الأربعاء ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم تامر عبد الحميد أنيس

رسالة من عالم الحقيقة

قاعة المحاضرات تغص بالطلاب، رائحة الشتاء تنشر عبق الحياة في النفوس مع احتجاب شمس الظهيرة خلف الغيوم. همهمات الطلاب لا تتوقف؛ تعلو حتى تتداخل مع ذرات الأثير، تقطعها ضحكات ترسم روح الشباب.

ودخل الدكتور، فبدأت الأصوات تخفت، وتصمت.

أستاذ الأدب الحديث حدد الموضوع، وأخذ يخوض في كتابه الضخم قراءة وشرحًا .. الصراع الأدبي تسري حرارته .. قوة غريبة تدفع قوى الطبيعة.

ويأتي سيل الأوراق؛ تساؤلات، وتعليقات، وأشياء أخرى. تعبث يد الدكتور ببعض الأوراق وهو يتابع الحديث، يبدأ في فتح بعضها، يجيب عن بعضٍ وينحي بعضًا آخر، وأحيانًا دون تعليق: الكتاب صعب .. نخشى الامتحان .. المقرر طويل، ويفتح ورقة تبدو أنيقة ويقرؤها: «أنا طالب متفوق حاصل على الترتيب الأول، قرأت كتابكم عشر مرات إلى الآن، أعجبت بملكة البحث العالية فيه، واندفعت بطاقتها إلى بحث عن ...».

وغُمَّ عليَّ الكلام، فلم أستطع أن أتبين شيئًا منه أكثر من هذا، بعد أنْ صدمتني كلماته الأولى، فارتفعت يدي، ولم أنتظر الإذن فقمت معترضًا أقول:

  أنا لم أكتب هذه الورقة .. أعني .. أنني الأول .. لكني لم أكتبها!!!

التفت الدكتور، ونظر إليَّ من خلف منظاره الطبي، حاولت تفسير نظراته، ولكنني لم أنجح، وتداخلت المعاني: دهشة، استنكار، شك، وربما احتقار. التقطتُ كلمةً منه بعناء:

  منْ أنت؟

  أنا الأوَّل.

  ومنْ أرسل هذه الورقة إذن؟

تعالت الهمهمات، لا شيءَ مفهوم، لا أعرف ماذا أفعل؟! من أرسلها؟!!

وجاء صوتٌ من الخلف مرتفع وعميق، كنت أسمعه بوضوح دون سائر الأصوات، وكان يقول:

  بل أنا الأول، وأنا الذي أرسلتُ هذه الورقة.

التفتُّ ورائي، كانت الهمهمات تعلو، ودقات قلبي تسرع إثرَ صدمةٍ أخرى. كان أيُّ شيءٍ متوقعًا في اعتقادي؛ أن يكون الأمر مجرد دعابة سخيفة من أحدهم تنتهي بإعلاني عن ذاتي، أن يدعيَ زميلٌ هذه الصفةَ متزلفًا بما قرأ وفعل فإذا ما برز انكشفت للجميع الحقيقة. لكن ما حدث لم يكن هذا ولا ذاك، فقد رأيت شخصًا شبيهًا بي تمامَ الشبهِ لا يكاد ينماز عنِّي بشيءٍ سوى أنَّه يرتدي سترتي السوداء التي تركتها في المنزل اليوم واستبدلت بها معطفًا جديدًا لم أرتده من قبل.

أنعمت النظر في قسماته، وأنا أحاول أن أتذكر جيدًا آخر مرة نظرت فيها إلى المرآة، فشعرت بأنَّ ذاكرتي قد حُجِبَتْ وراء غلالة إنْ لم تكن قد سُلِبَتْ. نظرت من النافذة إلى السماء بحركة هادئة، كانت تنطق بأنَّ النهار موجود، ولكنَّ الشمس لم تكن بادية. وعدت سريعًا ببصري إلى هذا الذي ظهر، لمحته يرمقني بنظراتٍ متعالية هازئة، فدبَّ الحنقُ عليه في نفسي.

والتفتُّ إلى الدكتور فوجدته يتفرس فيَّ وفيه، ويبدو أن الدهشة تملَّكته للحظات، لكنْ سرعان ما قال بلهجة حاسمة انخفضت لها همهمات الطلاب:

  الأمر يسير، هذان توأمان يريدان أن يضيِّعا وقت المحاضرة بهذه المسرحية السخيفة.

استجمعتُ ما وجدته في عقلي من طاقة وقلت:

  أرجوك يا أستاذي !! أنا لم أره من قبل.

وحدجته بنظرة سريعة ألقت في نفسي الشكَّ فيما ألفظ به أنا أتابع:

  صدقني.

أحسست بعدها أنني لم يبق لي من طاقات العقل إلا البديهة، وتبددت عن نفسي ثقتُها كبحيرة بخرتها حرارة الشمس، واجتمعت عليَّ حيرةٌ تتسع، وقلق ينبض، وغيظ لم أعهده. واجتاحني شعور بأنني مقيد بين صفوف الطلاب، فاستجمعت هذه الأشلاء وخرجت من بين الطلاب لأقف بجواره أمام الدكتور وعلى مشهد من الجميع. ولم أكد أنفصل عن المقاعد حتى قال بصوته المرتفع العميق:

  إنه في قمة التوتر يا دكتور وهذا دليل كاف على كذبه.

سَرَتْ رعشة بردٍ في عروقي، ونطقْتُ بلسان البديهة وأنا ألوح بيدي في ارتباك:

  فليسأل أستاذي زملائي فما أظن أنهم ينكرونني.

وكأن جدة الموقف قد فرضت نفسها فتوجه الدكتور إلى الطلاب قائلا:

  هل يستطيع أحدكم تعرف الأول منهما؟

في البداية شعرت بشيء من الثقة يعود إلى نفسي، لا أدري كيف اعتقدت أن زملائي سيشيرون إليَّ دون تردد. نظرتُ إلى أعينهم فتسابقت نحوي نظرات الإنكار، وتنبهت في لحظة إلى أنه يرتدي سترتي التي اعتادوا أن يروني فيها، فانقلب ما لاح من ثقة شكًّا على شكٍّ، حتى امتد هذا الشك إلى قوة البديهة التي بقيَتْ لي.

وعدتُ أنظر إليه، كانت نظراته لي شديدة الثقة غير عابئة بأيِّ شيءٍ .. يا إلهي! إنه يشبهني تمام الشبه.

لم تعد القضية عندي معرفة (من الأول؟) فقد استوى في أعماقي أكون (أنا) أو (هو)، بل ربما اعتراني شك في يقيني، وميل إلى أنه الأحق مني لما يبدو عليه من ثبات وثقة واطمئنان فيما يقول، وازدراء! ولا يردني عن هذا إلا ما تمليه علي البديهة.

أصبحت القضية أن أكتشف سر هذا الشخص؛ من أين جاء؟ ولماذا يشبهني هذا الشبه؟

ودفق قلبي الدم دفقة قوية انقلب معها التساؤل: أليس من الممكن أن أكون أنا الدخيل عليه؟ يا إلهي .. من منا الأصل ومن ...؟!! أفقت على قول الدكتور:

  إذن فلنسأل والمجيب هو الصادق.

دفق قلبي الدمَ دفقةً قوية، وارتعشت أناملي، ونظرت إلى السماء من النافذة فوجدت السحب قد تكاثفت، والشمس زاد احتجابها، ونفثت الريح في نفسي من برد الشتاء فارتجفت، وتلفَّتُّ مذعورًا - كصيدٍ اقترب أجله – إلى الدكتور، فشبيهي الذي لا أعرفه، فالطلاب .. ثم أطرقت مستسلما وهو يقول:

  نعم، هذا هو أفضل حل.

وسأل الدكتور فلم أجد سؤالَه يقع في داخلي على إجابة أو شبه إجابة ..

انسلخت كل الأصوات عن صفاتها، وعادت أصواتًا مجردة لا تدل على شيء. ضجيج مستمر، ممل، ومرعب أحيانا. ولم يتناه إلى سمعي صافيًا واضحًا عميقًا إلا صوتُه وهو يجيب منطلقًا ويناقش. وفجأة تذكرت شيئا، فصحت:

  عفوًا، أنا معي دليل مادي ورسمي أيضا.

التفت إليَّ الدكتور، وأحسست من نظراته أنه لا يكاد يصدق حرفا مني، ولكني قلتُ في تحدٍّ وأنا أحرك يدي في جيب معطفي:

  هذه بطاقتي الجامعية.

  هل تظنُّ أنَّه من الصعب الخداع في هذا؟

  وما الذي سأفيده من الخداع؟! على أية حال فليخرج هذا الزميل بطاقته.

والتفتُّ إليه، شيء ما جعلني أتصرف هذا التصرف، ولأول مرة لمحت في عينيه شيئا من التوتر، أو لعلي توهمت ذلك، فابتسمت، عبث بيده في طيات ملابسه ثم قال:

  يبدو أنني قد نسيتها.

وخُيِّلَ إليَّ أنَّ الدكتور يقول:

  البطاقة لا تعرفنا إلا أنك طالب هنا، أما ترتيبك فيعرفُ بك أنت.

عادت الأصوات تتمازج وتتخلى عنها ملامحها لتصبح ضجيجا لا معنى له، وأنفاس الحضور تلفُّ هذا الضجيج، وانطلق بصري عبر النافذة إلى السماء .. لا تزال الشمس محتجبة، والسحب تلف أشعتها فلا يكاد ينفذ منها شيء، ومع هذا لم أشك في أنَّ النهار مازال موجودًا. وتحولت سريعا إلى القاعة لأتساءل في نفسي: إلى متى سيظل هذا المشهد العجيب بل الكئيب؟! هل أنا في حلم؟! مَنْ هذا الشبيه ؟ من أين خرج؟ ولماذا؟!

لم يبقَ أمامي إلا عملٌ واحد، فاستلفتُّ الدكتور ولوَّحتُ أمامَه بكلتا يديّ في حركة استسلامية، وصحتُ:

  إذن .. فلا بد أن أعترف أنا.

سرَتْ موجةُ غمغماتٍ ثم صمَتَ الجميع بالتدريج حتى لم أعد أسمع صوتًا، واتجهت كل الأنظار إليَّ تنتظر ماذا سأقول. فكَّرْتُ قليلًا فيما أنا مقدمٌ عليه، ولكني لم أطل التفكير لأني لم أجد له جدوى، فقلتُ وبصري مثبَّتٌ على الشبيه:

  نعم، سأعترف بكلِّ شيءٍ .. أنا لستُ الأوَّلَ، هذا هو الأول، ويبدو أن نفسي سوَّلت لي أخذ بطاقته خفية، أليس هو صاحب الصفات التي أهلته لذلك؟! ولكن بقي أنْ تعرفوا مَنْ أنا؟
زاد الصمتُ عمقًا في أركان القاعة، واتسعت الأحداق متطلعةً إلى المجهول، فهممتُ أن أقول شيئًا ما، لكنه سبقني بالكلام:

  من ستكون يا تُرَى؟

وتابع بابتسامة ساخرة:

  شبحا أرتديه مثلا؟!

تملكني شيء من العجب .. يا إلهي! من أينَ عرف ما يدور بخاطري؟! لقد كدت أنطق بهذا وإن كنت لا أجد له مغزى محددا في نفسي، فقط شعرت أنه سيحرك شيئا ما في أفق الموقف.
وعاد يتحدث وقد اتسعت ابتسامته الساخرة وارتفع صوته:

  أيها الأستاذ المبجل .. أيها الزملاء الأعزاء، إنني أطلب إليكم الآن ...

وشُدَّت الأنظارُ إليه، وعقد الصمتُ الألسنَ بعد موجة غمغمات سريعة، وهو يتابع منقلا نظرةً عجيبةً بين الطلاب والأستاذ ثم إليَّ أخيرًا:

  إنني أطلب إليكم ألا تصدقوه.

عادت الهمسات وأخذت تعلو حتى شحن جو القاعة بالكلمات المتطايرة من هنا ومن هناك.

وخطر ببالي خاطر مبهم؛ ما هذه السلبية التي يتصرف بها هؤلاء الطلاب؟! أليس فيهم من يبدي رأيًا أو يعترض على شيء؟!! كلهم أمامي كـأنهم شخصٌ واحد له أجساد متعددة. رفعت يدي إلى رأسي ومسحت جبهتي بكفي، وعدت أنظر إليه. قال ولم تزل ابتسامته الساخرة على وجهه:

  ولكن لا تكذبوني أيضًا.

علت موجة الهمهمات وغشيت جنبات القاعة، وبدا لي هذه المرة أنني في حلم، نعم .. لم لا؟! أنا في حلم وسأستيقظ بعد قليل وأنظر في ساعتي فأُصدَم حينما أدرك أنَّ المحاضرة الأولى قد فاتتني!!

وأطرقت مليًّا، وسمعت الدكتور يقول له:

  ماذا تعني؟

  هو يفهم كلَّ شيء.

  من سلطكما علينا اليوم؟

  أرجو من سيادتك ألا تغضب؛ فأنا يؤلمني أن أضايق أستاذا لي.

  كل هذا وتريدني ألا أتضايق أو أغضب؟! لولا ما عهدته في نفسي من حلم لكان لي معكما شأن آخر.

  أعرف هذا يا أستاذي الفاضل، وأرجو ...

  أرجو ... أرجو ... إما أن تبينَ لنا عن أمركما أو ...

  حسنا، ولكن أرجوك أن تهدأ أستاذي ولا تعنف عليَّ . إذا هجس في نفس إنسان خاطر وأراد أن يخرجه فماذا يفعل؟

  يخاطب به أحدًا، أو لعله يكتبه في مذكرات خاصة.

  حسن، فإذا لاحت في عالم الحقيقة فكرة وأراد أن يوصلها للناس فماذا يفعل؟
نظر إليه الدكتور بشيء من الدهشة وهو يقول:

  من الذي أراد؟

  عالم الحقيقة.

ردد الدكتور في دهشة واستنكار:

  عالم الحقيقة؟!!

  أجل، عالم الحقيقة.

سقطت الكلمة الأخيرة في أعماقي، ومن حيث استقرت انطلق شيء كالشهاب المحرق حتى ملأ صدري ثم صعد إلى حلقي .. وتحركت رأسي، نظرت إليه سريعا، واقتحمت الحوار بجرأة:

  أنت كاذب مخادع.

  إنك تصفني!

لم أدر لم قال هذه العبارة بالذات، ولكنني قلت في حدة:

  نعم أصفك، أنت مخادع ومضلل.

قال وقد لمعت عيناه:

  لو تأملت قليلا لعلمت أنك أصلح للوصف مني.

صرختُ، ولكن الصرخة احتبست في حلقي، وتحولتْ إلى دموع ترقرقت في عينيّ، وازدردت ريقي، وقلت بصوت محتبس:

  أنا أثق الآن في أنك مخادع.

  لا زلتَ تصف ما لا يوصف!

  ومن الذي يستحق أنْ يوصفَ إذنْ؟

  أنت.

  ولمه؟

  هذا ما تقرر في عالم الحقيقة.

  لا يوجد عالم اسمه عالم الحقيقة.

  فمن أين تولد أفكار الناس؟

  من ذواتهم.

  ضحك ضحكة عالية، وكانت أمواج الهمهمات تتوالى بين ارتفاع وانخفاض حتى كانت ضحكته فساد صمت، وتنحنحت حتى تذهبَ حبستي، وقال:

  لو كان هذا لاستوى الناس في كل شيء.

  ماذا تعني؟

  ألم تفهم بعد؟!

أرسلتُ طرفي إلى السماء عبر النافذة الكبيرة. كانت الشمس قد بدأت تظهر، والسحب الكثيفة تتهادى ببطء في رحلة أُمِرَتْ بها، احتجبت الشمس قليلا ثم ظهرت، ثم احتجبت فترة أقل ثم ظهرت وبدا النهار ساطعًا والشمس في ساعة الزوال. تنفست بعمق، وشعرت أن نفسي تجتمع وتتضامُّ وكأنني أسترد حالتي التي كنت أعهدها. وتذكرته وكأنني قد نسيته، وانتابتني رغبة في مصافحته وعناقه. نظرت إلى حيث يقف، لم أجده، تلفتُّ حولي، لم أرَ إلا وجوهَ الطلاب والطالبات قد كساها الذهول والعجب، وهمهماتهم تعلو، والسحب تبتعد، والتفت إلى مقعد الدكتور فلم أجد أحدًا. نظرت هنا وهناك، شعرت بالشمس تبعث أشعتها حاملة رسائل الدفء إلى عروقي، وأحسست أنه يبتسم بفمي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى