السبت ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم عناق مواسي

كيـفَ الأساطيرُ تـَنتَهــــي ..؟

هناكَ أساطيرُ نقرأها، نعيشها بحواسِنا، نحزنُ فيها أو نَفرح... نَترُكها فننساها ..

وهناكَ أساطيرُ نخلِقها كي نعيشها، نُصدقها أو نُفندها، نتركها ورُبما لا ننساها ..

وهناكَ أساطيرُ تَخلقُنا، تَعيشُ فينا، تُعيدُ تراكيبنا، نسّلمُ لها مقاليدَ أرواحنا ومصائرنا، ونحنُ لا نعلمُ أننا جزء منها، إلا حينما تنتهي الأساطير...

السابعة مساءً.. أنهى عمله وانتفضَ يجمعُ أوراقاً أمامه بتباطؤٍ وهو لا يقوى على ترتيبِ الأشياءِ، كأنه استسلم للفوضى بارتياحٍ، ربما يأتيه ترتيبٌ يوازن إيقاع أصابعه المهدّمة التي وقعت تحت ردم البُعد بفعل حالة انهيار عاطفي بقوة سبع درجات على مقياس الحب، وحالةٌ من الإعياءِ تتشنجُ فيه ساعاتٍ طوال، والأيام السقيمة تطول... وعيناه أصبحتا تتغطيان بزجاجٍ يحجبُ عنهما رائحتها وصوتها وعينيها اللتين شقّتا أرض المستحيل لتنبت اللبن والعسل..
الثامنة مساءً.. تلكأ في عودته الرتيبة بعد أن تناولَ وجبة عشاءٍ خارجاً بلا مبررٍ مستساغ!! حرّكَ في الصحنِ فراغاً وأدخل شوكته في اللحمِ الكثيف فلم يقتطع منه شيئاً بشفتيه الحائرتين، فتركَ الطعامَ وعادَ في دربٍ مظلمة، وبين رده العتمة أبصرَ طريقاً مُنارة بشوقٍ يكبرُ فيه حلقاتٍ مائية تستديرُ، تغوصُ ، تذوبُ في نفسه وتتوالدُ حتى الاضمحلال ... أدخلَ مفتاحه في البابِ وانتزعَ معطفًا بارداً لم يدفئ أوردته التي تتوقُ إلى عينها البعيدتين..

التاسعة مساءً..

 حضّرتُ لكَ وجبة عشاء !!

 لستُ جائعاً ..

وأقفـلَ كــل شيءٍ...

للريحِ تركَ ظهره تنقشُ عليهِ دهشة، الزوايا بالليلِ مُكحلة، والليلُ بالسكونِ مكحلٌ وعلى سطحِ جلدِه العاري سكونٌ يتمددُ، وشيءٌ، لا بل أشياءٌ منه تتقطع من نسيجٍ فكرهِ المؤرق!! في مخيلته التعبة تتوازى سكتّا حبه الذي لم يعد يقوى على الالتئام ولم يفلح بقراءة الواقع المشتت بكلتا عينيه المسافرتين إلى ما وراء التوّقع!!

العاشرة مساءً.. الحادية عشرة... الحادية عشرة والنصف...

تلاحقه عقاربُ الساعة، تتحركُ سيوفاً، تدخله، تمزقه، تدمي عليه لحظات الانتظار، الشوق يفعلُ فيه ما يفعله الثائر المغامر في ربيع الشعوب... وعلى مسطّح الكرامة المسلوبة في زمن الحدود المغيّبة تبدأُ أساطير!!

تنتقلُ جوارِحهُ من أرض ثورةٍ إلى أخرى، وتسري في أحشائِهِ لذة انتصار، تنبسُ شفتاه الثقيلتان بابتسامة رضا ترّنح هذيانه قليلاً ويأخذُ نفساً عميقاً وينتقل إلى محطةٍ أخرى على شاشة التلفزيون... تصحي الثورة فيه حالة ربما يعيشها، فيغيبُ عن بالِه أن الحبَ الذي يمشي على ساقٍ واحدة تتصحرُ فيه الشفاه ولا يقطَفُ فيه البرقوق، ولا تفورُ فيه عيون الماء، ولا تحملُ الأرحامُ فيها أجنة.. فتبدو الحالة خالية من مقومات الإثارة والجنون..

الثانية عشرة ...

وقفَ تحتَ السماءِ حين الليلُ يغلق ملفاً من العتمة

أمسـكَ رسالـتها:

"لم أخلق لأكون كائنةً من ورق، يمكن أن تصنعَ منها طائرات ورقية أو قصاصات تغرسها بين صفحات كتبٍ تلتهما بنهمٍ لكي تعّلم أين وصلتَ في قراءتك كلما طالعتك ذاتك المؤرشفة خطياً، أو لتكتبَ وتسكُبَ فوقها ملاحظات خاطفة كلما عصَفت داخلك انفعالات لحظية!!!
تربطُ مفرداتي علاقة شبقية بالحبر، وعلاقتي باللغة لا تنتهي بعلامات ترقيم آخرها نقطة وسطر جديد! ولا تؤثث مفرداتك الحسية بيت القصيد إذا كانت خالية من الحب. أنتَ تعلم أن لا حدود بيني وبين اللغة إذا تملّكت جوارحي، وصاغت أوزاني.. فأطوعُ المستحيل ممكناً نزولاً عند رغبة الكلمات الممنوعة من الصرف.. استنطقتُ فيك الحروف الساكنة، ونقشت الحناء على كفيك بالشوق.

يؤلمني أن تُجزئ شوقي لحروفٍ تدخلها لصالح كلماتك المتقاطعة فتبدل أماكن الحروف وفقاً لما يمليه عليك الفراغ المتاح!!

يؤلمني أن أمد إليك أذرعاً خضراء تُخصبُ بساتين الكلمة فيكَ فتتبرأ منها، لتسافرَ رحلة مستعجلة في ظروفٍ أصبح سعر الخبز أغلى من الحبر في أرضِ الحنطة. وأنت تداهمني في يقظتي وجنوني غير المنضبط. لا يوجد مبرر يقنعني أن التواتر في اللقاء نوع من الوصال، نحتاج أحيانا أن ننعطف لغوياً كي نمر في طرق متعثرة بسلام.

أعذركَ على عدمِ انضباطِكَ فأنتَ اليوم حالة غير استثنائية في ظروفِ الحبر، وأنت تشبه حالات كثيرة ثائرة في العالم وهذا الربيع تحديداً.. سيكونُ من الصعبِ أن أتذوقَ طعم الشهد ثم أهبط من عُلّيٍ كي أستسيغ الزنجبيل..

يمكنني الآن أن أشيع أنين الكلمات الخافتة إلى مثواها الأخير بدلاً من موتها سريرياً، هناك يمكنها أن ترتاح خلافاً لعذابها لحظات متكررة، ففي حالة الحب هذه اسمح لنفسي أن أضع للأساطير حداً رأفةً بها كي لا تتشرب في العذاب أكثر.. على الأقل سيكون لي مبرر أن ازور المقابر بطريقة كلاسيكية وأزرع على الضريح شيء من تراث الزنابق، أتباكى دموعــاً خفيفة وأعود بعد أن اقرأ الفاتحة".

كوّر ذاته تماماً كما كوّر رسالتها وضمها إلى صدره ..

"يا أيتها النسمة التي تعيشني، تتملكني في حلي وترحالي، أشعركِ بين شفتي مغردة ككل الصباحات التي تأتي بعد ليل عابثٍ! تجردتُ من معاني نفسي عندما صدقت أنه بإمكاني أن أعيش أكبر من حدود تمكني كرجل... أنا على يقينٍ تامٍ أن أحاسيسي منسوجة بالوصال، وانكِ لم تكوني فوضى عارمة في غرفة تغيير الملابس.. أدرك أن حبكِ بحاجة إلى جرأة كي يتفتح والى جنون كي يثور داخلي وإلى تأرخة كي لا ينتهي.. لم افلح أن أضرم النار في السطور، ولم أشعل كلماتك بحجري صوان، ولم أتجرأ في استثارة حرفٍ واحد..

سامحيني ... إن سقطت قطعة التشكيل بالخيبة

سامحيني"

عرجت عيناه المبللتان بالدموع إلى الله

يا رب.. سامحني

يا رب.. احيي رميم حبي، لينمو فيّ شجرة زيتون تتأرشفُ على لحائها أسطورتي المجيدة كي تسامحني الأرض الخصبة التي جئتُ على حشائشها الطرية بيدي القاسيتين واجتثثتُ بمنجلي سنابل خضراء حملتني حباً وأسطورة..

يا رب.. سامحني

آميــــــــن ....آميــــــــن


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى