الأحد ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم سعيد العلمي

عُـزرائـيـل

فتح عبد الستار عينيه في ظلمة الليل فوجد عـزرائيل أمامه. لا يدري كـيف عرفه، ولكنه عرفه فور أن رآه. وارتعشت فرائصه تحت الغطاء واصطكت أسنانه هلعا وهو ينظر إلى ملك الموت وجها لوجه. حاول أن يوقظ زوجته النائمة على يمينه فلم يملك حراكا. كان عزرائيل محلقا فوقه تماما. نعم. كان معلقا في الهواء في سكون عجيب.

ومرت لحظات مريرة كاد الرجل فيها أن يفقد صوابه من شدة الهلع. لم يكن هلعه لمجرد أن عزرائيل هو المعلق فوقه في الهواء... بل أيضا لهول المفاجأة التي ما خطرت له ببال قط... فحتى لو كان المعلق فوقه هو أخوه ابن أمه وأبيه لكانت مفاجأته مرعبة بحد ذاتها، فما بالك والشاخص ببصره إليه هو عـزرائيل، وما أدراك ما عزرائيل !!. كان الملك فوقه على ارتفاع لا يتجاوز النصف متر، ومحياه المنير قبالة وجهه تماما. ولكن عبد الستار بدأ يشعر بعد هذه اللحظات الأولى من المفاجأة بسكينة جديدة تستقر في قلبه وتلف روحه... سكينة لم يعهدها أبدا في حياته. واستغرب الرجل أشد استغراب وتساءل في قرارة نفسه عن مصدر تلك السكينة التامة والرائعة التي ما كان ليصدق أن لها وجود لولا أنه شعر بها وهي تذيب فيه كل هاجس. وسرعان ما أدرك مصدرها وهو يثبت نظره، دون إرادته، في عيني عزرائيل اللتين كانتا تشعان محبة وسلاما كأنهما عيني الأمومة بعـيـنها... الأمومة التي تتفرع عنها كل أمومة. ياله من شعور فريد. مبارك أي حدث وسط هذا الحـبور... مبارك الموت إذا كانت هذه مقدماته. وارتجف عبد الستار من جديد إذ ذكر الموت، وعينا الملك مازالتا مثـبتـتان في عـيـنيه. كان لا يقـوى على حـراك أو نطـق.

ولكنه نطق. وجد نفسه يقول وجلا مترددا:

 من أنت ؟

وفكر للتو أنه سؤال سخيف.

وجاءه صوت كأنما صدر من أعـماقه هو، ولم يحرك عـزرائيل شـفـتيه اللتين ظلتا مطبقتين وعليهما ابتسامة ولا أروع:

 أنت.

ولم يفهم عبد الستار، وظن أنه لم يسمع جيدا، فسأل متلعـثما:

 ماذا ؟.

 قلت أنت

يا للجنون. كيف يقول أنه أنا وأنا أعرف يقينا أنه هو.

وأراد أن يغمض عينيه عله يغط بالنوم من جديد. لابد وأنه كابوس... لابد وأنه حلم. ولكن عيناه ظلتا مفتوحتان يقظتان تعانقان عيني الملك المحلق فوق رأسه، أو هكذا بدا له.

وعاد يلوك سؤاله وكأن لسانه مصاب بشلل:

 تقول أنك أنا ؟.

وصمت لحظة فلم يتلق جوابا، فاستأنف يقول:

 لم لا تقول أنك عزرائيل ؟ إنني رجل مؤمن.

وجاءه الرد نابعا من أعماقه مرة أخرى ووجه الملاك لا يكدر نوره وسط الظلام المحيط بالسرير:

 أقول لك للمرة الثالثة أنني أنت، وأنت تعلم سبب زيارتي هذه. إنني لا أزور البشر في هذا الكوكب إلا مرة واحدة في حياتهم.

 أحان أجلي ؟

 بلى.

وشعر الرجل أن دموعه تسيل حتى أذنيه وأراد أن يمسحها فلم تستجب له يداه. وتقلبت زوجته في نومها حتى أعطته ظهرها وهو يتمنى لو انها تفيق من سباتها لتمد له يد العون. ولكن أي عون يرتجى منها في موقف الختام هذا. كان يتمنى لو أن أحدا ينقذه من عزرائيل ولكنه كان في الوقت نفسه يشعر بوئام تجاه الملاك يكاد يكون التحاما.

وجاءه الصوت من جديد والوجه المنير قابع فوق عينيه، دون أن تتحرك شفتاه:

 ايبكيك فراق الدنيا ؟ أم يبكيك فراق نفسك ؟.

 بل فراق أحبتي وكل ما الفته طيلة سنوات حياتي. نفس الشعور الذي اعتراني عندما انتقلت من بيت إلى بيت جديد ومن مدينة إلى مدينة أخرى أجهلها.

 هي كذلك. رحلة من عالم الى عالم. فلا تخف.

 لست بخائف إنني رجل مؤمن بالله. كل الناس تموت... وكل الحيوان... كل روح تموت... منذ ملايين السنين والبشر تموت حتى ليبدو أن الموت هو أسهل فعل يقوم به الإنسان. حتى الجبناء يموتون.

ياله من حوار عجيب هذا الذي يدور بينه وبين ملك الموت... كما لو كان يعرفه منذ دهر.

وتذكر أولاده وأحفاده، وتذكر إخوته الواحد تلو الآخر. لم يخطر له ببال يوما أنه سيكون أول الأشقاء بالانتقال إلى جوار ربه وهو ليس أكبرهم سنا. وتذكر تجارته الواسعة وبيته الفسيح وجاهه وماله ورغد العيش الذي اعتاده منذ نعومة أظفاره، فلم يملك سوى أن أجهش باكيا. إن فكرة الموت لا ترهبه ولكنه فراق أهله وصحبه وحياته الرغيدة تمزق أحشاءه. هو يعلم أنه لا مرد للموت... إن لم يحن اليوم، فغدا. وهو يفكر بالموت منذ سنوات، وبإلحاح منذ أن تجاوز السبعين من العمر... كل دقيقة بعد السبعين هي محض هدية... كل يوم عاشه بعد السبعين سرقه من الزمان خلسه. ولكن ! ماله يشعر بتشبث شديد بالحياة !؟.

وجاءه الصوت من جديد صادرا من أعماقه هو:

 تتشبث بالحياة الدنيا ككل إنسان تحين ساعته. إني أرى هذا منذ بدء الخليقه، ذلك أنكم تجهلون ما بعد الحياة.

ووجد نفسه يسارع بالقول متلهفا وناظرا إلى عيني الملاك بوله وشوق:

 حبذا لو أودع الأهل والأحبة، وأرتب شؤون أولادي وبناتي وزوجي قبل رحيلي.

 ولم لم تفعل ذلك من قبل ؟ كنت تعلم علم اليقين أنني زائرك لا محاله وأن موعدنا أصبح وشيكا.

 لا أدري.

 أنت مثل كثيرين غيرك... تظن أن هذه هي المسألة الوحيدة المعلقة التي ستخلفها بعدك.

كان الصوت يأتيه مفعما بمحبة لاتضاهيها محبة. ولم يفهم عبد الستار كلامه الأخير، فسأله وجلا:

 ماذا تقصد ؟.

 شؤون ولدك وزوجك هي التي تقلقك إذ حان وقت الرحيل. أما شؤون أخرى كثيرة تخصك الآن أكثر من هذه فلم تخطر ببالك في هذه اللحظة الختامية.

وأثارت هذه الكلمات القلق في نفس الرجل وسط السكينة التي كانت تلفه من حيث لا يدري، فردد بلسان شعر به ثقيلا يكاد لا يتحرك:

 ماذا تقصد ؟ إنني لا أفهم.

 نفس الموقف يتردد كلما زرت إنسانا اجتمعت له ظروف سنك وأولادك وجاهك وما تسميه أنت بالإيمان.

كان الصوت لا يشوبه تأنيب أو تعنيف، وكانت الكلمات تقع على سمع عبد الستار ببطء وتأن، حتى كأنه كان يراد لها الوقت الكافي للإستقرار في القلب كلمة تلو كلمة.

وعاد الرجل يسأل، وقد غشته عشرات الذكريات مرة واحدة، كلها واضحة كأنما كان يراها لحظة وقوعها:

 ماذا تقصد، بالله عليك ؟.

 عزرائيل لا يحاسب أحدا بل يقبض ويمضي، أما الحساب فلصاحبه عز وجل.

 ولكنني كنت رجلا صالحا دوما...

وأصابه الشك لوهلة فتوقف ثم استطرد يقول:

 باستثناء بعض الزلات وبعض الأخطاء.

 لا حاجة بك للانتظار كي ترتب شؤون بيتك، فهناك شؤون كثيرة أخرى كان عليك أن ترتبها قبل هذه الساعة. ولم تفعل. فما فائدة أن ترتب شؤونا أخرى لم تعد تعنيك ؟.

وشعر عبد الستار بالرعب يتسلل إلى قلبه من جديد، وأحس بالهلع مقبل عليه من كل صوب، فتشبث بعيني عزرائيل مستلهما المزيد من السكينة والطمأنينة، وسأله بلسانه الثقيل:

 شؤون كثيرة بلا ترتيب ؟. بالله عليك ماذا تقصد ؟. لقد قضيت معظم حياتي في أداء الصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحججت إلى بيت الله المرة تلو المرة وإن إيماني بالله عميق والناس كلها تتحدث عن مناقبي وشيمي. كنت واثقا من رضا الله عني ومن أن الجنة مآلي.

 إلى الجنة أو إلى غيرها هو أمر لا يعنيني يا إنسان. إنما أردت لك أن تتذكر , ولو فعلت لندمت وطلبت الغفران من الرحمن الرحيم ولربما يغفر لك في آخر لحظة من حياتك فتصبح أكثر قربا من الجنة.

 ولكن ؟!!

 ليست الجنة بمجرد الصلاة والصوم والزكاة والحج. لو كانت كذلك لكانت في متناول كل إنسان، ولما كانت جنة.

ووجد عبد الستار نفسه بغته يفهم أمورا كثيرة، وكأنما أزيح أمام عينيه ستار انكشف خلفه الكون على صورته الحقيقية التي لا تشبه كثيرا تلك التي اعتادها عموم البشر في مجتمعه. وسالت دموعه وهو في خضم استرحام واستلهام عميقين. وظل ينظر للملاك المحلق فوقه منيرا، إلى أن تمتم قائلا:

 أوضاعت حياتي سدى ؟.

 الله يغفر لمن يشاء من عباده.

ومرت في ذهن الرجل حكايات عمر بكامله، خمسة وسبعون عاما. وتجسد في خياله فجأة وجه أبيه فوجه أمه. وتذكر كل ما كان منه تجاههما من جحود حتى توفيا الواحد تلو الآخر وهو بعد في الثلاثينات من العمر. وشعر بانفجار يكاد يدوي في حلقه من شدة المرارة. وتراءت له وجوه أناس آخرين من أهله ظلمهم منذ سنين طويلة وغيبت القبور أو السنون وجوه بعضهم بينما ما زال البعض الآخر منهم يكن له الضغينة. وندت عنه محاولة صرخة كأنه يناديهم... إنه لم يعبأ بهم منذ سنوات طويلة.

وجاءه الصوت والملاك لم تتحرك شفتاه قط ولم تزل عنهما الإبتسامة العطوف:

 ها قد بدأت تتذكر ودموعك كأنها تغسل نفسك وتطهرها... تابع... لا تتوقف.

 ولكنني إنسان مستقيم، لم ارتكب فاحشة...

ولكنه توقف ثم ردد بلسان الصدق الذي اكتسبه مذ تبدى له ملك الموت:

 أقصد أنني لم ارتكب فاحشة منذ سنوات كثيرة. كنت على يقين من أن صلواتي وصيامي وحجي وزكاتي تعيدني طاهرا كيوم ولدت.

 الله يغفر لمن يشاء. جاهك الدنيوي كبير ومالك كثير، أي تضحية كانت بالنسبة لك أن تخرج الزكاة أو أن تحج إلى البيت الحرام ؟. ملايين لا حصر لها من البشر لم يحجوا... أيعني ذلك أن مصيرهم جميعا جهنم ؟.

 الحق انها ما كانت من تضحيات تذكر، والحق أنني كنت أتباهى أمام الناس كلما عدت من مكة المكرمة. الحق أنها كانت حجات لإرضاء ذاتي بقدر ما كانت لوجه الله تعالى

 هناك من البشر من يحجون ولا يسمع أحد بحجهم إلا صدفة، وهناك متصدقون لا يعلم أحد بصدقاتهم ومصلون لا يتحدثون عن صلاتهم. العبادة من أجل المعبود ومن أجل نصرة الخير هي وحدها العبادة.

 أما أنا فكنت دائم الحديث عن صلاتي وصومي وزكاتي. يا للعار.

وحضره فجأة محيا صديق له طمرت ذكراه السنوات. وتذكر كل الأذى الذي أنزله به عامدا متعمدا لمجرد أن ذلك الصديق وبخه ذات يوم، قبل سنوات تتجاوز الأربعين، وفي جلسة لم تضم سواهما، لتقاعسه عن العمل الوطني ولعدم اكتراثه بما حل بالوطن من ويلات على يد المحتل. وانهمرت دموع عبد الستار من جديد وهو يردد كأنما يحدث نفسه:

 كان بمثابة أخ بالنسبة لي. لمَ ألحقت به كل ذلك الأذى ؟!. ترى ماهي أخباره اليوم ؟ أحيّ هو أم ميت ؟. كان وطنيا ملتحما بالشعب كأنه ضميره الواعي... وطني وشعبي الذين ما التفت إليهما يوما رغم كل مانزل بهما من ظلم ومهانة وتنكيل على مرآى مني، يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة.

وأخذ عبد الستار يصيح بفؤاد موجوع في خضم صحوة الضمير التي كانت تجتاحه:

 يا للعار... يا للعار. ما الذي فعلته كل هذه السنين !!.

وجاءه الصوت يحثه على سبر المزيد من أغوار الذاكرة:

 ما أصدق هذه الدموع. لعل فيها المنفذ.

وتعاقبت في مخيلة الرجل صور رجال ونساء وأطفال. وحكايات عمر طويل بأكمله، فبكى حتى ظن أن وسادته قد تخضبت بالدموع. حتى أصغر الأمور تذكرها... وإذا به يرى طوابيرا من الناس تمر من أمامه... وتأمل وجوههم وشاهد عيونهم تحملق به. عرفهم جميعا رغم أن بعضهم لم يلتقه إلا للحظة وربما لم يتبادل معه سوى كلمة أو إثنتين... كانوا جميعا أناسا نهرهم لسبب أو لآخر أو ردهم مخذولين إذ لجأوا إليه يطلبون العون... كم من البشر نهرت وخذلت منذ مطلع شبابي !! يا إلهي ما أكثرهم، ويا لنظره الاشمئزاز هذه التي يرموني بها.

وما أن توارى الطابور الأول عن نظره حتى مرت أمامه طوابير جديدة من رجال ألحق بهم الضرر في معترك حياته التجارية فتسبب لهذا بخسائر ولذاك بالإفلاس ولثالث بسوء السمعة، وهلم جرا... وكان كل منهم يجر وراءه في الطابور زوجه وعياله. وهاله المنظر وروعه. لكن سرعان ما تبدى له طابور آخر، يتألف من رجال وظفهم في تجارته ثم طردهم لسبب أو لآخر... وكل تتبعه زوجته وأطفاله. ومرت أمامه جماعات أخرى من الناس، رجال ونساء، ممن اشتروا منه سلعا وتضرروا منها بشكل أو بآخر، وجماعات دفع افرادها له أثمانا باهظة لقاء مشتريات جنى فيها أرباحا لايقرها دين ولا خلق، وجماعات من أشخاص عرفهم في سني حياته، منذ صباه، فاستغابهم ونهش أعراضهم وطعن بهم في سياق ثرثرات طالما ملأ بها أوقات فراغه. وما هي إلا ومر به طابور جديد، كله من النساء ممن نال وطره منهن أو أقام معهن علاقة محدودة أو طاردهن أو اشتهاهن أو رمقهن بنظرات سرية أودعها النزق من شبقه. تعرف على كل الوجوه في كل الطوابير والجماعات، ورماه كل رجالها ونسائها وأطفالها بنظرات الازدراء والإشفاق واللوم والحنق. لم يكن يوما ليتصور أنه قادر على تذكر كل تلك الوجوه وتذكر المواقف التي عرفها فيها. وهاله هذا العدد من الناس الناقمين عليه... ما خطر بباله قط أن جوهر حياته كان على هذه الدرجة من الإختلاف عن رأيه بنفسه وعن رأي كثير من الناس به. كان يعتقد أن ماضيه قد أصبح في عداد العدم بعد كل صلواته وصومه وزكاته وحجه الذين ملأ بهم العقدين الآخرين من حياته... صحيح أنه يواظب على الصلاة والصوم منذ نعومة أظفاره، إلا أنها كانت حقبة مترعة بالحياة والمزالق تلك التي امتدت حتى ما بعد الخمسين من عمره.

لم تكن دموعه قد انقطعت لحظة، ولكنه كان يبكي بصمت واستسلام وقد تشبث طيلة الوقت بعيني ملاك الموت يستمد منهما الثبات ورباطة الجأش، بينما كان الملاك يحتضنه بنظرة الرأفة.

وما لبث الشيخ أن فغر فاه دهشة إذ رآى أمام عينيه عدد لا يحصى من الوجوه ذات السمات الواحدة التي لا إختلاف بينها. ولم يفهم. كانت الوجوه تنظر إليه غاضبة مكشرة، حتى اقشعر بدنه لرؤياها، فسأل وقد بدأ عقله يزوغ:

 من هؤلاء ؟.

فجاءه الصوت رخيما مواسيا:

 إنها ساعات من حياتك.

 ساعات من حياتي ؟.

 إنها ناقمة عليك لأنك أهدرتها بلا فائدة لك ولا لغيرك.

 ماذا ؟ هل ضيعت أنا كل هذه الساعات من عمري !!.

 نعم... كل هذه... آلاف من الساعات مهدورة في أمور تافهة وأحاديث فارغة، بل وبانزال الضرر بالغير من حيث كنت تعلم أو لا تعلم، أو بارتكاب المعاصي.

 ألهذه الدرجة ؟!.

 ما الحياة إلا ساعات معدودة يا إنسان، محسوبة عليك جميعها، وتسأل عنها واحدة واحدة. إنك تناشدني الآن مهلة قصيرة لترتيب شؤون بيتك قبل الرحيل وتنسى أنك أهدرت كل الساعات التي تشاهدها أمام عينيك.

كان لا يحيد ببصره عن طلعة عزرائيل البهية وكان يرى كل الوجوه وكل الذكريات دون حاجة لأن يحول نظره عن المحيا الماثل فوقه بنوره الأخاذ.

وما هي إلا ولاحت له آلاف أخرى من الوجوه... كلها ذات قسمات واحدة... كلها بدت معنفة له وحاقدة عليه. وروعه المنظر أكثر مما سبق. وكان قد ظن لوهلة أن الطوابير انتهت وأن ذنوبه انتهت معها فإذ بها تظهر له من جديد حتى بدت نهرا دفاقا لا نهاية له فتمنى الموت للتو واللحظة إذ لم يعد يطيق كل هذه الذكريات والشواهد. فمن هم الآن أعضاء هذا الجمع الغفير من الوجوه !... ما الذي تبقى بعد الساعات المهدورة والأيام الضائعة من العمر !؟. وسأل مبتهلا بلسان ثقيل:

 ما هذه الوجوه وما بها ناقمة علي ؟.

 كل وجه منها يا ابن آدم هو قرش صرفته في غير فائدة لك ولا لأهلك ولا لقومك ولا لأي فقير على وجه الأرض.

 يا للهول !! أكل هذه أموال ضيعتها أنا !؟. أكل هذه الوجوه أيضا ستكون شهودا عليّ تقف حائلا بيني وبين الجنة ؟!.

ولم يأته من جواب، بل أن وجوها جديدة لا عد لها ظهرت أمام عينيه بغتة، فأسقط في يده إذ رآها كلها ترمقه بعيون محمرة غاضبة، فأجهش باكيا وهو يصيح:

 كفى. كفى. أتوسل إليك. إقبض روحي وابعد عني هذه الوجوه.

وجاءه الصوت الرخيم يحدثه وعينا عزرائيل تحتضنه إحتضانا:

 هذه أيضا قروش، لكنها تلك التي حصلت عليها بدون حق في تجارتك وطيلة حياتك.

 أنا ؟ كيف ؟.

 طبعا أنت، كان همك الوحيد الربح فلم ترحم أحدا جاءك مشتريا، مهما كان فقيرا.

 يا إلهي !.

لكن معاناة عبد الستار لم تنته عند هذا الحد، ولولا عيني الملاك ونوره الذي لم يكن يكف عن بث السكينة في قلبه لجن جنونه. فقد احتشدت أمام ناظريه من جديد وجوه أخرى لاحصر لها، كلها بيضاء لا ملامح لها، وكانت جميعها تبث في نفسه، من حيث لا يدري، ندما وحسرة. ونظر إليها بعينين زائغتين وبقلب قانط... ما أبعد الجنة عنه... إنه يشعر أن بينه وبينها أكوان. وجاءه الصوت نابعا من أعماقه هو:

 هذه هي الأعمال الخيرة التي أتيح لك أن تنجزها وكان عملها في متناول يدك ولكنك أحجمت عنها، وتلك التي كان من واجبك أن تفعلها ولكنك تقاعست، وأخرى ناشدك ضميرك أن تقوم بها ولم تستجب له، طيلة حياتك.

وذهل الرجل أيما ذهول، وأدرك أن ذلك العدد الهائل من الأعمال الخيرة كان لها ان تكفل له الجنة دون أدنى شك، وسال دمعه سخينا والحسرة تأكل قلبه، وعيناه معلقتان بمحيا عزرائيل، يسترحمه ويستلهمه، وهو يشعر أن روحه بلغت الحلقوم.

وإذ بالصوت يحدثه والوجه المنير مطبق الشفتين على ابتسامة خير:

 هناك المزيد. أتريد مشاهدته ؟.

 أذكره دون أن أراه. لقد فهمت مرادك. ما أبعد حالي الآن عما كنت عليه قبل مجيئك. كنت أحسب بحساب البشر.

 بل نبهتم يا إنسان إلى أنه حساب لا حساب يضاهيه. كل لقمة وكل جرعة تناولتها في حياتك وهي فوق حاجتك وأنت على علم بأن في العالم فقراء، بل وعلى مقربة منك، ممن هم بأمس الحاجة إليها. كل كلمة نطقت بها بغير الحق... وكل كلمة حق لم تنطق بها في ساعتها... شاهدة عليك.

وأخذ عبد الستار يئن ويردد، وقد خارت قواه:

 غير معقول !... يا للهول !... ما فائدة المزيد من العيش وتعويض كل هذا يتطلب عمرا جديدا بأكمله. خلصني... أتوسل اليك.

وحاول عبد الستار يائسا أن يحرك يديه فلم تستجيبا له، وشعر بنفسه على شفا هاوية سحيقة مظلمة، وعاد إلى حالته الأولى من الهلع وقد فارقته السكينة، فصاح مسترحما من جديد:

 ما الفائدة ؟. خلصني من هذا العذاب. لم ضيعت معي كل هذا الوقت... ما الفائدة ؟.

وجاءه الرد باعثا فيه سكينة جديدة:

 لم يلبث عزرائيل معك من الزمان سوى طرفة عين. لقد كنت صاحب سريرة فيها من الخلو أكثر مما فيها من القصد، ومن الخير أكثر من الشر.

ولم يفهم عبد الستار الكلمات الأولى ولكنه ارتاح لسماع الكلمات الأخيرة وشعر أنه يبعث من جديد.

تسللت الشمس عبر النافذة... وأخذت تغمر الغرفة بنور واه مصفر اللون. وفتح الإنسان الجديد عينيه بصعوبة فوجد فوقه عيون ترصده باهتمام شديد، وأصوات نسائية تجلجل في أرجاء المكان وأحدها يقول بصوت ملؤه الحنان:

 يا له من وليد رائع، لقد فتح عينيه، إنه ينظر إلينا وكأنه يعي ما حوله.

انتهى


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى