السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أحمد الخميسي

أحب «ساراماجو»

بدأت القصة مع التكليف الذي تلقيناه صباح ذلك اليوم. وكنا– أنا وحلمي – نشرف على الصفحة الثقافية بجريدة "الوحدة". نجلس في حجرة واسعة تطل نافذتها على شارع عريض، بها مكتبان متواجهان، ونقوم بكل ماتحتاجه الصفحة ماعدا تغطية المؤتمرات خارج العاصمة. معنا، لكن على كرسي قرب باب الحجرة " خلفاوي " ببدنه الضخم، ورأسه الحليق على الزيرو، يتصفح مجلات أو يتثاءب إلي أن يطلب منه أحدنا شيئا.

التكليف الذي تلقيناه كان بتغطية مؤتمر في إحدى المحافظات البعيدة، وكالعادة اتصلت بشاب من قسم الأخبار كنا نعتمد عليه في تلك السفريات، فقيل لي إنه في إجازة ثلاثة أيام لظرف طارئ. وعلق حلمي "ضاعت عليه المئة جنيه بدل السفر ووضعنا في ورطة". تطلعت إليه أستكشف بنظرتي إن كان قد يقبل بالسفر. فعاجلني بقوله "لا ياعم ! لا. هذا مشوار يحتاج صحة". كنت أعلم أنه يكره فنادق الأقاليم فلزمت الصمت.

خلفاوي الذي اعتدنا تدخله في كل شيء، واعتاد هو على صمتنا لأن ملاحظاته كانت في معظمها دقيقة، مط شفته السفلى وهز رأسه قائلا باستهانة "وماذا يكون المؤتمر يعني؟ ناس يتكلمون، نرسل أي شخص والسلام. مشكلة يعني؟ ". وقهقه بصوت مدو كأنما يقف في حقل مفتوح بقريته، وسكت، ثم استند بباطن قبضته على حافة مكتبي وأعلن ما بين الجد والهزل كأنما يجود علينا بهدية "هاتوا المئة جنيه بدل السفر وأذهب أنا". الفكرة بدت غريبة، لم أستوعبها، مثل قطعة خشب يدفعونها لفم إنسان على أنها طعام فتتعطل حواسه لحظة. لمح خلفاوي حالتي على وجهي، فتراجع للخلف وأولاني ظهره خارجا من الحجرة وهو يقول" مؤتمر؟ يعني نخاف يعني؟ ". وعاد بعد دقائق يحمل فنجاني قهوة، وضعهما أمامنا بصمت لكي لا يشوش علينا استطعام اقتراحه.

خلفاوي الذي ناهز الثلاثين، ساع، لكنه يقوم بأي شيء، وما لا يستطيعه يظل وراءه بإصرار حتى يتقنه ويتولاه، ذكي بالفطرة وطموح وحاصل على دبلوم متوسط، خلال عام واحد من عمله معنا أصبح قارئا للصحف يرمي بملاحظاته الدقيقة على ماينشر ويسخر من تبدل مواقف الكتاب، بل وصار خبيرا في الكمبيوتر، يفتح الملفات ويطارد الفيروسات. لكن أيعني ذلك أن نرسله إلي مؤتمر؟

تبادلنا أنا وحلمي نظرة. وبدا أن حلمي حسم أمره فقال لخلفاوي "طيب.. عندك بدلة أنيقة؟". وعلى الفور اندفع خلفاوي من الثغرة التي فتحت أمامه يوسعها مؤكدا بحماس "عندي. وقميص وكرافت أيضا. ثم أنا سأحمل مسجلا صغيرا، أسجل عليه كل ما يدور، وممكن كاميرا. وإذا سألني أحد أقول من الجريدة وخلاص. مشكلة يعني؟ ". ولمعت عيناه بأمل واثق يشجعنا. لكني تظاهرت بأني متردد، ربما كنت مترددا فعلا، وأنا أقول له " لكن إياك تفضحنا !". صاح بلهجته الريفية الممطوطة" كيف؟ وكل ما سأقوم به الضغط على زر التسجيل؟. ماعدا ذلك أنتم تعرفون خلفاوي يسلك مع الجن ". استراح حلمي وقال له "وإذا سألوك عن أي شيء أنت صحفي. أديب". هبط خلفاوي برقبته بين كتفيه وفتح عينيه باستنكار " صحفي ماشي. لكن أديب؟! كيف يعني؟ ". هونت عليه بنبرة مطمئنة " أنت تعرف أسماء طه حسين والحكيم"، وشعشعت الفكرة عند حلمي فقال "وما عدا ذلك قل أنا أحب ساراماجو" ! مط خلفاوي بوزه باشمئزاز متوجسا من إهانة "صاراماتو؟! كيف يعني؟ ". ضحك حلمي " ليس صاراماطو، بل ساراماجو، أديب برتغالي". زام خلفاوي مدركا أن الكلمة لاتحمل معنى قبيحا، وقال رافعا حاجبيه لأعلى " واجب أتذكره.. احتياطا ".

قبض خلفاوي المئة جنيه وتركنا. وعاد بعد يومين. الحق أقول كدنا لا نعرفه وهو داخل علينا برأس مرفوع وبدلة وتحت إبطه رزمة كتب. وضع أمامنا جهاز التسجيل، وصاح بشمخة " كل كلمة نطقوا بها. ومعي صور للمتحدثين. وبالمناسبة بعضهم أصرعلى التقاط صورة معي للذكرى".

خطف خلفاوي اهتمامنا، وأصبح ذهابه وإيابه وما فعله الموضوع الرئيسي، وسألناه عن التفاصيل فحكي كل شيء. قال إنهم استقبلوه بترحاب (بدا على وجهه أنه أراد أن يقول بتقدير)، وإنه كان يتحين الفرصة خلال الأحاديث لتمرير عبارة "بالمناسبة أنا أحب ساراماجو. أديب عظيم". وقهقه بطريقته الصاخبة مضيفا "مرة واحد منهم سألني ومن يكون ساراماجو؟. فأجبته بدهشة – خير ياعم؟! ألم تقرأه؟! ". انتبه حلمي إلي رزمة الكتب فسأله " ماهذا؟ أبحاث المؤتمر؟". وسحبت كتابا من بينها وقرأت بصوت مرتفع إهداء على الصفحة الأولى منه "إلي الأديب الكبير خلفاوي السيد. خالص التقدير لإبداعه". نظرت إليه، ورأيت للمرة الأولى سحابة خجل خفيفة تمرق في وجهه، ولكنه ما لبث أن ثار بغضب صادق صائحا" أهداني إياها بعض الأدباء ما أن علموا أني صحفي في جريدة. ماذا أفعل؟ كان لابد من سبك الدور ". وغادر الحجرة بعصبية ولم يعد. وفي صباح اليوم التالي رأيناه من جديد عند باب الحجرة في القميص والبنطلون القديمين. وتفادينا كلنا بتوافق غير معلن التطرق لموضوع المؤتمر. وبعد أسبوع صارت مظاريف مغلقة تحتوي على كتب تصل باسم خلفاوي. كان يفتحها أمامنا ببطء ثم يتجه بها ببهجة مكتومة إلي مقعده. هناك يخرج الكتب والروايات ويقرأ بعضها. أحيانا كان يقول بحيث نسمعه " والله هذا الشاب موهوب. أسلوبه حلو ". وبالتدريج صار خلفاوي يسألنا عن كتب بعينها ويستعيرها منا لقراءتها. مع حلول صيف ذلك العام تركنا خلفاوي والتحق صحفيا بإحدى الصحف تحت التدريب، فلم نره بعد ذلك زمنا طويلا، إلي أن سمعت في إحدى الجلسات أنه مسئول عن ملحق أدبي في صحيفة رائجة. وكنت بالأمس قريبا من مقر تلك الصحيفة فساقني الفضول لزيارته. واستقبلني في مكتبه بترحاب وتهليل، وكان عنده شاب جالس بأدب على كرسي عند طرف المكتب ويده ترتجف بورقة، ونصحه خلفاوي أمامي قبل أن يصرفه " إقرأ ساراماجو. أنا أحب ساراماجو ". واستدار نحوي وهو يضيف بنظرة مركزة وببطء كأنما يبثني رسالة خاصة "وماركيز". وانصرف الشاب متراجعا بظهره وأغلق الباب خلفه بحرص. صرنا وحدنا، فانطلق خلفاوي يحدثني عن مشاريعه الأدبية للمرحلة المقبلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى