هامدة بعدما كانت تسابق الزمن لتصل.ما وصل رجاء الشّابة للمُبتغى بل خاب!

" لا أستطيع،لا أستطيع النسيان!" صاح فم (لين) بعد أن لبست شفتيه ألفاظ القهر،كانت صرخة مُعذّبة وصفت وبكلّ دقّة منطقة الحرب الدّائرة بين أغلفة فؤادها. سقطت الفتاة على ركبتيها ناحبة وهي تحرّك رأسها بالنفي .من دون أن تزحزح ناظريها عن مشهد تلك القرية، قبضت على موضع قلبها ثم أخذت تعصره كأنّها تريد استخراج السم الذي سباهُ وأعياها.
" (مروان) ، قل لي بأنّ ما يحدث مُجرّد كابوس، قل لي بأنّني أحلم !" تكلّمت (لين) بصوت استهلكته المآسي ثم استدارت نحو الشاب وراءها. كانت عيناها تفيضان دمعا متوسّلا لكنّه ما نطق بل أخفض رأسه داعما صدى الصدمة بين جوانحها.

نظرت من جديد نحو تلك القرية هناك،رائحة أوراق أشجار الصنوبر استفزّت ذاكرتها فانطلقت كالوميض تروي ما جرى ...

كان الصّخب يملأ الأجواء تلك الليلة، الهمس كان كطنين النحل تريد شهد الزّهور. ليلة فرحة وزّعت على الحاضرين كؤوس البهجة. كانت الصبايا تسترقن النظر نحو شاب وسيم اعتلى منصّة شامخة وقد ارتدى طقما أسوداً أنيقا أظهر بريق عينيه الخضراوتين.كان مُحيّاه يُشعّ فخراً، كيف لا وهو رجل السّهرة من دون منازع! كيف لا وقد قاسمته ذلك الكرسي المُزين شابةٌ أعلنت محاسنها عظمة خلق الله وتصويره. كان وجهها بياضا ثلجيا مسترسلا خاصم وبكل ضراوة سوادَ شعرها الليلي الباسم ليصنع قطعتين نافرتين جاذبتين للأعين، آسرتين للعيان.
" مباركٌ للعروسين" طغى صوتُ الرجّال مكتسحاً ترانيم غناء الجدّات اللواتي يستعرضن شباب حناجرهن فرحا بزواج أجمل ما أنجبت قرية ( الصنوبر)..(لين) و (مُعاد). الكلّ كان يرقص غبطة وسرورا،الكلّ كان يعيش بهجة حياة الأرواح ، كانت ليلة لا تُنسى!!!

تراجعت الصيحات فجأة عندما اعتلت منصّة العروسين سيدة وقور ترتدي وشاحا زهريا جميلا واقتربت من (لين) لتطبع فوق جبينها قبلة أمِ حنون ذارفة بحورا من دموع الفرح الزاهية بقوارب الدعّاء الصالح.

" لا تبكي يا أمّي !" قالت العروس بعد أن استقامت كزهرة بيضاء متفتّحة. آزر الزّوج المُختال بفوزه كلمات (لين) لتستدير نحوه السيّدة (هاجر) وتحتضن بكفيّها وجنيته المؤدّبتين قائلة :" أنت رجل البيت الآن يا بني". لقد انتظرت والدة (لين) هذه اللّحظة منذ زمن بعيد. انتظرت الرجّل الذي يصون ابنتها ويحل محلّ زوجها الشهيد،بعلها الذي قُتل على يد المغتصبين دفاعا عن وطنه وأرضه.

باسمة الثغر، استخرجت الأم طوقاً أخضراً مصنوع من أوراق الصنوبر ودفعته نحو (مُعاد) الذي تناوله على عجل ووضعه فوق رأس زوجته كتاج ثمين آسر.استنشقت (لين) رائحة تلك الأوراق دائمة الخضرة ، استنشقت رائحة الحب وعطور الود. احمّر وجهها البريء خجلا بعد أن رمقها (مُعاد) بنظراته التي تلتهم قلبها شغفا. صفّق الحضور بحرارة لذلك المشهد الشاعري الدافئ ، مشهد مسرحية طالت فصولها ولكن كانت النهاية سعيدة راضية. قصّة (لين) و (مُعاد) جارت ببراعة حكايا الحب العفيف،هامت بها عقول سكّان القرية التي بات هاجس ارتباطهما موسماً مرتقباً لها تحصد من وراءه قصة صاخبة هادئة ستتداولها الألسن بعمق وتبقى للأجيال ميراثا دفينا.

انحسرت أقدام الأمّ المتأثّرة نحو الوراء ولكنّ نظرات (مُعاد) لم تستطع. أخذ ينظر إلى زوجته كما تنظر الأرض العطشى بشغف لحبّات المطر المُتناثرة.التقت عيونهما للحظة وكذا فعلت أياديهما، كانت لهفة بل رعشة..دق القلب بقوة ، تعالى النبض برقّة.كان جسر ود نمَا حتّى بلغ مبلغ الشباب اليافع االحالم بالسعد والهناء.

" وأخيرا!" قال صوت الحُبّ المتتظر في قلبيهما في آن واحد.

سُمع بعدها صوتٌ لا يشبه نداءات التهنئة، قطعا لا يماثل صيحات العجائز المُفزعة. كان صوتا خبيثا سريعا لم يدخل قائمة المدعوّين بل تطفّل على جسد الوليمة الدّسمة. ارتخت قبضة (مُعاد) فابتسمت (لين) ببراءة من يُحسن الظن. بقعة حمراء ظهرت على صدره المكسوّْ بقميص أبيض مُسالم. أخذت البقعة تكبر لتصير نافورة دمِ أحمر. جحظت عينا العروس الحائرة المندهشة. هوى (مُعاد) أمام ناظريها كوتد خشبي بلا روح. انتقل بصرُها على نحو ما صوب والدتها لتجد أنّها تفترش الأرض محاطة ببركة دماء ضحلة. كمن استيقظ لتوّه من نوم عميق، كطفل لا يع ما يجري ...كانت (لين). لم يستطع عقلها تمييز الأحداث، لم تكن تسمع سوى صوت ضربات قلبها المصدوم.

"لا !" صرخت العروس بعد أن عاد بها الوعي إلى الواقع المستحيل. تسمّرت في مكانها بين جثتيْ أمّها وزوجها، تأوّهت كالمخمورة ثم اختارت أقرب جسد إليها تحتضن الأمان به لينفي عن فكرها هذا الكابوس. وقعت فوق (مُعاد) تطوّقه بذراعيها، تهزّه كنائم مستيقظ، تطلب من جفنيه الانبلاج ومن لسانه النُطق.

" أمّي !" تحرّكت شفاهها دون أن يصدرعن حلقها أيّ صوت.غزرت الدّمُوع المُكذّبة في عينيها و تدحرجت بخفة لتقع فوق وجه (مُعاد) .

كان الرّصاص الطائش في هذه الأثناء يُبيد الأجساد الواقفة،يستهدف الحياة التي كانت تشدو قبل هنيهة. "العدوّ".. انبعثت الكلمة من ركن ما ودوّت في أذني (لين) لتذكّرها بيوم مقتل والدها. يدٌ ما أمسكت ذراعها وجذبتها .لم تشعر الشّابة بنفسها إلاّ وهي تُجرّ وحيدة منفصلة عن نصفها الآخر ..عن (مُعاد)، زوجها.

" اتركني !" صاحت العروس وذلك الشخص يضغط على رأسها لتبقى منخفضة. " (لين) ..أنا خالك؟" قال الرجّل الذي يقودها. كان صوته مألوفا،هكذا قال الجزء السليم من عقل (لين) ففي غمرة ما أصابها لم تستطع حتّى التعرف على خالها (بشير).

" خالي ! خالي .." كرّرت الشابة وهي تبكي كأنّها تريد أن تتذكّر معنى تلك الكلمة ثم أضافت بجنون بعد أن أفاقت وهي تنظر نحو الخلف محاولة تنبيه الخال (بشير) لما جرى :" خالي ! ..(مُعاد) ، أمّي!".

لم يتوقّف الخال بل ظلّ يجرّها مبتعداً حيث أخذ يتداخل بين الأزقة الضيقة محاولا الابقاء على سلامتها . توقّف الخال (بشير) فجأة ، جحظت عيناه،حدّق نحو السماء ثم سقط ميتا بعد أن اخترقت رصاصة غادرة صدره ليظهر من وراءه جنديٌّ غاصب.لم يتسنّى لـ(لين) البكاء هذه المرّة فقد جعل الرجل الغريب يقترب منها كحيوان مفترس يريد الهلاك لطريدته. كان وجهه المليء بالبثور وحشيا، تلك الندبة على جبينه أوحت بضراوة طبعه.

" لا تقترب منّي ..ابتعد! " قالت الشابة بفزع لكنّه لم يتراجع.أمسك يدها لتُحسّ برعشة باردة تسري في أوصالها ممزوجة بمرارة في الحلق. سقط الرّجل بدوره أرضاً بعد أن فقد وعيه إثر ضربة عنيفة استهدفت مؤخّرة رأسه. " اهربي يا ابنتي، الجبل " قال شيخ ٌعجوز يقبض على بطنه الملطّخة بالدم ثم تهاوى.

تقدمّت (لين) نحو جسديْ العجوز وخالها لكنّها سرعان ما تراجعت بعد أن سمعت طقطقة أقدام تقترب من المكان. كغزالة جريحة ركضت العروس ، ركضت بكل ما أوتيت من قوّة. تخطّت القرية متّجهة نحو الجبل المجاور المغمور بأشجار الصنوبر.نور القمر كان يساعدها بوفاء. وصلت الغابة سريعا وأخذت تُخلّف السيقان الخشبية وراءها..أنفاسها المُفعمة بالألم كانت تعلوا ثم تخبوا. البخار الضبابي الساخن المندفع من فمها كان يعكس سخونة البركان الثائر بدواخلها. تعبت ، أُنهكت ..شعرت بأن جسدها يخونها ، يغدر بها كما فعل الغُزاة الأغراب بأهلها. على جذع شجرة عظيمة اتكأت ثم نشجت باكية بعد أن رأت الدّم الذي يغطي ثوبها الأبيض الممزق . صاح كل جزء منها :"(مُعاد).

انتفضت حواسها فجأة بعد أن سمعت صوتا ليس ببعيد عنها،ارتجّت فرائصها،أيقنت بأنّ العدوّ قد لحق بها. "من تكون ؟" صاحت (لين) بصوت شجاع فلم تعد تخشى الموت، ولمَ تفعل ! لقد باتت وحيدة في عالم سيمنحها طعنات الحنين دوما! الغريب طوقّها، كمكم فمها ..أتى من الخلف. لم تستطع تحريك جسدها. أيقنت بنهايتها ، بل استسلمت!

" أنا (مروان) ابن عمّك ...شيش ،لا تصدري أيّ صوت ، إنهّم خلفنا مباشرة " قال شابٌ رفيع القوام مُكتمل الجسد ثم أرخى قبضته عن فم (لين) التي صار جسدها يرتجف بغرابة. استدارت نحو الخلف ، تفرّست في وجه الشاب ثم قالت وقد أخذت أكتافها تهتز وصوتها يختلط بنبرات الهلع والخوف الدّامع:

" (مروان) ! لقد ، لقد ماتوا .." . هوت (لين) مغشيا عليها ليتلقّفها ابن عمّها . لم تستطع التحمّل أكثر من ذلك رغم شجاعتها النادرة. لم تستطع الصبر أكثر ..
حاملا إيّاها بين ذراعيه كفارس عتيد منقذ،خطى (مروان) على مهل ليختفي بين الأشجار ..بين ستائر الّليل الدّاكن .

كانت ترى في منامها ما بدا حديقة ساحرة امتلأت ورودا بيضاء .كانت تقبضُ على يد (مُعاد) الذي بدا وسيما للغاية. كانت الشّمس الربيعية تجعل من وجهه مشرقا بهيّا..تلبدّت السّماء فجأة ، أرعدت ثم أمطرت مياهاً حمراءَ جعلت الورود الثلجية تستحيل قطع دم قاني. ارتعبت ، هلعت ..تحسسّت يد (مُعاد) فلم تشعر بها، نظرت إليه لتجد بأنّه بات ضبابيا باهتا،كتلة من اللحم الشفاف أخذت تتصاعد في الهواء مبتعدة.

" (مُعاد) ..لا تتركني وحيدة. (مُعاد) خذني معك !" صاحت (لين) ثم استفاقت فزعة. فتحت عينيها ليُخيّل إليها سقف حجري بارد.

" (مروان) ، لقد استفاقت " قال صوت أنثوي.

" شكرا (هديل) " ردّ (مروان) على فتاة طويلة القامة مليحة الوجه ثم أخذ يهز كتف (لين) التي صارت تقلبّ بصرها بينه وبين الشابة غير مُدركة لما يجري ثم تساءلت :" أين أنا ؟"
" لا تقلقيي،أنت بأمان. نحن داخل مغارة في الجبل . لقد مرّت ثلاثة أيام مُذ أغمي عليك في الغابة " أجاب (مروان).

" ماذا؟" صاحت (لين) ،رفعت جسدها بسرعة ثم أمسكت يد ابن عمّها بعد أن تذكّرت ما جرى ." (مُعاد) ، (أمّي) ،(خالي) ؟". حرّك (مروان) رأسه بالنفي حينها طفقت (لين) تبكي بحرقة، كل تلك الأوجاع طفت فوق سطح مشاعرها مجددا.

" إنّه قضاء الله وقدره يا أُخيّة ..اصبري ، أنت مُؤمنة" قالت الشابة التي تُدعى (هديل) ثم احتضنت (لين) المُنهارة.

" سأسألك لآخر مرّة، ما هي خطوتكم القادمة أيّها الهمجيون ؟" صاح رجل عظيم الجُثّة من مكان قريب ليتردّد صدى صوته بين جدران الكهف . استدار كلٌّ من (مروان) ،( لين) و (هديل) صوب الصوت لتسأل ذات الشعر الفاحم قائلة : " ماذا يجري؟" .

" لقد أمسكته لأجلك " ردّ (مروان) بكلام مُبهم. قطّبت (لين) جبينها ، مسحت دموعها ثم تبعت خطوات ابن عمها ناحية كوكبة متجمهرة من الرجال. ابتعد الجميع فاسحين المجال للعروس الأرملة. جفلت ، تسمرّت. كان هناك ملاصقا للجدار الصخري رجل مكبّلٌ بالسلاسل. ما لفت انتباه (لين) ليس سحنته الأجنبية بل تلك البثور الخبيثة رفقة تلك الندبة على جبينه. تذكرّته، إنّه الشخص الذي قتل خالها وأفسد حياتها ..نفسُ الشّخص الذي أورثها رفقة قومه المهالك.

بيد من غضب و ثأر ،صفعته ..تدافعت الحرُوف في حلقها لكن ما من كلمة صطعت." خذي " قالت (هديل) دافعة نحو (لين) خنجرا كبيرا ثم أضافت :" خذي بثأرك من المغتصب".
من دون النطق بكلمة، تناولت (لين) الخنجر ثم ّرفعته عاليا وهي تنظر إلى موضع قلب الجندي القاتل. صرخة عظيمة تعالت ثم همدت معلنة فناء الظالم. يدُ (لين) كانت لا تزال مرفوعة رفقة الخنجر الذي لم يزل نظيفا لامعا! نظرت الشابة نحو (مروان) الذي سبقها ليغرز في قلب الرّجل نصله. " لا تلوّثي يديك بدمه الموحل" قال الشاب القوي بثقة .أسقطت (لين) خنجرها ، حاولت شُكره لكنّها كانت قد نسيت كل شيء جميل قد يُنطق إثر ما ألمّ بها.بخطوات مُثقلة ، خطت خارج الكهف ليتبعها (مروان) بحزن . تبعها ابن العم الذي لطالما أرادها زوجة له لكنّها تمنّعت فامتنع هوعن حضور حفل زفافها بدس نفسه ضمن خبايا الغابة الحزينة.تبعها من شقّ قلبه حبّها لسواه لكنّه كان لها في النهاية سكنا لملم شتات نفسها!

انطفأ نور الذكريات لتعود (لين) إلى الواقع ، إلى تلك الصّخرة الصّامتة ،كانت ما تزال تنظر إلى قريتها التي هدّمها المُستعمر بعد أن قتل أهلها الوطنيين . (مروان) لايزال ينتظر وراءها بعد أن لحقته (هديل) وكل المناضلين .

" (لين) ، يجب أن تنسي .لقد انتهى الأمر ..علينا الرّحيل" قال مروان للمرّة الثالثة.
" بل بدأ لتوّه!" ردّت (لين) بحزم وقوّة ثم استدارت نحو الجميع وأردفت قائلة :" لقد بدأ زمن الجهاد حتّى النصر. لن يهنأ المغتصبون بأرضنا ما دام النبض يخفق تضحية ووفاءا..لن يهنأوا"
" الله أكبر ، الله أكبر " صاح الجميع وقد دبّت فيهم حماسة الشجعان رافعين اسم الله على مسامع الكون.

بعيون باكية رفعت (لين) رأسها نحو السماء وقالت في سرّها :" (مُعاد)، لن يتبخّر حبك من قلبي .ستظل ورود شوقك البيضاء تزهر في دواخلي ولعا ..لن أنساك يا شقيق أنفاسي ، سأنتقم .."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى