السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أحمد حمادي

صديقي العزيز

كان صباحاً عادياً رغم أن صوت المطر كان يطرق نافذتي كمن يود تظليل حواسي بأغنية صاخبة قد تنزع عن رأسي قبعة الملل..لم تُفلح تلك القطرات المتكلمة فتراجعت مهزومة ليتقدم الرّعد.كانت الساعة السادسة والنصف صباحا،الهزيم أخذ ينطح الأجواء مستعيناً بصدمات كهربائية برقية آلمت عيناي المنتفختين.ربما كان الوقت ملائماً لارتجاجٍ لا إرادي يجعل جسدي يستقيم معلنا بداية يوم ما ولكنّي معروفٌ بصلابة أعصابي فكيف أرتعش ! لجزء من الثانية تركت عقلي المتعب يتعذب قليلا وهو يحاول تحديد القرار المناسب..نهوض أم غفوة تصل الغيبوبة السابقة لتجعلا معاً سريري وكرا سباتيا مريحا.مستمتعا بنحيب الأمطار وغصة الرعد المدوية، حاولت النوم مجددا..ولكنّ النعاس جافاني مبتعدا،لعل جسدي قد اكتفى من تجرّع ذلك المخذر الذي يجعله خشبة هامدة أو أنّ رأسي استيقظ على غرار أعضائي المُنهكة.
مرّت بضعُ دقائق وأنا بين العالمين ولكن حدث وأن مرّت مخيلتي بفكرة مريحة حينها فقد استعدت وعيي.حاولت التذكّر ولكنني لم أستطع،وكالعادة سحبت شريط الذاكرة من مؤخرة رأسي وجعلت أرجعه للخلف صورة بصورة علنّي أعثر على ما أراحني..لن أكون كاذيا، لم أعثر على مدخّرات تبعث الأمل،كلّ شيء كان بشعا لا يستحق صرف طاقتي لاستعادته..

أفرغت الهواء في فضاء الغرفة أو كما يقولون،زفرت بحزن. لقد أردت أن تخرج تلك الأحداث المُحبطة من فكري عبر بوابة الأنفاس.بوابة الانفاس!: كم أحببت هذه الكلمة، لقد ارتبطت عندي بمعاني البوح واللحظات الأخيرة.ارتبطت على نحو ما بقصة روميو وجولياث ووداعهما الأخير..

لقد تكدّرت،هبوط ما حدث..استشعرته بتركيز مُفرط. رميت بيدي نحو الخلف، أمسكت الوسادة، ضربت بها رأسي كأنني أحارب ما بداخله ثم تنهّدت بشغف بعد أن دثرت شعري بتلك المنتفخة المحشوة بريش النعام.كالجبان،جعلت مُقلتاي تنفذان من تحتها لتنظر إلى الحاسوب فوق الطاولة. شريط الذاكرة اشتغل..قفز قفزات مفيدة نحو ما أردت متخطيا الشوائب ليوصلني إلى الوضوح. لقد تذكرتها،عادت معنوياتي للإقلاع ثانية.

الآن لم يعد هناك ما يمنعني من استعراض طولي والوقوف من على السرير الذي يحجب الأحجام. مسرعا، منقاداً نحو حاسوبي..خطوت.أضاء نوره جوانب غرفتي بعد ثوان. بضع نقرات جعلت صفحات مملوءة تتسابق نحو العدسة المثبتتة داخل رأسي.مسحت بعيناي ذلك المحيط من الأحرف وأنا في غاية السعادة.إنّه جهد أشهر كثيرة من الكتابة،ثمرة ساعات من التخيل والخوض في تفاصيل تجعل الرأس يهيج طالبا وقتا مستقطعا..

أجل،أنا كاتب روائي..ومن قال أن لأعصابي صلابة الصخر فقد قارب عقله الخرف وما درا.مرّرت الصفحات على عجل لأصل إلى العنوان الفاصل، المشهد الأخير لقصتي. لقد قضيت سويعات الليلة السابقة في تخيل نهاية تلك الملحمة الشاعرية.هل أجعل من الخاتمة انهيارا يجعل القلوب تطلب الماضي فتصبر أو فرحاً غامرا يلملم الجروح ويرسم طريقا ورديا في عقل القارئ لحروفي؟

كانت الساعة الواحدة ليلا،عندما اهتديت لنهاية بطلي الحكاية.أرفض القول بأنّها كانت فكرة لأنّها لم تكن كذلك.كانت أشبه بمشهد حقيقي تراءى لي.كان هناك قمر ساطع يشير بأصابعه المضيئة ناحية شاب وشابة تبادلا حوارا راقيا مُشبعا بالعبارات الموحية التي اكتنزت قلبيهما.حديثا لخّص كل ما جرى من أحداث نحتت كل هش لتُظهر الصدق والوفاء، الحب والأمل..

طقطة أصابعي على لوحة المفاتيح عمّ أرجاء الغرفة، صوت المطر رفقة صديقه الرعد كان مرعبا ولكنني لم أسمع غير تغريد أناملي على الآلة الموسيقية التي تبدأ بحرف الألف وتنتهي عند الياء.كتبت وكتبت،مررت بلحظات تأثرت فيها بما أخطه وشاركتُ الأبطال لحظات فرحهم،كم هو جميل أن تمنح شخصيات وهمية مشاعرك وتحرّك فيهم كل ما عرفته عن الأحاسيس الانسانية وصعاب الحياة.كم هو محير ومنعش أن تغضب بدلا عنهم، تفرح وتبكي،تنحسر وتتقدّم بشجاعة..

وضعت نقطة النهاية بعد أسابيع من الكد والعمل.لوهلة، انتابتني صدمة خفيفة، ما ابتدأ بشغف وفكرة انتهى بقصة تجعل الأوصال تهتز.أخذت أتأمل عشراتٍ من الصفحات التي كتبتها.الأحداث كانت تنساب في عقلي تباعا. لقد كنت فخورا بنفسي...هكذا شعرت!

كان الوضع يتطّلب حفلة صغيرة.وقّفت عقلي عند هذه الكلمات قبل أن أنساها.لم يكن لدي متسع من الوقت لنبش شريط الذكريات مجددا.قطعا لم أرغب في تلويث بهجتي،لم يكن هناك في تلك الغرفة الصغيرة غير قدح من الماء.لا يهم، قلت في نفسي.المهم هو وجود سائل يُنعش حلقي ويدعم انتصاري.

كملك يحمل كأسا ذهبيا حوى عصيرا لذيذا سرت نحو النافذة.ناظرا إلى وجه الطبيعة الكئيب،شربت قطرات الفرح وقد علت محياي ابتسامة عريضة وعيون ضاحكة أغاضت ولا شك قلب ذلك اليوم الشتوي العصيب.

كنت أسترق النظر إلى حاسوبي لأستمد منه دفعات متزايدة من البهجة.هام عقلي كالولهان في ربوع المستقبل الزاهر بالنجاح حين سيقرأ كل الناس ما أبدعته من كلمات !
سيفٌ ما لا يشبه نصل بطل قصتي شق تلك اللحظة المميزة، طرقٌ عنيف على الباب تلته هبة ريح باردة وصوت لا يكاد يُسمع:>> بني، لقد تأخرت على عملك، لا تقل لي بأنك لا تزال تضيع وقتك بكتابة القصص..أرح بصرك وكفّ عن الحماقات<<

مشهد معتاد وكلمات بطلة يومياتي.جدتي التي لا ترى منّي سوى ذلك المحارب الذي كانت تراه في جدّي إبان الحروب الثورية.ولكن، بدلا من بزة عسكرية صارت تفضل ساعداي القويتين اللتان تستطيعان حمل أكياس الطعام لها أو كما تسميه (قوت اليوم)
هبوط معتاد خالجني.كطائرة تهوي،هوت معنواياتي.من قال أنّي لا أملك مشاعراً لم يرى وجهي حينها وجدتي تصفق الباب وعيوني مثبتة على تلك الصفحات التي جعلتها صاحبة الأعوام الكثيرة باردة، بعيدة لا تمت لواقعي بصلة.

صديقي العزيز.. يومٌ آخر سأقضيه مجبرا.لقد انتصر المطر والرعد،لا مجال للعودة إلى فراش كما أن الوسادة لن تحجب دقات قلبي المتسارعة التي تضخ النشاط الوهمي في، سأخرج الآن ولكن سأعود لأقص عليك أحداث يوما آخر وصباح جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى