الأربعاء ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١١
بقلم محيي الدين غريب

المحاكمة 1

صديقى الفرنسى مسيو جاك فى العقد السابع من عمره يبدو من بعيد كهلا أنيقا غامضا ولكن ما تلبث أن تقترب منه وتتحدث معه إلا وتجده إنسانا عاديا جذابا متنوعا، يأخذك بحديثه أحيانا فإذا هو حديث من شاب فى مقتبل العمر، وأحيانا أخرى هو حديث من عجوز حكيم ثقلته خبرة الحياة وأثقلت عليه.

ترجع صداقتنا إلى حقبة السبعينات من القرن الماضي عندما كنا فى أواخر العشرينيات من العمر، ولذلك فإننا بمجرد أن نتلاقى ونبدأ فى الحوار تسقط حواجز المكان والزمان، ويالها من متعة رائعة أن يتحرر الإنسان ولو لبعض الوقت من بعض هذه الحواجز.
كان الحوار معه سلسا برغم اختلاف اللغة والثقافة والدين، فهو ينصت اليك ويعطيك فرصة واسعة للكلام دون مقاطعة ويجعلك تود أن يطول الحديث معه ساعات وساعات. وحتى عندما كان يتلعثم أحيانا فى الكلام كان وكأنه يحاول متعمدا أن يعطيك فرصة لمقاطعته.
تعودنا ان نتناقش فى كل امور الحياة بسعة صدر وبصراحة بالغة ترقى إلى العمق، لعلنا نخلص إلى فهم هذه الحياة الأكثر تعقيدا.

مسيو جاك كما عرفته ليس متدينا بالمعنى التقليدى، ومع ذلك فهو يحترم رسالة جميع الاديان المكتوبة وغير المكتوبة ويدافع عنها كلما اتيح له ذلك وله فلسفة عقلانية فى امور الدين المختلفة.

لذلك كان نقاش الامور الدينية معه من بين النقاشات المثيرة للجدل فى عصر غلبت فيه النعرة الدينية وطفحت فيها التطرفات التى كانت تعيدنا أحيانا إلى العصور الوسطى. كنا نخشى ما نخشاه أن يصبح الدين أفيونة للشعوب وتوصلنا التناحرات الدينية بين العقائد والطوائف إلى حرب عالمية ثالثة. فى عصر أصبح النقاش الدينى مفتوحا وهاما وغير محفوف بالغموض أو التكلف أو الخوف كما كان من قبل، ساهم فى ذلك هذا الكم من حرية التعبير عن طريق وسائل الاعلام والقنوات الفضائيىة والانترنت.

كان لقائنا الأسبوعى من اللقاءات المشوقة نثرى فيها بما هو جديد ومفيد ونترك العنان لأفكارنا وآرائنا تتعانق أحيانا وتتجاذب أحيانا اخرى فى جو من الصراحة والهدوء.

صديقى الفرنسى مسيو جاك بدا اليوم وكأنه مشغولا بفكرة جديدة، كنت أخمن ذلك عادة عندما أراه شاردا سارحا وكأنه فى حوار صامت مع نفسه.

قال لى فجأة لابد من محاكمتهم.

قلت مداعبا له: موافق بشرط أن تكون محاكمة علنية وعادلة، وليس المهم من هم، فما أكثرهم هنا وهناك.

قال: لا فى هذه المرة يهم أن تعرف من هم، ماأقصده هو أن تقام محاكمة لرجال الدين.
وقبل أن ينتهى من كلامه أغمض عينيه محاولا أن يخفف من طرحه المفاجأ وليعطنى فسحة لاستيعاب ما قال.

قلت: مهلا، كانت موافقتى على محاكمة رئيس مستبد أو حاكم طاغى أو مجرم حرب، أما محاكمة لرجال الدين، لا أفهم ماذا تقصد؟.

قال وهو لايزال مغمض العينين: قصدت محاكمة جميع رجال الدين اللذين لعبوا دورا هاما فى حياة البشر وأوصلوه لما نحن به الآن.

قلت: وماهى التهمة؟

قال: توسطهم بين الله والإنسان. أنت تعرف أننى لست متدينا ومع ذلك فأننى أحترم جميع الأديان لأنها ساهمت ولعصور طويلة فى كثير من التوازن النفسى الإنسانى، واستطاعت رسالاتها خلق معنى للحياة ونشر مبادئ واخلاقيات وقيم إنسانية سامية فى هذه الفترات.
إن جميع الأديان المكتوبة وغير المكتوبة المنزلة من السماء أو النابعة من الارض كلها جاءت لتدعو الإنسان إلى الخير وتعلمه الثواب والعقاب ولتكون نبراسا ومعيارا يضئ دهاليز الظلام، جاءت لترسخ قوانين ومعايير ومحاذير دنياوية وحياتية فى تلك الفترات الزمنية كبديل لما هو فى العصور الحديثة من القوانين المدنية والحقوقية والدساتير وغيرها.

قلت: وماهى المشكلة؟.

قال: المشكلة أنهم اخترعوا هذه الأديان وأضافوا لها وأدعوا أنها منزلة من عند الله حتى تضيف هيبة وقدسية وقوة لرسالتهم، ولكن أيضا لتضيف لهم كوسطاء فيصبحون هم الدين، ويتحولون إلى نوع خاص من البشر يقف بين الله والإنسان في ترتيب الدرجات. وجاء رجال الدين ليصوغوا لأنفسهم هذه السيادة والوصاية والسيطرة على الناس، ومن هنا اصطنعوا لأنفسهم ألقابا فخيمة وأزياء مهيبة ومؤسسات طائفية خاصة أضفوا عليها القداسة، بل ولغة خاصة تشمل في معظمها نصوصا دينية كلما تحدثوا.

انتهزت الفرصة عندما رأيت صديقى منشغلا للحظات، فقلت له: ومع ذلك الا ترى أن وجود الاديان حدثا يستحق الأعجاب...فرد دون تمهل وكأنه توقع ما يدور فى عقلى.

قال: لاشك بل كل الأعجاب وتماما كما أعجب بالأختراعات والأفكار الكثيرة التى أفادت البشرية، فالأديان بصفة عامة ساعدت فى تلك الأزمان على حل الكثير من الغاز الحياة والكثير من المشاكل الاجتماعية والغيبية وأفرزت قيم صالحة ترتبط بالمكان والزمان. ولكن أيضا بسببها وبأسم الأديان شنت الغزوات والفتوحات الدموية ونشبت الكثير من الحروب الطاحنة. ولاتزال حتى الآن الصراعات والنزاعات الدينية والطائفية.

قلت: لا أزال لاأفهم، إذا كان رجال الدين وسطاء دون موافقة الله فكيف لله عمليا أن يتصل ويتواصل مع عباده ويهديهم للطريق الصحيح؟.

قال: أن الله لايحتاج أية وساطة لأنه عندما خلق الإنسان خلق معه الضمير وهو الشيئ المشترك بين جميع البشر.

الضمير الإنسانى هو العلاقة الصحيحة العملية بين الله والإنسان، فالضمير يؤنب ويحذر الإنسان عندما يخطأ ويسعده ويطمأنه عندما يعمل الخير. ويظهر ذلك جليا فى تصميم الإنسان فالعلامات والاشارات الفسيولوجىة تفضحه عندما يكذب أو يسرق أو يسعد أو ينجح.

وتصبح القيم الإنسانية النابعة من الضمير هى التى يمكن أن توحد وتوجه البشرية فى كل زمن وفى كل مكان بينما لم تتمكن الأديان من ذلك ولا حتى فى داخل الدين الواحد.
قلت: وكيف يعرف الإنسان أن هذه القيم الإنسانية ذات معياراً إلاهياً لولا وجود رجال الدين كوسطاء؟.

قال: لايجب أن تكون كذلك، ففى رأيى أن الإنسان نفسه هو محل المعايرة والتقييم لأنه محل الفعل، والضمير هو الوسيط الوحيد إلى الله وهو قديماً أزلياً منذ الخليقة الاولى وسابقاً لكل الأديان.

إن أساس خلافى الفلسفى هو السؤال الذى يقبع فى الوعى الطبيعى لأى إنسان متدينا كان أم غير متدين عالما كان أم جاهلا، سؤالا يجرؤ البعض القليل تناوله والتفكير والتعمق فيه بينما يصعب ويحرم على المعظم الكثير مجرد التفكير فيه لاعتباره كفرا مبينا.

إن الإله الذى خلق هذا الكون اللانهائى بما فيه من مليارات المجرات السماوية والذى خلق الإنسان والذى خلق الحشرة الصغيرة الخارقة فى الأبداع وما بينهما من هذا الكم المتنوع من المخلوقات التى نراها ونعرفها وكماً آخر لا نراه ولانعرفه. هذا الإله الذى خلق العقل البشرى الخارق فى الدقة والتصميم بالقطع لا يحتاج أى وسطاء وبالقطع ليس هو منزل الاديان. فلو كان هو فى إحتياج لوسطاء لكان ذلك منذ الخليقة الاولى منذ مئات الآلاف من السنين وليس فقط منذ الثلاثة آلاف السنين الماضية، وفى كل مكان على البسيطة وليس فقط فى مكان بعينه، لكان ذلك عندما كان الإنسان يعبد النار والشمس والقمر والرياح.

ولو أرادالإله أن ينزل أديانا سماوية لجاءت هذه الاديان غير متضاربة وغير متصارعة، لجاءت بلغة يفهمها كل إنسان فى كل مكان، ولجاءت متطورة تناسب كل العصور، لجاءت تحكى قصة الكون ليتعلم منها الإنسان ويعقلها، تحكى كيف ومتى بدأت الخليقة وكيف نشأ الكون ولماذا أنقرضت الديناصورات ولماذا كان العصر الجليدى...وما إلى ذلك.

ولكن الإله اراد أن يكون ضمير الإنسان ووعيه هما الوسيط والمرجعية فى نفس الوقت.
قلت: مسيو جاك أجدك فى حديثك تبسط امور الحياة وتود أن يكون كل شيئ واضح وفى متناول الإنسان الشيئ الذى قد يحرمه من التفكير والاجتهاد والأبتكار بينما الحياة هى أكثر تعقيدا من ذلك.

قال: ولما لا نبسط الحياة، تخيل لو أن الإنسان لم يضيع كل هذه الأوقات فى الطقوس والحروب الدينية على مدى ألاف السنين لكان تفرغ إلى المزيد من الرخاء والسعادة والتقدم.
إن حوالى نصف العالم لايؤمن بالأديان السماوية وهم يعيشون أكثر سلامنا وأمنا مع شعائرهم وطقوسهم التى تحولت مع الوقت إلى مجرد عادات وتقاليد دون وساطة ودون كتب أنزلت من السماء.

قلت: ألا توافقنى أن الخلق والحياة أشياء تتجاوز فهم الإنسان، فكثير من العلماء والفلاسفة أقروا أن الحل يكمن فى الرجوع إلى الدين أياً كان ولذلك لم يستغنى الإنسان عنه حتى الآن، فحين تهاوت الديانة الفرعونية جاءت الديانة اليونانية ثم الرومانية والفارسية، وعندما جفت دياناتهم جاءت الاديان السماوية لتتربع المكان والزمان ولتساعد الإنسان تجاوز عدم مقدرته على فهم الحياة.

رد مسيو جاك وهو يتأهب للنهوض: إن الإنسان الحالى كما قال المفكر كولن ويلسون وغيره من المفكرين ليس إلا حلقة بين الحيوان والإنسان الحقيقى (كما يريده الإله) وليس إلا شكلا جديدا فى تاريخ التطور، ولكى يصل إلى الإنسان الحقيقى لابد أن يسعى جاهدا للحصول على حق وجود ذاته وأن يتخلص من سلبيته وقلقه الميتافيزيقى.

ثم قال: أعدك أن للحديث بقية، أما الآن فلابد من لحاق قطار التاسعة.

قمت بتوديع مسيو جاك وأتفقنا أن نكمل الحوار فى لقاءنا القادم على أن يكون الحوار حول إحتياج الإنسان للأديان وما هى الفائدة من مثل هذه المحاكمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى