الأربعاء ٦ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

حكاية امرأة عراقية

بقيت أم سعيد في منزلها تعاني الوحدة المريرة القاسية، بعدَ أن ماتَ زوجها في الحرب، وسافرَ أبنها الوحيد معَ زوجته خارج أسوار الوطن، لتبقى سجينة العزلة الانفرادية وهي تحترق في كل لحظة بنار القلق والخوف كما تحترق أعواد البخور نفسها عندما تشعل!

فالصمت المرعب الذي لازمَ حياتها الرتيبة المملة الذي له طعم الألم، ليبدو حبسها لنفسها داخل المنزل كالصورة المطوقة بإطاراتها! إذ تنهض عندَ الصباح وقبلَ أن تستجمع الشمس حرارتها، لتنظر إلى يومها، فتراه كسابقه، لا جديد فيه، فتعيش أوقاتها بلا حياة أو رغبة كالشخص النائم مغناطيسياً، يأتي بحركات معينة ويتكلم ويفصح عما تخزنه ذاكرته بلا إرادة، ببساطة لقد أجبرت أم سعيد على أن تحيى الحياة بهذه الطريقة المميتة التي لا تسر السماء ولا ترضي الشيطان نفسه، قسراً ودونَ اختيار كالذي يحملُ مسدساً ويظهر الخوف منه!
تتصل بابنها بينَ الحين والآخر وهي تبكي بفزع كمن يسخر من خوفه ! لتقول له برجاء مخذول: يا بني أستحلفك الله أن تخلصني من هذا الطوق الذي يخنقني، أود أن أكون معكم وبجانبكم، وليست لي أمنية أخرى في الحياة سوى أن أقضي ما تبقى لي من أيام لخدمتكم وبقربكم، ثمَ تشرع وهي تلوح بيدها في الفراغ كمن يشير لشخص ما عن بعد: أرجوك يا بني حقق لي طلبي وهي تشهق ببكاء مر .

اشتعلت كلماتها في أذنه، فظلَ باهتاً وهو يتعذب بصمت كمن يعرف أجله، ثمَ وعى على نفسه وهو غارق في دموعه فقالَ لها بلطف : ماما، أرجوكِ أن تتوقفين عن البكاء، أتوسل إليك، أفعلي هذا من أجلي، أرجوكِ، أوعدكِ بأنني سأفعل كل ما بوسعي كي أخرجكِ من العراق، لكني أحتاج لبعض الوقت، وأعلمي بأني سوفَ لن أتخلى عنكِ أبداً .

جلسَ على حافة السرير خائفاً، قلقاً بينما الأفكار تدور في رأسه بشكل جنوني، وهو يهذي كالمحموم، بعدَ أن زحفَ اليأس إلى قلبه كما يزحف الظلام على الأرض وقت الغروب، يجب أن أحاول، أن أفعل شيئاً، لقد وعدتها، لا يمكن السكوت أكثر، أنها أمي ولا تملك في الحياة غيري، يجب أن أكون رجلاً يستحق الحياة بكرامة، ثمَ يقف صارخاً بأعلى صوته، كالذي أصابه المس للتو، سناء، أينَ أنتِ يا سناء ؟ تتقدم زوجته منه بسرعة وهي في حالة من الذهول والفزع، فأشاحت : ماذا هناك يا رجل؟ لماذا تصرخ هكذا كالمجنون؟ ما الذي حصل؟

يدمدمُ سعيد بكلمات سريعة وكأنه ممتلئ بها ويريد التخلص منها! فقال وهو يمسك بطرف ثوبها كالطفل بعدَ أن بانَ القلق عليه وأخذ مبلغه منه وزادَ خفقان قلبه فقالَ مستطرداً كالأسير الذي يجهل مصيره : أنها أمي، وتعيش وحيده كما تعلمين وقد يصيبها مكروه ولا يستطيع أحد مساعدتها، فهي امرأة مسنة وبسيطة، أرجوكِ دعينا نساعدها ( كانَ يتحدث وهو يتصبب عرقاً كالمحموم بعد أن تملكه اليأس تماماً )!

ردت عليه زوجته بهدوء بعد تفكير قصير وقالت بحزم، كعهد المرأة عندما تتخذ القرارات ! لنبيع السيارة ونضيف ما وفرناه منذ سنوات، لعل ذلك يكفي لتسديد تكلفة وصولها لنا بسلام، ما دامت هذه هي رغبتها وحلمك، سحبها من يدها وطوق خصرها، كما يطوق الخاتم الأصبع! ورسمَ على شفتيها قبلة حارة، أمتناناً وعرفاناً لشجاعتها وموقفها الثابت الحميم .

لم تمضي سوى ثلاثة أشهر، لتكون أم سعيد ضيفة العائلة التي تتكون من أبنها وزوجته وأولادهم الثلاثة، رحبوا بها، وطلبوا منها برجاء صادق أن تفصح عن كل ما يضايقها أو ما تحتاجه، كي يعيش الجميع تحتَ سقفٍ واحد بسلام ووئام .

مضت الأيام بطيئة على قلب أم سعيد في موطنها الجديد، وحياة الغربة لم تكن متوقعة لديها، فأوقاتها كانت تسير بجمود دونَ حركة تذكر، وببرود كالسبات، وبعزلة وقسوة وخشونة شديدة كالمسجون لم تألفها، فالحياة الجديدة أصبحت لها كاللون الأبيض، حيادية كالموت، ولكن تبقى جوانب كثيرة من حياة الغربة أنيقة، مهذبة، نظيفة ومسالمة، ولكن ما دخلَ كل هذا بحياة تلك المخلوقة البسيطة التي لا تجيد القراءة والكتابة، ولا تعلم من أسرار الحياة سوى حبها لأبنها ولأسرته، وتحفظ في قلبها ذكرى طيبة لزوجها، فبدأت رحلتها معَ حياتها الجديدة في الغربة بطريق شائك لا تعلم معالمه، سوى أنها أصبحت بينَ ليلة وضحاها إنسانة مهملة، وحيدة وتعاني العزلة من جديد وبشكل سافر وسط لغة لا تفهم منها سوى طنينها الذي يؤذي أذنيها عندما تسمعهم يتحدثون بها، بينما كانت في العراق تستطيع أن تذهب إلى السوق وأن ترى جيرانها وتسامرهم عندَ العصر أمام عتبة الباب أو تستقبل بعض الضيوف الذين يسألون عنها بينَ الحين والآخر، ولكن الوضع في حياة الغربة قد تغير تماماً، فبعد أن يذهب ابنها وزوجته إلى العمل صباحاً، ويلتحقون الأولاد بمدارسهم، تصبح أم سعيد وحيدة إلى شيء غير ناطق، جامد كقطعة من أثاث المنزل! لا تتكلم ولا تشعر ولا تسمع وإن سمعت فهي لا تفهم!، وأن خرجت من المنزل سوفَ لن تعود إليه ثانيةً، وأن أبسط الأمور التي تحيط بها لا تعرف التعامل معها أو فك رموزها، فحتى أزرار المصعد الكهربائي لن تجيد استخدامها، لا أحد يتحدث معها أو يدعوها كما كانت سابقاً في العراق، لشرب الشاي عند جيرانها،فباتت تثرثر معَ نفسها كالوقواق، تضحك وتصرخ وتبكي وتصمت دونَ شعور، بينما أنفاسها باتت محتبسة من الخوف والقلق والجزع الذي تسلسل إلى روحها، وعندما تجتمع العائلة مساءً ينظرون لها وإذا بعيونها حمراء منتفخة وسحنتها ذابلة، شاحبة كالماء، ومن يراها وهي على ذلك الحال يقول بأنَ هذه المرأة ستموت بعد أيام قليلة لا محال . فصمتها وعزلتها وعدم مشاركتها لأفراد الأسرة، جعلت منها شخص منسي أو كمن لا وجود له أصلاً، فتذهب للنوم مبكراً ، وغالباً ما كانوا ينسوها طريحة الفراش كالميت .

وفي إحدى الأيام الباردة، جلست أمام أبنها ونظرت له دونَ أن تطرف عيونها، وقالت بصوت مبحوح كالذي انتهى من نوبة بكاء طويل : أرجوك يا بني، أتوسل أليك أن تلبي طلبي ..
 وما هو طلبك ؟ ( قالها وهو يمط شفتيه ويحاول الكلام بصعوبة ).

تجاهلت سؤاله واستمرت بعرض مشكلتها وكأنها أمام دكتور يريد فحصها فأردفت وبدا الشحوب على وجهها واضحاً، شاخصة النظر إليه : أنا لا أملك غيرك في الحياة ولا أستطيع إلا اللجوء والرجوع إليك،

فقاطعها قاطباً حاجبيه وصوته بدأ يتهدج وهو يهتف بجزع، قولي يا أمي ما تريدين مباشرةً ولا تجعليني صريع الأفكار الشريرة المجهولة التي تدور في رأسي، ثمَ أردف ما هذا أعوذُ بالله ..
نعم يا عزيزي أنا أتفهم غضبك جيداً، لكني أعرف أيضاً بأنَ ما سأطلبه منك شيءٌ صعب وقد لا تنفذه لي

 لا عليك يا أمي، أوعدكِ بأني سأنزلُ على رغبتك وأنفذ كل ما تطلبين، ثمَ أستأنف كلامه وهو يلوح بيده والخوف يزداد عمقاً في نبرة صوته : أنا منْ يتوسل ويرجو يا أماه، أن تقولي ما عندك وتريحين نفسكِ وتريحيني ..

رفعت نظرها إلى السقف وكأنها تناجي السماء وتطلب منها العون وهي شاهره يدها كمن يبتهل فاستطردت قائلة : يا بني أنا هنا أشعر بأني كالميت، أقصد كالذي يعيش في قبر، معذرةً، أريد أن أقول بأني هناك .. وهي تشير بيدها النحيفة كالعصا نحو أحدى زوايا الغرفة، بدأ صوتها يختنق ولا يكاد يسمع كالشخص الذي يستيقظ فجأة من النوم على كابوسٍ مرعب ! وعلت محياها ابتسامة شاردة وهي تتحرك في مكانها دونَ شعور كلهيب متراقص، وأبنها ينظر لها بعيون متعبه، كمن لفحته الرياح العاتية القوية تواً ! فقالت بقلق : هناك الحياة أفضل لي كثيراً، ثمَ قالت بحزم وبشكل قاطع :

أريدُ أن أرجع إلى العراق! ثمَ صمتت كالتمثال وكأنها تريد أن تخمن رد فعل أبنها . ثمَ أردفت بعد أن ارتجفت شفاها وهي تحاول الابتسام بصعوبة لتخفيف وقع الصدمة على أبنها الذي يستمع لها بذهول، مخفياً غضبه، فقالت يا بني وهي تشير بأصبعها الصغير هناك .. أستطيع أن أحيا وأعيش رغم كل ما يحدث ( وكم تمنت في قلبها وهي تتحدث لأبنها أن تكون صادقة )! وأردفت أما هنا، أشعر بأني لستُ أنا، وغريبة على نفسي، يعني كيفَ أشرح لكَ ما يخالجني من ضيق، ثمَ تفرك يدها بقوة كالشخص الذي يشعر بالحرج فتقول ثق أني أموت في كل دقيقة هنا، وأنت لا ترضى بأن يكون حالي هكذا، فهو لا يسعد حتى الشيطان ! فأنصهرَ قلبها في دموع حارة ملتهبة وغاصت روحها في قلبها المجروح النازف وعيونها بدأت تبحث في الفراغ تستنجد الرحمة بصمت المحتضر وهي تنتحب وتردد بتوسل كالشحاذ أرجوك يا بني أسمح لي بالعودة، فهناك بلدي وناسي ولغتي وبيتي ومقبرتي في انتظاري أيضاً ..!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى