السبت ٢٧ آب (أغسطس) ٢٠١١
بقلم عبد الجبار الحمدي

اليانصيب........

حمل لعبته القديمة بين يديه، والتي ما أن اقترب من رائحة دخان الأكل الخارج من المطعم، حتى صاح لا إراديا، لعبة قديمة بلقمة لسد فاقة وجوع، هل من يشتري؟؟ كان بائع بطاقات اليانصيب الجالس بجانب المطعم، قد نضب حظه في ذلك اليوم أيضا، فلم يبع أي بطاقة، لكنه وبعد مشاهدته للصبي، حمل نفسه على مساعدته، فقال له: تعال يا بني.. خذ هذه البطاقة وبعها بدل لعبتك تلك، اعتقد أنهم سيعطونك بدلها لقمة لسد جوعك، التفت إليه الصبي بعد أن شده الفضول إلى تلك الوحمة التي كانت تغطي حاجبه الأيمن فقال: شكرا لك يا عم، لكن عليك بالمقابل أن تأخذ لعبتي بدلا عنها، فأنا لا أستجدي، لم يرد أن يكسر نفس الصبي وشعوره بعزة نفسه، فأجابه: حسنا أني موافق، فقام بدفع بورقة اليانصيب إليه، ومن ثم دخل الصبي إلى المطعم، غاب لوهلة، ثم خرج وبيده شاطر ومشطور، ودون تردد تقاسمها رأسا مع بائع اليانصيب بعد تصميم منه، استغرب الرجل لتصرف هذا الصبي، الذي سار مبتعدا عن المكان، إلا عن عين بائع اليانصيب، لم يكن يدري!! لما هذا الإحساس الغريب، الشفقة والشعور بالحنان والحب لهذا الصبي، فقد شعر بعد الحديث معه للحظات، انه قريب منه، فقال في نفسه: يا إلهي هل تراني جننت؟ لم أجرب أبدا هذا الانفعال منذ زمن بعيد، إني أحس بلهفة إلى رؤية وجه الصبي والحديث معه، مع العلم انه كان بقربي منذ وهلة، لا أدري ما الذي دهاني!! حتى تركته يرحل بعيدا، دون معرفة اسمه أو مع من يسكن؟ ترى هل لديه أهل؟ يا الله بالتأكيد إني جننت، فمنذ زمن بعيد جدا وأنا اقطن هذه البقعة، حتى أنها ضجرت مللا من كثرة جلوسي، إن ابتعادي عنها لا يتعدى أكثر من قضاء حاجتي، فباتت البقعة سكني الأزلي، لا.. ولن أنسى حينما جئت ولأول مرة إلى هذا المكان، منذ ثلاثة عشر عاما.. يا الله!! إنها أيام كثيرة، وساعات مؤلفة، لم انس فضل صاحب المطعم، حين أكرمني بعدما سمع بقصتي التي رويتها له، رأف بحالي وأعطاني هذه البقعة مع قليل من المال، لشراء بطاقات اليانصيب من الوكيل لبيعها والعيش من واردها، كانت أيامي غريبة، فكثيرا ما أتَلَفت حين أرى وجها مألوف لي، أو وجه احد من أهلي أو أقاربي بعد تلك الحادثة المشئومة، والتي هربت بسببها، في بلاد الله الواسعة، لا شك أنهم يقولون إنني مت بعد تلك الأعوام الطويلة، لم يفق إلا حين وقف أحدهم على رأسه وهو يقول له: هل لك أن تعطيني بطاقة رابحة، ومن ثم ضحك من قوله فاستطرد .. هيه أتراني مخبول ..حين أصدق أن حظي سيكون بانتظاري ليأخذ بيدي، ويرفعني لأكون من أصحاب الملايين، رفع رأسه باتجاهه وعلق قائلا: لم لا.. لا شيء بعيد عن قدرة الله،
رد عليه الرجل.. هكذا تعتقد ..؟

نعم يا ولدي فلكل قدر ونصيب، إما يخطئ أو يصيب، هكذا هو ورق اليانصيب، يصرف نفسه لم يؤمن أن الحياة بقدر، وان الإنسان خلق لكي يكون سبب في تغيير مصير إنسان ما على وجه الأرض، هكذا هي الأيام نواعير أقدار، تسقي من تريد، ساعة تشاء، اخذ الرجل ورقة اليانصيب وذهب مبتسما، أما بائع اليانصيب فقد بقي يحتضن صورة الصبي في مخيلته، ذاك الذي ذهب بعيدا دون رجعة، ستر الليل عورة الكثير من البشر، خاصة الذين توسدوا الطرقات، نام على جنبه الأيسر كعادته، وما أن تنملت ذراعه، حتى قلب نفسه على الجانب الأيمن، ما هي إلا لحظة حين سمع صوت يوقظه، هيه يا عم!! هل لك أن تعطيني لعبتي وتأخذ هذا المال مقابلا لها؟؟ لم يصدق ما سمع، إن الصوت صوت رجل، وليس لطفل، أفاق من نومه وهو يتطلع إلى ملامح مُحدثه، فرك عينيه بقوة وقال: ماذا تريد يا سيدي؟ أني أبيع بطاقات اليانصيب وليس اللعب، تبسم الشاب له وأجابه: نعم اعلم ذلك ولكني وددت أن استرد لعبتي، تلك التي بعتها لك منذ سنين عديدة، بعد أن أعطيتني بطاقة اليانصيب بدلا عنها لأبيعها، لأحصل على بعض من الطعام، لا زلت اذكر ذلك اليوم، فحين دخلت لأبيعها وأحصل بقيمتها علة شطيرة أسد بها جوعي، رأف بي احدهم ونفحني المال دون أن يشتري البطاقة مني، وقال لي بالحرف.. خذها لك لعلها ستكون بطاقة السعد عليك، وكانت كذلك فقد ربحت البطاقة وأصبحت من المترفين، ووجدت أهلي بعد أن فقدت والدي في هذه المدينة، التي أخذت جدي قبله، لذا حرصت أن أكون إنسانا منتجا وناجحا ونافعا، وبالأخص لعائلتي التي عدت إليها، فدخلت في مجال العمل وتعلمت البيع والشراء.. وهكذا أقبلت الأيام تحمل السعادة ورودا لتنثرها فى طريقي، وتعلمت ما استطعت في فترة عمري، لقد مد الله الرزق لي، وصرت من أصحاب الشركات الآن، كثيرا ما خطرت أنت على بالي، لكن ظروف الحياة ألهتني، إلا أن إحساسا يداهمني ويراودني دوما، فأتذكرك وأتذكر موقفك معي، وفي مرة كنت فيها أفكر فيك وحدثت عمي عنك، وعن طيبك وعطفك، كم كنت محظوظا حين التقيتك، فجأة شهق عمي مستغربا!! نهض ممسكا بي بقوة وهو يقول: هيا قم بسرعة، خذني إلى مكان هذا الرجل، كنت حينها متفاجأُ من تصرفه، بعدها عملت تهدئته وسماع ما قاله لي، أدركت سبب تصرفه ذاك، فأسرعت معه إليك، كان ذلك لحظة استيقاظ بائع اليانصيب من نومه، وقد غزا الشيب وجهه وعمره، فقال: يا الله لا أصدق!!! أنت ذلك الفتى، كم تغيرت! وكم كبرت!! نعم يا جدي لقد كان ذلك بفضل الله وفضلك، هيا الآن فقد حان الوقت لتأتي معي وتعيش تحت سقف بيتك ، فالجميع بانتظارك وبلهفة، خاصة هذا الرجل، ألا تعرفه؟؟ حاول النظر إليه، ولكن.. غشاوة الفراق قد أسدلت بسبب العمر، لم يشعر إلا ورجل يرتمي عليه صائحا، أبي... الحمد لله أني وجدتك حيا، أبي ألا تعرفني إني أنا ولدك عامر، قبضت الصدمة كل حواس رجل اليانصيب بقيود من ثلج، امسك بوجه الرجل تفرس فيه انه هو ولده عامر، ذاك الذي افترضه ميتا بسبب ضربه له بالهراوة على رأسه، ولظنه قتله، خرج هربا من الفاجعة، والشعور بالذنب، أما ولده الأكبر، والذي خرج للبحث عنه في العديد من المناطق، قد سرقه الموت تاركا ولده الذي رافقه في تلك المرة، وحيدا في شوارع كبيرة، وكانت تلك الصدفة العجيبة، التي التقى برجل اليانصيب ليلعب القدر لعبته فيكون جده، هو سبب سعده وتغير أحواله في دنيا الله الكبيرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى