الثلاثاء ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم فلاح جاسم

رَائِحة الحُبّ

المتتبع لأحوال الناس وظروفهم، وطريقة عيشهم يجد بأن اختلافا بينا قد طرأ على حياتهم، وأكثر ما يلاحظ ذلك على الصعيد الاجتماعي، فندب كبار السن لحظوظهم لما آلت إليه الأمور الاجتماعية، والسلوكية لجيلنا الحاضر، والتي تشكل منعطفا سلبيا من وجهة نظرهم. وهذا لا يخفى على منصف ذي لبّ. ففي السابق إن كانت لأحدهم علاقة مع فتاة ما، تكون هذه العلاقة عفيفة، روحية في غالب الأحيان، وإن حدث البين وافترقا، يبقى الود قائما، ولا يكون مصير هذه الحبيبة، هو كشف جميع أوراقها، وتهديدها بالفضيحة كما يحدث في عصر "الانترنت" و " عصر العولمة. يبقى ذِكر الحبيبة يذكي جذوة الشوق، ويهيج أشجان النفس، ويبقى ذلك العاشق يحمل بين أضلاعه المودة لأهل المحبوبة و"ديرتها".

كان أحد الشعراء يعمل مدرسا، و يحب فتاة في دياره بالشمال ، ولم يقسم الله لهم بالزواج نصيباً، وتزوجت الفتاة من شخص آخر، وسافرت مع زوجها للعيش في كنفه في دياره. وكان شاعرنا هذا -لا يحضرني اسمه- يحبها حبا جما، لا يستطيع انتزاعه من قلبه مهما حاول، ولم تستطع صروف الأيام محوه من مهجته. وبعد ثمان سنوات من الشوق والحسرة على فراقها، لا يزال يذكرها. وقد حدث أن أبلِغ بقرار نقله إلى منطقة بعيدة، وربما كانت "الواسطة" معدومة آنذاك، أو ليست كما هي في يومنا هذا. وفي أول يوم من دوامه في المدرسة الابتدائية الجديدة رأى بين الطلاب طفلا أحس ناحيته بشعور غريب، وبشيء يجذبه نحوه، ربما تقاسيم وجهه، أو مشاعر من تلك التي بقيت عصية على الفهم والتفسير، وحين ابتسم الطفل ناداه المدرس وقال له: ما هو اسمك، وولد من أنت؟ وعندما أعلمه الولد عن اسمه، واسم أبيه، وجدّه، قال له :أأنت أمك فلانة؟ قال الطفل: نعم.
عندها سكت المدرس مطرقا للحظات، ونهضت ذكريات من تحت رماد السنين، وكتب قصيدة، أعطاها للطفل، وطلب منه أن يسلمها لأمه بيدها.

غابـت ثمـان سنيـن حــلٍ وتـرحـال
غـابــت ثـمــان كـلـهـا مدلـهـمـة
غـابــت سـنـيـن وشـهــور ولـيــال
مافـيـه قـطـر غـيـر وجــه يـمــه
وعقب الثمان الي تعبها برى الحال
جـاب الزمـان الكارثـة والمطمـة
جانـي ولدهـا مبتسـم بيـن الاطفـال
ومن بسمته ذكرت أنا بسمة أمه
ركضت له ودمعي على الخد همـال
من كثرشوقي قمت بلحيل أضمـه
ساعة حضنته والطفل في يدي مـال
شميت ريحتها على أطراف كمّه
واليوم بنت الناس فـي بيـت رجـال
حب على غير الشرف لي مذمـة
مجبور أعوّد واشتكي لكـل الأجيـال
بنفـس حزينـة تايـهـة مستهـمـة
برجـع غـريـب سكـنـه بــر ورمــال
يحيـا يمـوت ويندفـن مـا يهـمـه

على الرغم من شوق هذا الشاعر المتيم لرؤية حبيبته، وربما تكون الفرصة مواتية لذلك، لكنه لم يسعَ لذلك الأمر، تردعه أخلاق حميدة تربى عليها، لأن المرأة الآن على ذمة رجل آخر، وآثر لجم عواطفه والرحيل من حيث أتى، وبقيت صورته في ذهن محبوبته شاهقة في عليائها محلقة في سمائها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى