الأحد ٢٢ أيار (مايو) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

الحرام............

اقتصرت حديثها معه على جملة واحدة فقط، سأرى ماذا يمكنني أن افعل، تلك هي الكلمات التي حملها معه إلى غرفته التي كانت بمثابة عالمهما معا، بعد أن علق صورة واحدة فقط، كرر طباعتها عشرات المرات وبأحجام مختلفة، لتكون معه أين ما يجلس أو يلتفت، في منامه ويقظته، يحدثها عن خلجات لوعة، هي تنظر إليه باستغراب من خلال تلك الزوايا المختلفة للجدران، مرة يشعر إنها تختلس النظر إليه من ركن مظلم، وأخرى تفضحه حركاته، حيث يرى أنها تعد عليه همساته، أحب أن يكون مكشوفا لها بكل عيوبه في الحب، فقد كانت هي أكبرها، لقد غمر حياته كلها في صورها تلك، لم يخبر أحدا سره لمدة طويلة، بعد أن مررت مشاعرها له بورقة صغيرة، نعم أحبك أنا أيضا.. ولكن أبن عمي طلبني له، ووالدي أبدى الموافقة تقريبا رغم انه يعرف جيدا انه ماجن وآفاق، ورجل قمار،إلا أن ديونا قديمة عليه لعمي، أجبرته على الموافقة، تلك الكلمات التي جعلت عالمه بركان، لا يعرف متى يلقي حممه ليدمر كل شيء، حاول بدوره حين علم بأمر ابن عمها، وطلب المستحيل من عمه لأن يتدخل لخطبتها له، وكان من المكرهين على ذلك، إلا أن دموع يأس وتقبيل أيادي، وعطف أقرباء، جعلته يتنازل ويذهب لخطبتها، عمه يكرهه لمجرد أنه أبن أخيه العاق في كل شيء عن والديه وأخوته، بعد أن نزحت الحياة إليه لتكون من حملة الدفوف، ومراقص الشيطان، هذا ما جعل العائلة تتبرأ منه لأنه ابن ذلك الأب، وأبن تلك الأم التي غنت ورقصت في ليالي العهر، إنه أبن لحظة رغبة وفسق، شاء القدر أن يصنع له أظافر، تمسكت بأحشاء رغم محاولات إسقاط كثيرة، فشاء أن يكون هو أبنا لحالات ضياع رغما عن والديه، ذلك الضياع الذي رمى به على أعتاب بيت عمه بلفافة ورسالة، مرفقة بشهادة ميلاد محرمة، قتل أبيه نتيجة عراك في جلسة خمر وقمار، أمه ماتت بعد أن نزحت المخدرات إلى جوفها لتعصف بها، كأنها تقول له: أصبحت الآن بلا أب وأم، في تلك الليلة التي طُرق باب بيت عمه، دخل هو ضيفا ثقيلا، ولولا عطف امرأة في لحظات يأس وكثرة فراغ، ما كان له أن يعيش، قد يكون والده ترك الكثير من المال، إلا أن ذلك كله دون علم منه، وشاءت الأيام أن تجري بسرعة شديدة، ليجد نفسه يعيش في بيت بسيط، عشق زواياه، فكان ملاذه الأول والأخير، بعد أن ماتت من كانت صدر الرحمة له، عمد عمه على طرده من منزله الكبير، رغم حب المحيطين من الأقرباء، كان من الأخلاق ما لا يمكن قياسه أنه ابنا لتلكم الأبوين، فشتان ما بين الجنة والنار، كان هو كذلك جنة من دماثة الخلق والأدب، لم يكن أحدا يتوقع أن يكون بهذه الصورة، إلا عمه الذي لم ينسى مواقف أخاه، واتهامه أنه سارق وصعلوك، بقيت تلك الصورة عالقة في ذهنه، فكرهه وكره كل من يذكره في جملة أو حرف، لعل أقربائه فرحوا حين جاء يسأل عمه، بأن يكون خاطبا له، لكن الخوف من ثائرته حين ذكر أسم أبيه، كان يوما غريبا وتعيسا، بل هو أكثر من ذلك، فقد ظن أن عمه سيكون درعا له، إلا انه كشف أمره إلى والدها، فتيبست عروقه ووقفت نبضات قلبه، حتى حين تلقى الصفعة من أبيها كونه إنسان مخادع، وأبن حرام، وكيف سمح لنفسه أن يطلب الارتباط بعوائل أصولها شريفة وعريقة؟ كان عمه حين فضح أمرة لم يكن يدري انه قد تعرى معه، فكفيه إهانة أن طرد هو الآخر من المنزل شر طرده، خرجت من فمه كلمات متوسلا والدها قائلا: الذنب ليس ذنبي أن تكون من ولدتني ابنة ليل، ولكن يكفي أني أحمل أسم أب وأم معلومان، ولست لقيطا، والذي حصل لم يكن سوى قدري، كما أني رجل امتلك من العلم والمهنة ما يؤهلني أن أكون عكس والدي، قد تكون الأقدار وفي ساعة بغض رمت بي في رحم لم يحفظ حرمة خالق، وأب لم يعرف أن الحياة دوامة تحمل نفس المداخل والمخارج، وربما تختلف في سرعة الدوران ونزول البشر في محطات مختلفة، دون تذاكر أو أسماء، هكذا كنت، وكان نصيبي، خرجت من عالمين مختلفين، في زمن تخبط السير فيه لكثرة زحام، فرمتني الأمصار في رحم مشوه، لا ذنب لي إلا إني نطفة رغبة في مكان حصين، كثيرا ما سمعت أنني أبن حرام، ولكن ما ذنبي!! فما كنت قادرا على الاختيار، وإلا كنت قد تمنيت البقاء في عالم الغيب، لكنها مشيئة الله، فقدر وما شاء فعل، وها أنا أدفع ثمن خطيئة من كنت مشروع رغبة جنسية في لحظات سكر ومزاج، أرجوك يا عم أنصت لصوت العقل، ولا ترمني بحجارة كأنني شيطان، فلست سوى إنسان، شاءت الأقدار أن أكون ابن نزوة، كما لا تنسى أن لي اسم أب وهو معروف، أما أمي فليغفر لها الله كل ذنوبها، فلم أكن موجود متى ما حقنت الأيام نفسها ورمت بي في دنيا الله، إلا ترى أن لله مشيئة في وجودي، ولم أحاسب على أخطاء الآخرين، أليس كل إنسان ملزما بأفعاله؟ قد تكون الأعراف والتقاليد هي مقصلة للكثير من أمثالي، إذن فما أكثر أولاد الحرام في هذا الزمن، فليس الحرام أن تولد من أب زاد في الخمر والمجون، وعشق الراقصات، ولكن الحرام أن تبقى تسود العالم أعراف وتقاليد، تزيد من النار لهبا وزمهريرا، فمن منا بلا أخطاء أو ذنوب؟ كما يا عمي أن الذنب ليس ذنبي.

دوت صفعة قوية أطارت قطرات الدموع من عينيه، مرفقة بشرارة نور، فرمت به بعيدا.. سمع بعدها صوت والدها يقول: اخرج أيها الكلب... يا أبن الحرام، والله لو خطت أرجلك نحو هذا المنزل ليكون آخر يوم في حياتك، حمل عقاب جريمة ووزر والديه على أكتافه جبالا، خرج وهو يرى الابتسامة على وجه عمه الصفراء اللون شماتة وفرح، اقترب منه أمسك برقبته بقوة، حتى كادت تخرج أنفاسه الأخيرة، جثا على ركبتيه متوسلا فزعا من غضب الحليم، فقال: رفقا يا ابن أخي.. ما كان قصدي ذكر التفاصيل، إلا ليكون الأمر واضحا لديه، صدقني، كانت كلمات الخوف تلك يسمعها توسلا، دفع به بعيدا قائلا له: سوف تدفع ثمن عدائك لي غاليا... يا عمي الحاقد، سار مسرعا نحو المتنزه الذي اعتاد أن يراها ويقابلها فيه، أدرك ساعتها أن حياته قد انتهت، لذا طلب من صديقة لهما رغبته في الحديث معها، وجاءت .. وجدته منهارا إلى حد التشظي، محمر العينين بكاء ونحيبا، حتى تغير صوته، كان باديا عليه الهزيمة واليأس... والذي ما أن رآها حتى امسك بيدها قائلا: لقد ضاع كل شيء!!! فقد دمر عمي ووالدها كل أحلامنا، قد يكون قصرنا من زجاج، إلا أن الحجارة كانت بيد من هم صلة رحم.. والتي ضاعت في لحظة حقد وأعراف، لا ادري كيف أفسر لك الأمر! لكنك سوف تعلمين فقط بعد أن توصلي لها رسالتي الأخيرة، فقالت له: ماذا تعني بالأخيرة؟؟ انتظرت للحظات جوابا منه.. لكنه كان لاهيا بعذاب داخلي، اعتصر عقله وقلبه، فتكور ممسكا جسده بقوة خوفا من الانفجار، رفع رأسه قليلا محدثا إياها .. عليك أن تقولي لها أني سأنتظرها في نفس المكان في الغد فجرا كما اتفقنا، وفي نفس الوقت، هي ستعرف الباقي، أرجوك إنه رجائي الأخير، ولا أدري إن كنت أحيا غدِ أم لا، لكن سأحاول البقاء حتى ساعة اللقاء بها، وفي ساعة متأخرة من ليل ذلك اليوم، طلب من عمه أن يراه في منزله، جاء عمه بعد أن أجبر على ذلك، دخل ولأول مرة إلى بيت ابن أخيه، فوجده جالسا في ركن مظلم وهو يستنشق الدخان المتطاير الأسود، أنتبه إلى دخول عمه، فبادره قائلا: أتدري ما هي هذه الأوراق؟؟ هز عمه رأسه بالنفي خائفا...

إنها شهادة الميلاد التي كانت معي بلفافتي حين رميت على أعتاب بيتك، ومعها صورة لوالدي وأمي تصور أن صورة أمي في بدلة الرقص .. أرأيت سخرية القدر، والى جانبها أبي وهو يشرب الخمر، ولا أدري ما القصد منها!؟ ربما حتى أعلم أنني وصمة العار التي خلفاها في لحظات دعر، أما البقية فهي أوراق تثبت أني وارث كل شيء، حتى ما لديك من أموال، فقد عرفت من المحامي وهذا منذ وقت ليس بالقصير، أن كل ما لديك هو ملك لوالدي، ولعل هذا سبب حقدك علي، ولولا عمتي ورأفتها، ما كان لي أن أحيا، على العموم لقد أخبرت المحامي، بأن كل ما يعود لي سيذهب إلى ملجأ الأيتام، والى من هم على شاكلتي، علهم يجدون غير الأقارب من يعترف بإنسانيتهم، وإن لم يجدوا فلتكن الأموال نوافذ أمل لهم، أما أنا فلا أريد أن أعيش بعد الآن، وأما أنت فستؤول إلى نهايتك، لا تملك من دنياك سوى الحقد الذي ستحرق بسببه، ففاجأهُ ممسكا به، مقيدا إياه، وأراق عليه خمر الزجاجات التي اشتراها لذلك، وهو يقول له: أصرخ إن استطعت، ستموت شر ميتة، فبالخمر الذي قتل والدي وأمي ستموت أنت أيضا، وأنا معك!! ربما هي لعنة رجال هذه العائلة الموءودة بالموت، ها.. ها لا عليك يا عم .. ستكون مع أخيك وزوجته .. أليس هذا جميلا؟ ... ها ها ها .. أما أنا سألحق بك عن قريب، كان عمه قد فقد الحراك، بعد أن كممه وأحكم رباطه، فظل يتمتم ويرطم الأرض بقدميه، نظر إليه وهو يفعل ذلك، فقال: اهدأ يا عم، أعلم أن الروح عزيزة، وتذكر انك قتلت روحي منذ أو يوم أحسستني به أني أبن حرام، مع العلم أن لا ذنب لي، أليس كذلك؟؟ لا عليك سأنهي الموضوع الآن، فاتجه ناحية الباب، فوقف في الخارج صارخا... يا ناس!!! أنا أبن حرام، أنا أبن غلطة في ليل سكر وعربدة، أنا من خلعت الأقدار ثيابها لحظات زنا، وسقط بها في عالم الخطيئة، ذنبي أنني ابن من ساقتهم الشهوات والمال إلى عالم الضياع، فكنت ذلك الابن الضال، فالأعراف والتقاليد قد حفرت بعقولنا، أن الموت والفجور الأبدي للزناة، أما الأبناء فمصيبتهم اللعنة عليهم، والى الأبد، بالله عليكم ما هو ذنبي؟؟ لم يكن لي يد في اختيار أبن من أكون؟ إنها قدرة الله، ولا أدري ما الحكمة منها؟ هو وحده يعلمها، فكان لزاما علي أن أكون أبن حرام، كانت الناس قد بدأت بالتجمهر فمعظمهم يعلم بأمره، والعداء الناصب من عمه له، حاول البعض الاقتراب، إلا أن تحذيرا منه كفيلا بأن يقيد من حركتهم، لا أريد لحد منكم أن يتضرر، أو ينال منه عقابي، فالذنب ليس ذنبكم، إنما هو ذنب العقول، التي لم تتغير، ولبست الأعراف والتقاليد ستار ليل، فأغلبهم يتناولون الحرام حلالا، مادام بعيدا عن مسميات أو ثوابت، فكلنا نلبس الوجوه المستعارة لنتجمل...

 في تلك الأثناء... كانت الصديقة قد أوصلت الرسالة، أن من يحبها في انتظارها، لم تستطيع البقاء طويلا، رغم تعرضها للضرب من والدها، بعد أن عنفها بشدة، وقرر أن تتزوج أبن عمها ذلك الماجن المعربد في صالات القمار، هربت من البيت إلى منزله، الذي تواعد معها فيه، فوجدت الناس متجمهرين حول منزله، تدافعت بينهم، حتى وقف أمامه، وهو لا يزال يصرخ فيهم، اقتربت منه، وما أن رآها حتى صرخ قائلا: ها هي جريمتي، لقد أحببت هذه الأميرة، فكانت محرمة علي، لأنني أبن خطيئة، لا ذنب لي فيها!! لذا قررنا أن نختار الحياة في العالم الآخر، تحت رحمة من خلقني وخلقها، راجين الغفران، في زمن رفعت الرحمة من قلوب البشر، دخل معها إلى المنزل، وأغلق الباب، لحظات... وإذا النار تخرج صارخا .... حرام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى