الأربعاء ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم نمر سعدي

قربانُ الفراغِ وهبةُ الحريَّة عن الثورةِ والشعرِ والحداثة

لم أجدْ أصدقَ من هذا التعبير المجازي لإطلاقهِ على الشعرِ في هذا الوقتِ الخالي إلاَّ من انكسارِ حلمِ الشعرِ وتقهقرِ شموسهِ الطقوسيَّةِ. لا أنمي ذلكَ لشيء أو سببٍ مُعيَّنٍ كتراجعٍ الحماسِ لقراءةِ هذا الفنِ الذي ترعرعَ منذُ فجرِ التاريخِ وصمدَ في وجهِ كلِّ الأزماتِ العاتيةِ والرياحِ الزمنيَّةِ المجلجلة.

ربما يقولُ البعضُ أنَّ هيمنةَ الروايةِ على المشهدِ الأدبي العالمي قد يكونُ السببَ في هذا الانحدارِ لشمسِ المجاز والبرقِ اللغوي.. لا أعرفُ... فهل فعلاً أنَّ الحداثةَ التي ابتدأها الشاعر الفرنسي شارل بودلير في فرنسا وأرسى دعائمها السرياليُّون والرمزيُّون من كتَّابٍ وشعراءَ ورسَّامينَ وصعاليكَ في كلِّ بقاعِ العالمِ قد أقصتْ الشعرَ عن الوعيِ الجماهيري والحسِّ الشعبيِّ العامِّ من خلالِ اشكالياتِ الغموضِ والإبهامِ في القصيدةِ المعاصرة.. حتى أصبحَ فنَ النخبةَ وتسليتَها بامتياز.

أظنُّ أن الذينَ كانوا يتهمُّونَ الحداثة بمثلِ هذا الاتهامِ الخطيرِ قد تراجعوا فيما بعد أو تكشَّفت لهم الحقيقةُ بأنَّ جمرةَ الشعرِ باقيةٌ في كلِّ العصورِ وهيَّ المحرِّكُ الأوَّلُ والأخيرُ لأهواءِ وأحاسيسِ الناسِ وهيَ الوقودُ لكلِّ تطلُّعٌ للحريَّةِ أو توثُّبٍ للإفلاتِ من نيرِ الظلمِ والقمعِ الجسديِ والنفسيِّ.. طاقةُ الشعرِ قادرةٌ على تحريرٍ شعبٍ أعزلٍ كما حصلَ في تونسَ الخضراءَ إذ استطاعَت قصيدةُ الشاعر أبي القاسم الشابيِّ " إرادةُ الحياة " أن تحرِّرَ الشعبَ التونسيَّ من جلاديهِ بعد مرورِ عشراتِ السنينِ على كتابتها.

الحداثةُ خميرةٌ مهمَّةٌ.. بل ومهمَّةٌ جدَّاً في تكوينِ نفسِ الفنانِ أو الشاعرِ وشخصيَّاً لا أعتقدُ أنَّها كانت عائقا بينَ النصِّ والمتلقي أو بينَ اللوحةِ والناظرِ إليها وكما أنَّ للكلاسيكيَّة قيمٌ وشروطٌ ودعائمُ ومبادئُ فللحداثةُ وما بعدَها أيضا ما للكلاسيكيَّة وأكثر. يستطيعُ أن يقولَ قائلٌ أنَّ أبا تمَّام والمتنبي مثلا كانا أكثرَ حداثةً من الكثيرِ من شعراءِ العصرِ الحديثِ ولكنها مسألةُ ذكاءٍ شعريٍّ فطريٍّ في نظري ولا مجال للمذاهبِ هنا. فكما نحتفي اليوم بنصوصٍ تمزجُ الشعرَ والنثرَ والسردَ والإيحاءَ والغنائيَّةَ والرمزيَّة في بوتقةٍ واحدةٍ نحتفي أيضاً بتراثنا الأدبي والجمالي ونؤمنُ أنَّ لكلِ عصرٍ أساليبهُ وطرائقُ تعبيرهِ ولا يجوزُ أن نخاطبَ واقعنا الراهنَ بمثلِ ما خاطبَ بهِ أجدادُنا راهنهم المعيشيَّ.. لا يجوزُ لنا أن نبحثَ في المحارِ نفسهِ الذي استخرجَ أباؤنا منه الجواهرَ اللغويَّةَ التي لا تُقدَّرُ بثمن. يجبُ علينا أن نعي وندركَ الفرقَ بينَ أمسِ القصيدةِ وحاضرها وأن نؤمنَ دائماً وأبداً بأنَّ حياةً بلا برقِ الشعرِ حياةٌ زائفةٌ وليستْ حقيقيَّةً.. وأنَّ حياةَ شعبٍ بلا قصيدةٍ لا تستحقُّ التفاتةً سريعةً من تاريخٍ عابر.

تواجهنا اليومَ مشكلتان.. مشكلةٌ تتمثَّلُ بعدمِ هضمِ الموروثِ الجمالي والتراث الفكري الإنساني بصورةٍ تتيحُ لنا أن نبني نصَّا على أنقاضِ نصٍّ وعيناهُ وفكَّكنا ذرَّاتهِ واحدةً تلوَ واحدة.. وأخرى تتمثَّلُ بفصلِ الغثِّ عن السمينِ في الزمنِ الرقمي. فملايينُ الصفحاتِ على جوجل تعرضُ الرديءَ بجانبِ الجيِّدِ ونحتاجُ إلى ثقافةٍ مصقولةٍ وثاقبةٍ لنعاينَ النصَّ المنشورَ في هذا الموقعِ أو ذاك حيثُ لا محرِّرٌ أدبيٌّ متمكِّنٌ أو بصيرٌ بخفايا اللغةِ.

فالكثيرُ من الشعراءِ الدونكيشوتيين الذين يمتطون صهواتِ أقلامهم ويقارعونَ الوهمَ كفرسانِ العصورِ الوسطى يحلمون بسريَّةِ نجاحِ شعريَّةِ نزار قباني أو محمود درويش المذهلة والمرتبطةِ قبلَ كلِّ شيءٍ بأوجاعِ الناسِ والشارعِ والمتلقِّي البسيط الذي يحسُّ أن أحلامَ القصيدةِ تدغدغُ طموحهُ وتدفعهُ لحملِ روحهِ على راحتهِ والإلقاءِ بها في مهاوي الردى والثورةِ على البؤسِ السياسي والثقافي.

لقد كانَ الشعراء الكبارِ كنـزار قباني ومحمود درويش والسيَّاب وأمل دنقل يزرعونَ ما تحصدُ الشعوبُ العربيَّةُ اليومَ من ثوراتٍ وربيعٍ ومجدٍ وحريَّةٍ وانتصار.
وهذا ينطبقُ أيضاً على شعراءٍ عالمييِّن مثلَ بابلو نيرودا وغارسيا لوركا في محاولةِ التأسيسِ لمشروعِ الحريَّةِ الإنسانيَّةِ القادمِ لا محالةَ رغم غيومِ الدمِ والرصاصِ والحديدِ والجنون.

وبما أنَّ الشعرَ برقُ الروحِ وحدائقُ الحريَّة المعلَّقةُ فلا بأسَ لو انتظرنا الغيثَ مئةَ عامٍ أو يزيد ما دُمنا متأكدِّينَ أنَّهُ سيأتي وما هذا الفراغُ الذي يسكنُ مساحاتِ الكلمةِ سوى وعدٍ بيوتوبيا جميلةٍ وهبةٍ لحريَّةٍ منتظرةٍ وفردوسٍ حالمٍ بالخلاصِ الروحيِّ من أظفارِ المادَّة.. فلا بأسَ لو صرنا قرباناً أخضرَ لربيعٍ قادم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى