السبت ١٦ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم فيصل سليم التلاوي

قسمة

(وددت أن أضيف للعنوان نعتا، ليكون(قسمة ضيزى) أو(قسمة عادلة)فاحترت أي النعتين أختار، ولذلك آثرت أن أترك القارئ يختار النعت الذي يراه مناسبا)

طال تذمر (المغاريب)* جيلا بعد جيل، من قسمة أورثتهم مساكن في قرى متناثرة تقع غربي المدينة، التي يقصدون سوقها يوميا لبيع منتوجاتهم الحيوانية، ومحصولاتهم الزراعية، ولشراء ما يلزم بيوتهم وعيالهم من أسواق المدينة، خاصة في فصل الصيف و تحت و طأة حمّارة القيظ.

لكن أكثر ما يغيظ المغاريب و يجعلهم دائمي التذمر والشكوى من سوء حظهم، أنهم عندما يتوجهون صباحا مُشرِّقين صوب المدينة، فإن الشمس تستقبلهم منذ مطلع النهار، و مع خطواتهم الأولى بأشعتها المسلطة على وجوههم، وعلى وجوه دوابهم، مما يؤذي أبصارهم ويعيق حركتهم، فإذا فرغوا من قضاء حوائجهم في البيع والشراء، وهمّوا بالعودة إلى قراهم مُغَرِّبين بعد العصر، تكرر الحال معهم، إذ يجدون الشمس في انتظارهم في الجانب الغربي من صفحة السماء، كأنما قد نصبت لهم كمينا مُبيتا، فتلسع و جوههم ووجوه دوابهم، بوهج أسخن حرارة، و أشد إيلاما من مثيله الصباحي، فيزداد معه تذمرهم وسخطهم على مرّ الأيام، على هذه القسمة التي أورثتهم سكنى النواحي الغربية من المدينة .

بينما يتندر عليهم (المشاريق)*، بأنهم عندما يقصدون المدينة صباحا مُغَرِّبين، فإن الشمس عند شروقها صباحا تكون وراء ظهورهم، فلا يلحقهم منها أذى، وإذا ما انقلبوا راجعين إلى قراهم مُشَرّقين عصرا، فإن الشمس تكون ساعتها في طرف السماء الغربي، أي وراء ظهورهم أيضا، فلا يضيرهم وهج أشعتها، وهذا يعني أنهم قد ربحوا القسمة صباحا و مساءً.

يواصل المغاريب تذمرهم و شكواهم من تحيز الشمس ضدهم صباحا و مساء، بينما ينتشي المشاريق سعادة، لأن الشمس تحابيهم في غُدوهم و رواحهم، و لا يكتمون فرحتهم أو يدارون عليها، لتستمر على حالها، بل يعمدون إلى إغاظة المغاريب والتندر عليهم، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا.

ولم يطق المغاريب على ذلك صبرا طويلا، بل تنادوا لتغيير هذا الواقع، سلما ما أمكنهم ذلك، و حربا إن لم يكن من الحرب بُدٌّ. و تضاربت آراؤهم، فمن قائل:

 نقترح عليهم تبديل مساكننا بين فترة و أخرى، على طريقة تبديل المرامي بين شوط وآخر في لعبة كرة القدم.

 كيف قبل أجدادنا بهذه القسمة الظالمة؟

 إن كانوا وقتها في لحظة ضعف، فنحن اليوم في لحظة قوة، و لا بد من تغييرٍ على الأرض يعكس مواقع القوى الجديدة.

 نحارب المشاريق، و نُجليهم عن أماكنهم بالقوة، و ليأتوا فيسكنوا مكاننا غرب المدينة إن أرادوا.

و تحقق ما دبَّره المغاريب بليل، فقد حشدوا قوى لا قبل للمشاريق بها، و تمكنوا من إجلائهم عن ديارهم و أراضيهم، واستوطنوا ديارهم شرقي المدينة، وصاروا المشاريق الجدد، واستمتعوا بالذهاب للمدينة مصبحين، والعودة منها ممسين، والشمس في كلتا الحالتين وراء ظهورهم، لا يلحقهم منها أذى، ووجدوا في ذلك متعة لا توازيها متعة اخرى.

بينما لم يجد المشاريق القدامى من ملاذٍ أمامهم سوى أن يصيروا مغاريب رغم أنوفهم، فيقطنوا القرى التي رحل عنها أصحابها غربي المدينة، وأن يتجرعوا ما لم يعتادوا عليه يوما، وهو مواجهة لسعات وهج الشمس تكوي وجوههم و جباههم في الغدو و الآصال، في طريق الذهاب والإياب إلى المدينة، و صبروا على ذلك على مضض.

مرت الأيام على النحو الجديد، و سُرَّ المشاريق الجدد بالقسمة الجديدة، بينما صبر المغاريب الجدد على حظهم العاثر آملين تغييره في يوم قريب.

وحل فصل الشتاء، فإذا المطر ينهمر مدرارا في السفوح الغربية، فترتوي الأرض، و تمتلئ الآبار، و تتفجر الأرض عيونا، و تكتسي الأرض خضرة، و تغل المحاصيل الزراعية غلةً ما خبرها أهل المغاريب الجدد يوما من قبل.

أما المشاريق الجدد فما نزل بموطنهم الجديد سوى قطرات من مطر، لا تطفئ غُلّةً، ولا تنبت زرعا، ولا تدر ضرعا، واحتاروا في أمرهم، و ظنوا أن احتباس الأمطار عنهم، إنما هو عقوبة ربانية بسبب اعتراضهم على القسمة الأزلية، وجزاء تعديهم على مواطن غيرهم، و ندموا على فعلتهم.

و من أين لهم أن يعلموا أن السفوح الشرقية للجبال تقع في منطقة ظل المطر، التي تحجب القمم الجبلية الشاهقة الأمطار عنها، بينما موطنهم القديم يقع في السفوح الغربية المواجهة للبحر، والتي تستقبل السحب أولا فتستمطرها، و لا تبقي منها للسفوح الشرقية المتوارية وراء الجبال إلا أقل القليل.

ندم المشاريق الجدد على سوء صنيعهم، و قرروا أن يكفروا عن سيآتهم، فيعيدوا للمشاريق مساكنهم الأولى، بعد أن أيقنوا أن الصبر على لسعات الشمس صباحا

ومساءً، أهون كثيرا من الصبر على انحباس الأمطار، و نقص الخيرات و الثمار.

فأرسلوا وفودا للصلح، تعرض عودة كل فريق إلى موطنه القديم، لكن دعوتهم هذه المرة لم تلق استجابة من المغاريب الجدد، الذين ذاقوا طعم الخيرات والمنتوجات الوفيرة، التي وهبها لهم هطول المطر الغزير، فما رضوا عن موطنهم الجديد بديلا.

وضجَّ المشاريق الجدد بالصراخ مطالبين بالعودة إلى مساكنهم الأولى، و تنادوا كالمرة السابقة إلى انتزاع ما يريدون بالقوة، و تعالت أصواتهم:

 كيف لا؟ و هو موطننا الأصلي، و نحن أحق به؟

 لكنكم فرطتم به من تلقاء أنفسكم، فنحن أحق به منكم.

وأيقن المشاريق الجدد أنه لا قبل لهم هذه المرة بدفع المغاريب الجدد عن أماكنهم، فارتضوا بالتحكيم بديلا، وأرسلوا وفودهم شمالا و جنوبا، يطلبون وساطة القرى والبلدات التي تقع شمالي المدينة و جنوبها، والتي لم تخض مثلهم تجربة النزاع حول المكان المفضل للعيش. لكن كل اقتراحات هؤلاء وأولئك، وجميع جهودهم في اجتراح حلول مناسبة ترضي الطرفين، لم تلق رضا و تجاوبا من الجانبين، إن قبلها المغاريب رفضها المشاريق، و إن رضي بها المشاريق تمنّع في قبولها المغاريب. حتى نفض أهل الشمال والجنوب أيديهم، وعلقوا وساطاتهم، و تفاقم الخصام بين الطرفين، و تدخلت جهات و أطراف خارجية بعيدة، وانتهى الأمر إلى لجان تحكيم دولية، ارتأت أن يعيش الطرفان في مكان واحد، يتساوى فيه سطوع شمسه، وتساقط مطره على الجانبين، فلا يحابي واحدا دون آخر.

و طال الأمد بلجان التحكيم في بحثها عن مكان مناسب موافق للشروط التي اتُفق عليها، حتى اهتدت إليه أخيرا، فعرضته على الطرفين معلنة:

 إنه مكان يحل أصل المشكلة، يتساوى فيه سطوع شمسه و تساقط مطره، في مكان واحد، فلا مشاريق ولا مغاريب بعد اليوم.

 قبلنا به مسكنا لكلينا.

 لكنه موغل في بعده جهة الشرق، و بعيد عن مدينتكم.

 وليكن ، ما دام لا مزية فيه لأحد منا على الآخر.

وارتحل المغاريب والمشاريق إلى المكان النائي الموغل شرقا، واستقروا فيه حينا، فإذا شمسه لاهبة تلفح وجوههم طيلة النهار، و كل أيام السنة، وليست مقتصرة على سويعات الصباح و بعد العصر، و في أيام الصيف وحدها، والتي طالما اشتكى المغاريب منها.

وانتظروا حلول الشتاء، فإذا المكان لا مطر فيه على الإطلاق، وليس فيه من الشتاء سوى رياح السموم، و لسع البرد الذي يجمد الأبدان.

وضجَّ المغاريب والمشاريق معًا بالصراخ:

- و كيف نواصل العيش هنا، بلا حرث ولا زرع؟ بلا ماء ولا مطر؟ بلا مدينة ولا أسواق؟

 نريحكم من ذلك كله، تعيشون على الهبات و المساعدات التي تقدم لكم، ولا نكلفكم من الأمر شيئًا.

و ضجَّ القوم جميعا بالصراخ والهتاف:

 بل نعود من حيث أتينا، نعود لمواطننا الأصلية، ولا نرضى عنها بديلا.

 وإلى أين تعودون؟

ضجَّ المغاريب الأصليون:

 إلى مغاريبنا و حيث عاش آباؤنا و أجدادنا.

و ضجَّ المشاريق الأصليون:

 بل تعودون إلى المكان الذي أجليتمونا عنه بالقوة، إلى المشاريق، و نعود نحن إلى المكان الذي ألجأتمونا إليه، و هو مغاريبكم.

و ظل الصراخ يتعالى، ويملأ المكان:

 إلى المغاريب.

 بل إلى المشاريق.

 إلى المغاريب.

 إلى المشاريق.

و ما زال الطرفان يتصارخان، وأصواتهم تتصاعد إلى عنان السماء حتى يومنا هذا.

* المغاريب: الأماكن التي تقع إلى الغرب من المدينة، و تطلق على الأرض و السكان معا.

* المشاريق: الأماكن التي تقع إلى الشرق من المدينة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى