الثلاثاء ٢٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١١
بقلم محمد شداد الحراق

مرجعيات الصورة في الخطاب الشعري الناصري

الحديث عن الصورة الشعرية حديث لا ينتهي، لأن موضوع الصورة الشعرية قديم وجديد. موضوع يتجدد باستمرار، ويفرض نفسه في كل وقت وحين. وذلك بالنظر إلى أهمية هذا المكون الأسلوبي في بناء شعرية الخطاب الشعري، ولدوره الكبير في تحقيق أدبية النص وجماليته. فقد "كانت الصورة الشعرية دوما موضوعا مخصوصا بالمدح والثناء، إنها وحدها التي حظيت بمنزلة أسمى من أن تتطلع إلى مراقيها الشامخة باقي الأدوات التعبيرية الأخرى"#. ولهذا كان موضوع الصورة الشعرية من أهم القضايا النقدية التي أفاض فيها النقد الأدبي قديمه وحديثه. بحيث كثر الحديث عن هذا المكون الأسلوبي، وتعددت الآراء في تعريفه وبيان حدوده. واختلفت المواقف ووجهات النظر حول عناصره ومكوناته. لكن البحوث النقدية تلتقي جميعها في بؤرة مركزية، وهي أن "الصورة أساس العمل الشعري وجوهره الثابت وحقيقته الخالدة"#. وبهذا المعنى فلن يكون الشعر شعرا، ولن يكتسب صفته الأدبية في غياب هذا العنصر التصويري، وبدون الصورة الشعرية يتحول الشعر إلى مادة لغوية منظومة جافة باردة لا روح فيها ولا رواء. فالأوزان وحدها لا تكفي، واللغة وحدها لا تجدي، والأساليب وحدها لا تغني. وذلك لأن العمل الشعري تركيب عضوي متكامل، تتآلف عناصره وتتكامل مكوناته لإنتاج الدلالة من جهة، ولتحقيق الأدبية من جهة ثانية.

وعليه فإن الصورة في القصيدة ليست كيانا مستقلا عن باقي عناصر التشكيل الشعري، بل إنها ملتقى كل الأدوات التعبيرية التي تساهم في بناء أدبية النص الشعري إنها "بنية تجمع بين عناصر مختلفة، ومن شروط هذه العناصر أن تأتي في روح من التآلف والانسجام"#. وهذا يعني أن "الصورة الشعرية لا يتم القبض عليها بواسطة عنصر دون آخر، فلكي تصل إليها ينبغي ألا يهمل أو يغفل عن أي عنصر من العناصر"#. بل إن هناك من النقاد من رفض تحديد الصورة في بعض الأساليب البيانية، على نحو ما كان سائدا في النقد القديم، فليست الاستعارة وحدها صورة، وليس التشبيه بمفرده صورة. لأن في تحديد الصورة بهذه الأساليب تجزيئا لها، وتقييدا لها في الإطار البلاغي الصرف. والواقع أن التشبيه لوحده ليس صورة، وكذلك الاستعارة بمفردها ليست صورة، وذلك لأن التشبيهات والاستعارات هي معان لم تتم بعد، ولن تتم إلا من خلال عناصر أخرى كثيرة. فقيمتها الفنية تتحدد حين تدخل مع العناصر الأخرى في القصيدة#.
وتأتي أهمية الصورة الشعرية كذلك من كونها ترجمة فنية للأفكار والأحاسيس والأخيلة، وهذا هو جوهر العمل الشعري. إذ "لا مناص للشاعر من أن يحول الفكرة إلى إحساس، لأن الشعر لا يتكلم لغة حرفية، وهو بسبب ذلك يسلك مسالك الشعر لا مسلك النثر، ومن أهم هذه المسالك مسلك التصوير"#.

وحتى يضمن الشاعر صفة الأدبية الخالصة لعمله، فإنه يستعين بكل الأدوات التعبيرية الشعرية، ويستخدم كل "طاقات اللغة وإمكاناتها في الدلالة والتركيب والإيقاع والحقيقة والمجاز..."#. وبدون ذلك فإن ماء الحياة يجف في كيان النص الشعري، فتصبح المادة الشعرية جسدا باردا لا روح فيه ولا حياة. لأن "غياب الصورة الشعرية في الشعر، يعني الاكتفاء بالمتداول والمشترك والمتعارف عليه والمألوف بين الناس والاقتصار على المعنى الوصفي النقلي التقريري الذي يقف عند حدود الدلالة المباشرة للألفاظ. وهو ما لا يتفق وطبيعة القول الشعري وخصوصيته التعبيرية"#.

وإذا تأملنا المواقف النقدية العربية القديمة# نجد أن النقاد القدامى كانوا أقل شغفا بالصورة مما هم عليه النقاد المعاصرون. وظل اهتمامهم بالصورة الشعرية شكليا وسطحيا . لكن النقاد في الدراسات الحديثة استفاضوا كثيرا في دراسة عناصر التصوير الفني من زوايا مختلفة وبمقاربات متنوعة نصية ونفسية وتأثرية واجتماعية#. وهذا يعني أن النقاد المعاصرين تجاوزوا النظرة الضيقة إلى الصورة على نحو ما كان عليه النقد القديم. وبحثوا في أكثر من التشبيهات والاستعارات، وأفاضوا في استكناه دلالات الصور الشعرية وفي استنطاق رموزها وأدواتها التعبيرية، وفي البحث عن المعاني الخفية والدلالات المتوارية خلف الآليات البلاغية والميكانيزمات الأسلوبية والإيقاعية.

وعلى الرغم من النظرة التجزيئية التي تعامل بها النقاد القدامى مع موضوع الصورة، فإن مواقفهم النقدية كان لها أثر كبير في الدراسات النقدية الحديثة، بل إن من النقاد القدامى من كانت آراؤه حول التصوير علامة بارزة دالة على بعد نظر وعمق تأمل. وخاصة الأقوال النقدية لحازم القرطاجني، بحيث ركز هذا الناقد الفذ على عنصر التخييل كآلية أساسية في القول الشعري#. ولاشك في أن أداة التخييل تدفع الشاعر إلى استبطان الظواهر، وتجاوز الظواهر الحسية والفيزيائية في العالم المنظور. والتخييل أيضا، هو البوابة الأمامية التي تمكن الشاعر من الوصول إلى المشاعر الخفية، ومن إدراك طبيعة الأشياء الداخلية. ولهذا كان عمل حازم القرطاجني في هذا الباب عملا متقدما ومتميزا، فقد "حقق إنجازين بالغي الأهمية، إنه من جهة قد وضع يده على أدبية الكلام التي تمثل الموضوع الأصيل لنظرية الأدب، ومن جهة أخرى رسم تخطيطا أوليا لتاريخ الأدب، ليس باعتباره تاريخا للمحتويات... ولكن باعتباره تاريخا للأشكال التي تحتل فيها الصورة الشعرية المنزلة الرفيعة"#.

والحديث عن الصورة الشعرية في الشعر الناصري لا يمكن أن ندعي بأنه سيختلف عن الحديث الذي قيل في التراث الشعري المغربي المنتمي للعصور المتأخرة، والمرتبط بالزوايا والخطاب الديني على وجه الخصوص. لأن الشعر المغربي في هذه الفترة كان ينتمي إلى اتجاه شعري كبير استوعب أغلب التجارب الشعرية، وطبعها بطابعه الخاص، كما أن الحديث عن الصورة الشعرية لا ينفصل عن الحديث عن مفهوم الشعر السائد آنذاك، وعن طبيعة القضايا والمواضيع التي كان الشعر يدور في مدارها. فلم يكن الناصريون في جزيرة منعزلين عن مجتمعهم الثقافي. ولم يكونوا في مأمن من التيارات الأدبية والفكرية التي كانت تحيط بهم من كل جانب. فقد كانوا قريبين من الحياة الأدبية بكل ظواهرها واختياراتها، متفاعلين مع الذوق العام السائد. فلم يثبت عنهم تطرف أو تمرد أو تميز في مجال الإبداع الشعري. وبالتالي فإن القيم الفنية التي تتخلل أعمالهم هي من صميم ما اصطلح عليه المجتمع الثقافي في عصرهم، ومن صميم ما تداولته أقلام الشعراء وما حملته ممارستهم الشعرية.

أقول هذا الكلام حتى لا نتهم الشعر الناصري بالقصور أو بالعجز، وحتى لا نسقط على هذا الشعر أحكاما جائرة أو قبلية تطيح بكل ما اجتهد الشعراء في تأسيسه وبنائه. وحتى لا نطالب شاعرا بعينه أو مجموعة من الشعراء بأن يسبحوا ضد التيار. لأن الحركة الشعرية الناصرية لم تكن قط استثناء أو انفصالا عن الذات الشعرية المغربية الكبرى، ولم تكن قط إضافة نوعية في مجال القول الشعري، وإنما كانت صدى لما كان في المجتمع الثقافي بأسره، تحاكي النماذج، وتجتهد في إثبات الحضور الشعري للأديب الناصري بغض النظر عن أصالة التجربة أو تبعيتها.

ففي سياق ثقافي ما لا يمكن أن نطالب من مجموعة من الشعراء أن يحققوا التميز التام، و لا أن يلغوا كل صلة لهم بتراثهم الثقافي، أو أن يتخلصوا من كل الرواسب القديمة أو الظواهر السائدة في زمنهم. فهذا أمر متعذر بل مستحيل. فالمبدع لا يبدع من فراغ، والفنان لا ينطلق من درجة الصفر. وعلى هذا الأساس كان التناص سمة عامة في سائر الإبداعات كيفما كان نوعها، وكانت المحاكاة حاضرة في كل ممارسة فنية مع تفاوت بين تجربة وأخرى. ولعل من مظاهر الاتباعية والمحاكاة ما يمكن أن نلمسه في الأساليب والصور والمعاني. فالشاعر مستودع للأفكار والأحاسيس والأخيلة، وهو كذلك خزان للمعارف والمقروءات والتجارب السابقة. فهي تختمر في أعماقه، فتصير مادة أولية من جديد، ليصوغ بها ما يعتمل في قلبه وما يثيره في عقله. ولا يمكن أن نعمم فنحكم على شعر الناصريين- والمغاربة بعامة- بأنه مجرد اجترار لصور القدماء، أو محاكاة نقلية حرفية لأشعارهم، لأن في هذا التعميم الكثير من التجني على بعض التجارب الشعرية التي ركب أصحابها مركب الإبداع بجدارة واستحقاق، وأثبتوا أن الشعر ليس ملكا لأحد، ولا حكرا على رقعة جغرافية أو فترة زمنية. فلكل زمن رجاله ومبدعوه، وقد يأتي الأواخر بما لم يأت به الأوائل كما قال البارودي :[الكامل]

ـ كم غادر الشعراء من متردم
ولرب تال بذ شأو مقـــدم#

فالقول بأن "شعراءنا المغاربة كانوا يقلدون صور الشعر القديم، وينسجون أشعارهم في غير روح، ويقرضون في غير نبض... يأخذون الأشياء كما هي، ويصوغونها في أشعارهم بدون أن تكون لتلك الأشياء دلالاتها الفنية في نفوسهم".# قول عام ينفي صفة الإبداع عن كل التجارب الشعرية المغربية. ويتهمها كلها بالافتعال و التعمل. صحيح أن الكثير من هذه التجارب قد أصابه التقليد والاجترار، و صحيح أيضا أن كثيرا منها كان فيه افتعال التجربة ، ولكن هذا لا يبيح لنا التعميم والطعن في كل التجارب. لأن الكثير من الأعمال الشعرية ترفض مثل هذا الاتهام وتدافع عن نفسها بما تتميز به من سلامة في اللغة، وطبع في استدعاء المعاني، وجمال في الأساليب، وعمق في الرؤيا، وبعد في الخيال، ودقة في التعبير، وأصالة في التصوير. وأنا لا أدعي أن التجارب الناصرية قد وصلت إلى هذا المستوى، بل ولا أعتبرها اقتربت منه نهائيا. فهي في مجملها بعيدة كل البعد عن درجة الأصالة التصويرية. ولكن لها ما يبررها ويعلل مستواها، وذلك بالنظر إلى السياق الثقافي والتاريخي الذي نشأت فيه هذه التجارب وعبرت عنه وتفاعلت مع أسئلته وقضاياه واختياراته.
إن الشعراء الناصريين استخدموا لغة التصوير، واستعانوا بالآليات البلاغية من تشبيهات ومجازات واستعارات، ولكنهم لم يكونوا دائما موفقين في أعمالهم، فتارة تظهر فيها صفة الصدق الفني والطبع، وتارة يغلبهم التكلف وتسيطر عليهم الزخارف اللفظية والمساحيق البلاغية. وهكذا جاءت صورهم متفاوتة من حيث درجة جماليتها، ومتفاوتة أيضا من حيث مستوى أصالتها. فقد يستغل الشاعر حينا طاقته التعبيرية لتفجير المعنى، وحمل المتلقي بعيدا، والتحليق به في دنيا الخيال. ولكنه، حينا آخر، يكتفي بتأدية معانيه بدون لفافة فنية، وبدون لمسة جمالية. فيعتمد البساطة والمباشرة والتقريرية، فتأتي الصورة في هذا الشعر ضعيفة من حيث التصوير الفني، "باهتة جافة لا تختزن أي طاقة تفجيرية إشراقية"#.

مصادر الصورة ومرجعياتها:

لابد أن ننطلق في دراستنا لهذا الجانب من مسلمة أساسية، وهي أن الصورة التقليدية عامة، وخصوصا في الشعر المغربي المرتبط بالزوايا، كانت صورة ـ في أغلب نماذجها ـ نقلية، تعتمد الملاحظة العينية للمشاهد الواقعية. بمعنى أنها مستمدة من الواقع المنظور. وأن العقل فيها كان ملتزما بحدود الأشياء المرئية والمظاهر الفيزيائية. فالشاعر لم يكن معنيا بما هو غير منظور، لا يهمه العوالم الخفية ولا العلاقات الداخلية المتوارية. ولكن همه الأكبر كان هو استلهام العالم المحسوس والاستناد إلى قوانين العقل والطبيعة للتعبير عن المعنى ولتوضيح الفكرة. ولهذا كانت الصورة تكتفي أحيانا بالتصريح، ولا تجرؤ على التلميح، وتلجأ إلى المباشرة حينما تعجز عن الإشارة. وكل صورة تكتفي بالنقلية والحرفية، وتلجم العقل وتضيق على الخيال، هي صورة استهلاكية، تقدم الجاهز، وتدور في مدار الحقائق الثابتة والمعروفة والمتداولة. فلا تستفز العقول، ولا تثير الأذهان ولا تفاجئ الذوق، ولا تكسر أفق انتظار القارئ. وقوة الصورة وجماليتها وأهميتها، تكمن في قدرتها على تحريك الثوابت، وعلى زعزعة القناعات والمسلمات، وعلى تهييج النفوس واستفزاز العقول وإحداث الوقع الجمالي لحظة التلقي. ولن يحدث ذلك إلا إذا انتقلت الصورة إلى مستوى الرؤيا التي تفرزها التجربة المتجاوزة للمرئيات والعلاقات المنطقية.

يرتبط الشاعر عادة بالبيئة التي نشأ فيها، ويتأثر كثيرا بما يحيط به في واقعه الطبيعي من مشاهد ومظاهر ومناظر. ولذلك نجده كلما أراد التعبير عن فكرة استعان بهذا المحيط، وتوسل بأشيائه المحسوسة وبعناصره المرئية الجامدة والمتحركة، والتزم بأبعاده وحدوده الزمانية والمكانية. فإذا تحدث عن الشجاعة وجد في الطبيعة ما يناسبها، وإذا تحدث عن الجمال رأى في مظاهر الطبيعة ما يوحي بهذه القيمة، وإذا تحدث عن الكرم والسخاء وجد في البحر أو السحاب خير عنصر لتقريب هذه الصورة، وإذا تحدث عن الحب والغرام والشوق وجد في النار مبتغاه. وهكذا تصبح العناصر الواقعية المبثوثة في الطبيعة الحية والجامدة وسائل فنية لصياغة الفكرة وللتعبير عن المعنى.

ولنستمع إلى أحمد بن موسى(ت1156) وهو يوظف عناصر الطبيعة للتعبير عن مستوى المعاناة التي يعيشها من جراء ابتعاد الأحبة عنه ويصور درجة اكتوائه بنار النوى والبين.

وأودعوا في الحشا جمر الجوى سحرا
وودعــوني ونـــار البــين تشتعل
بالأمس شدوا حمولا فوق عيســـــــهم
وفيهم قمــر بالحــــسن يشـــتــعل

فقد جمع الشاعر، لبناء هذه الصورة الغرامية المأساوية، بعض عناصر الطبيعة، ومنحها إمكانية تغيير جنسيتها وهويتها الأصلية. فلم يعد الجمر عنصرا ماديا، ولم تظل النار حالة اشتعال مرئية، ولم يبق القمر عاليا مشعا بين النجوم في السماء. وإنما غيرت هذه العناصر طبيعتها، ودخلت في سياق جديد للكشف عن حالات النفس المتمزقة من شدة الغرام، والمكتوية بعذاب الفراق. بل إن هذه العناصر المضيئة (الجمر ـ النار ـ القمر) فقدت قدرتها على ممارسة وظيفة الإضاءة، وتحولت إلى رموز دالة على الاحتراق الداخلي الذي يحدث في وجدان الشاعر.
ونلاحظ في هذا المشهد التصويري كيف تسافر الصفات وتنتقل بين الماديات والمعنويات. فالجوى وبواطن النفس ومشاعرها الحارة تتحول إلى مادة مشتعلة حارقة(الجمر). و البعد أو البين يصير مادة مشتعلة حارقة (النار) .

تحضر الصورة الطبيعية في الشعر، فتعيد ترتيب الأشياء وتغير توزيع الأدوار بمنطق جديد، وبحسب ما تقتضيه التجربة الشعرية. فقد يصير الإنسان بحرا إذا امتلأ علما ومعرفة، فتصبح المعارف دررا وجواهر. وقد يصبح الشرف الرفيع نجوما مضيئة في السماوات تخترق أنوارها السحب العابرة. وهكذا تتقاطع الحقول الدلالية وتتداخل، ويخدم بعضها بعضا، وينوب بعضها عن بعض، مثال ذلك ما نلمسه في هذا السياق المديحي للأديب موسى الناصري( ت1142):

ـ بحر الزمان وسعده ونهــاره
ومحاسن الدنيا إليه تنتــــمـي
ـ شرف يطرز بالنجوم ويستمي
فوق السماء على مرور الغيم
ـ كم عابر قاسى الثريا بزعــمه
إن السما يرقى لها بالسلــــم#

فقد تحولت عناصر الطبيعة في هذا الاستعمال إلى رموز معبرة عما يسعى إليه الشاعر في وصفه لممدوحه. فلم يكن باستطاعته الانفلات من مغناطيس البيئة المحيطة به، ولم تكن له القدرة على تجاوز المرئيات والغوص في ما وراء المنظورات المادية التي ترصدها عينه كل وقت وحين. فظل حبيس التداعيات الوافدة من عالمه المنظور، ورهينا بما تلتقطه آلته التصويرية النقلية.

لقد كانت للبيئة جاذبية قوية، تحاصر الشاعر بمظاهرها وتفتنه بعناصرها ومناظرها الجميلة. فلا يجد وسيلة أكثر تعبيرا، ولا أشد تصويرا لما يحسه ويراوده من الأشياء التي تطل عليه من عالم المشاهدة. وهكذا يقطف الشاعر من عالمه ما يساعده على توضيح الفكرة و على أداء المعنى. فيصوغه بحسه الفني ورؤيته الشاعرية في قالب جمالي بديع. فالشمس والعرصات والزهر والبدر والسماء والليل والحصباء، عناصر من صميم المجتمع الدرعي. وعلامات دالة على طبيعة هذا الفضاء المكاني الذي تنوعت مناظره الطبيعية، ولذلك كان الشاعر يمتلك مادة غنية تساعده على التعبير في مختلف السياقات الشعرية. تحضر هذه العناصر الطبيعية في الحديث عن بعض المعالم العمرانية، كما في وصف الأديب موسى للخزانة الناصرية : [الكامل]

علم المحاسن قد أناخ بروضــة
ذات السنا ومــقر ديـــن محـمـد
ـ راقت فأبرق نورها أفق العــــلا
متبلج الإصباح أسـنــى مقصــد
ـ بيت حوى كل المحاسن فازدهى
عجبا وفاق علاه كـــــل مشهـــد
ـ بهر العيون بهاؤه وسنــــــــاؤه
وسبى العقول بحسنــه المتـجـدد
ـ إن قلت فيه إنه شمس الضــحى
أو قبـــة من لـؤلؤ لـــم تفــــــــند
ـ هبت معالي السعد في عرصاتـه
والزهر لاح في أعالـــيه النـــدى
ـ حازت مفاخره سماء المجد مـن
برد الليالي وحسن صـدق تهجـد
ـ بيت حوى من كــل علم زهـــرة
وأعــــز كل مـــاجد وممــــــــجد
ـ أضحت تلاحظه الــبدور تأدبـــا
ومن الحياء تروم أعلى مقــــصد
ـ أزرت بتاج للعقيــــــق كأنـــــها
حصباء در في الثرى من عسجد#

وبجرد عناصر الطبيعة في هذه الصور الشعرية نتبين مدى افتتان الشاعر بهذا المكون في حمله للدلالات وفي أدائه للمعاني: - نور - الإصباح – السناء - الشمس - الضحى - لؤلؤ - عرصات - الزهر - السماء - الليالي - زهرة - البدور - حصباء - الثرى.

ويزيد الشاعر من تكثيف الصور الطبيعية حينما يلجأ إلى توظيف تقنية التشخيص، فيسقط بعض الصفات الإنسانية على الطبيعة، ويبث فيها الحياة والحركة والأحاسيس. وبذلك يتقاطع المعجم الطبيعي مع المعجم الإنساني، وتزداد الأفكار وضوحا وبيانا، كما تزداد الصياغة جاذبية وإثارة ومتعة. مثال ذلك ما ورد عن الأديب موسى الناصري :[الكامل]

ـ ضحك الزمان وأشرقت أيامــــــه
والبدر حل بأسعد لم تعـــــهد
ـ وبدا الربيع بوجهه متبســـــــــما
بضواحك من نرجس وزمـرد
ـ وتبسمت خضر الرياض وزهرها
من أبيض ومعصفر ومــــورد
ـ وتزخرفت أزهاره وتمايـــــــــلت
أغصانه بكتائب من عسجـــــد
ـ والشمس تنظر من خلال شعاعها
وعساكر من لؤلؤ وزبرجـــد#

وهكذا تصبح الطبيعة كائنا حيا يتفاعل مع الأحداث، وينفعل بها ويشارك في سياقها. ومما يزيد من تضخيم هذه الصورة الطبيعية إشراك الواقع الحربي في بناء المعنى وفي التعبير عن الفكرة، وهكذا تشارك (الكتائب والعساكر)، وكأننا في سياق استعراض عسكري منظم، ولكن جنوده من نوع خاص، من بنات الطبيعة ومن رحم البيئة الجميلة التي تحيط بالشاعر وتسحر عينه وتأخذ بلبه: - كتائب من عسجد - عساكر من لؤلؤ و زبرجد

ونجده يكثف من المكون الطبيعي في سياق الرثاء. فتصبح عناصر الطبيعة معادلا موضوعيا للشاعر، تحس بما يحس به وتشاركه آلامه وعذابه، لأنه أفرغ فيها جزءا من روحه، وأسقط عليها صفة الإحساس بالألم :[الكامل]

ـ تبكي عليه أحبة ومشــــــاهــــد
ومنازل وســـائر البلــــــدان
ـ والأرض منه أصبحت مقــبــرة
وتوقعت للظلم والخـــــــذلان
ـ وكذا المجالس كلها مهجــــورة
لا تبتغي ومدارس الـــــقـرآن
ـ وكذا النجوم في السماء تكـدرت
والكسر حل بأطراف الميـزان
ـ ومحاسن الدنيا تقول بأســــرها
أسفا عليه بسائر الأركـــــــان
ـ وكذا الربيع وزهره وزهـــــــده
وروضه وخضرة الريحـــــان
ـ وترنم الأطيار تحسب أنـــــــهــا
أصوات ساج مطرب الألـحان
ـ وترقرق الماء الزلال على الصفا
والدر والياقــــوت والمرجـان
ـ متغيرا عنه الجمـــــيع بفــــقــده
يبكي شبيه شقائق النعــــمان#

هكذا نلاحظ أن خيال الشاعر لا يحلق بعيدا، ولا يبتعد كثيرا . فهو يطير على مقربة من الأشياء، ويحوم حول عناصر الطبيعة، فلا يزيد على تشخيصها وإنطاق صامتها وتحريك جامدها. إنه يستعير ولا يخلق، ويغير وظائف العناصر ولا يفجر المعاني. فصوره- في الغالب- تتراوح بين الإيحاء والتقرير، تارة تعمل على تعميق أثر التخييل، وتارة لا تزيد على اللعب بالكلمات بشكل مفتعل لا أثر فيه للجمال التعبيري، إلا ما كان فيه من تشخيص أو استعارة أو تشبيه. ونحن إزاء هذه الصور الطبيعية لا نستطيع الادعاء بأن ما ورد منها يحمل وسام الأصالة والتميز. كما أننا لا نجرؤ على القول بأنها استطاعت أن تكسر أفق انتظار القارئ، أو تحدث الأثر الجمالي وتصيب القارئ بالدهشة والذهول.

ومن مثل ذلك ما نلمسه في قصيدة للأديب إبراهيم الهشتوكي(ت1136) في رثائه لأحمد الخليفة بحيث يستغل سياق الرثاء ليقحم العنصر الطبيعي ويستخدمه كآلية للكشف عن عمق المعاناة وحجم المأساة : [الكامل]

عبس الزمان أراه كالغضبـــان
وأرى البلاد كثيرة الرجفــــان
واغبرت الآفاق من سدف بهــا
وتلاطمت ظلم على الأكـــــوان
واستيأست الأرجاء بعد رجائها
واشتدت الأزمــات بالإنســــان
وتزلزلت أرض المغارب كلـهــا
وتكدرت بنوائــب الحدثـــــــان
إذ قد أتاها النقص من أطرافـها
بذهــاب أهل العلم والتبيــــــان
وتململت أشجارها و تساجعـت
أطيارها نوحا على الأغصــــان#

نلاحظ في هذه الافتتاحية أن الشاعر استهل موضوع الرثاء مباشرة مركزا على بيان مستوى المشاركة و التفاعل الذي عبرت عنه عناصر الطبيعة إثر رحيل الفقيد. وقد ركب الشاعر في ذلك مركب التشبيه و الاستعارة والتشخيص ليؤثث المشهد الجنائزي. فها هو الزمان العنصر المجرد يخلع عنه صفته الأصلية ليلبس رداء التجسيد و التجسيم، وليتحول إلى كائن حساس يعتريه من الغضب ما يجعله يعبس ويغير ملامح وجهه. بل إن الشاعر يجعل منه جسدا مرئيا تلاحظه العيون وتدركه الأبصار.و في الصورة تظهر التحولات العميقة التي طرأت على الكائنات من حجر وشجر ونبات وحيوان. فقد شارك الجميع في بناء نشيد العزاء، و في صياغة تراتيل البكاء، وفي ضرب طبول الأسى و الشجن. حتى اكتسى الكون بلون العتمة وتلحف بسحب الكآبة. فالبلاد ارتجفت حزنا و أسفا،و الأرجاء استبد بها اليأس وانفلت منها حبل الأمل.وتكدرت الآفاق وارتدت لباس الحداد . أما الأرض فقد فقدت توازنها وأخذت تميد وتهتز وتترادف نبضاتها محدثة رجة في الكون وهزة عنيفة امتدت ذبذباتها مسافة طويلة بعد أن فقدت جزءا منها ،وأصابها النقص برحيل الفقيد. أما الأشجار و الأطيار فقد انضمت إلى جوقة النعي مرددة سنفونية الرحيل . فالصورة الطبيعية ، في هذه الأبيات ،كان لها دور هام في ترجمة التجربة الشعرية و التعبير عن مشاعر الذات، إلى جانب وظيفتها التزينية خدمة للمعنى العام.
وعلى نفس المنوال يؤثث أحمد بن موسى الناصري فضاء إحدى مقدمات قصائده متسلحا بترسانة عتيدة من عناصر الطبيعة. وفيها تظهر قصدية الشاعر في تكثيف الأدبية في هذا المستوى من النص ،وفي تحقيق شعرية التشكيل الأسلوبي . بحيث راكم الصور الطبيعية بما يستطيع به أن يمتع المتلقي ويضمن تفاعله وتجاوبه.

هب النســــيم مـعطــــــــر الأردان
و الـدوح يـــرفل في حلى الألوان
والروض يضحك من بكاء غمامـة
حـــنت لإلــف عندمـــا لقيــــــــان
والمـــاء من تلك الأباطح و الربـى
ينســـاب كالنضناض في الجريـان
والزهــــر فوق زبرجد من سنـدس
نشـــــوان يرقص و الطيور غوان
و الـــورق حيت بالأماني و بشرت
بالسعــــد و الإقبــال و الرضــوان
وغنـت ورنـت بالقــريض ورجعـت
ببـــلاغة التــرصيع و الإرصــــان
و الغصن أملود يميــــس به الصبـا
سقيـــــا ذلك الروض و الأغصـان
رق الفـــؤاد لشجــوهــا وحنينـــهـا
وأصـــاخ ضرب مثــالث ومثــان#

وأحيانا تحضر الصورة الشعرية كمقدمة يستهل بها الشاعر حديثه، و لكنها تبقى معزولة عن السياق العام للنص أو عن الموضوع الرئيسي الذي نظمت فيه القصيدة. فتشكل المقدمة وحدة معنوية مستقلة لا تخدم السياق، ولا تساهم في إنارة جوانبه، ولا تعمل على ترسيخ مضامينه. بحيث يتعمدها الشاعر كافتتاحية، لها بعدها الفني والتأثيري، دونما ارتباط بمقصدية النص وخطابه ودلالته العامة. مثال ذلك ما بدأ به الأديب محمد الحوات العلمي قصيدته في مدح الشيخ أحمد الخليفة:

ـحدثـــــني ريح الصبــا
عن شذى عـرف عاطـــر
ـعـــن رياض تبســـمت
عن ثغــــــــور الأزاهــــر
ـعـــن عــيون تدفقــــت
عن بحــــــــار زواخــــــر
ـ إنمـــا الجــود والنـــدى
والتــــــمــاس المـــآثــــر
ـ في ذرى الرشد والهدى
في مـــــقام الأكــــــابــــر#

فهذه المقدمة- بما تحمله من صور طبيعية معتمدة على التشخيص وعلى استعارة الصفات الإنسانية- لا تخدم السياق المدحي، ولا تقدم له دعما ولا تقوي الدلالة، بل لا يتجاوز حضورها دور التأثيث بهدف تحقيق الإثارة والجاذبية للنص. فالشاعر ظل قريبا من المنظورات، لم يكلف نفسه التعمق في التخييل والإيحاء ولذلك لم تضف صوره إضافة تذكر، ولم تخلق معاني جديدة توسع من الدلالة الأصلية. فهذه الصور أكثرها قديم، وهي شائعة عند الشعراء، (فالريح التي تتحدث، والرياض التي تتبسم) هي من المعاني التي تعاورها الشعراء إلى درجة نفذت معها طاقتها الإيحائية.

إن صفة التكرارية والاتباع غالبا ما تصاحب الصورة الشعرية في التجارب الناصرية، ويدل على ذلك المعاني والصياغات التي يستعيرها الشعراء من الأقدمين جاهزة، ويعيدون إنتاجها في قوالب نظمية جديدة. فصورة (الشمس) الدالة على العلو والرفعة والمجد قد غزت الشعر العربي. فلا تكاد تجد شاعرا إلا ويستحضر هذا المعنى من خلال هذا المكون الطبيعي. وكذلك صورة (البحر) الذي يدل على الامتلاء والعظمة والهيبة والكرم والعلم. فهي صورة مكرورة ومعهودة في الشعر العربي. والشاعر الناصري- كغيره من الشعراء- عاد إلى هذا التراث، وأخذ منه هذه المعاني جاهزة، واستعان بها لرسم الصورة المثالية للممدوحين، ومن ذلك قول محمد المكي بن ناص ( بعد1184) في مدحه للأديب الصغير الإفراني(ت1156/1157):

ـ فأنت الشمس والأعلام طرا نجوم أين من نجم شموسا

ـ وأنت البحر والغير السواقي وأنت الفرد حقا لا غموسا#

ونلاحظ أن الشاعر قد سار على نهج الأقدمين في توظيفه لعناصر الطبيعة، مع اصطناع تقنية المقارنة و المفاضلة في سياق الوصف. وهو أسلوب تقليدي قديم، يذكرنا بوصف النابغة الذبياني لأحد ممدوحيه :

ـ كأنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
والشاعر الناصري لم يزد عن إحداث بعض التغييرات الشكلية على هذه الصورة لم تمس جوهرها أو معناها. بل ظل يحوم حول تخوم الصورة الموروثة، وبذلك ضاع صوته، وذابت هويته الإبداعية.

وإلى جانب استثمار المكون الطبيعي في بناء الصورة الشعرية، نجد الشاعر الناصري يوظف العنصر الإنساني مشخصا في صورة المرأة. بحيث تتحول المرأة إلى رمز للتعبير عن بعض المعاني في سياق شعري ظاهره الغزل ولكن باطنه وحقيقته بعيدة كل البعد عن هذا المقصد. واستحضار المرأة كرمز، ليس بالأمر الجديد عند الشعراء، وإنما هو من الوسائل الفنية التي توسل بها السابقون للتعبير عن أفكارهم ورؤاهم ونظرتهم إلى الحياة والكون والوجود. فصورة المرأة، قد هيمنت في الشعر القديم،وغزت جل التجارب الشعرية في كل العصور. كما اقتحمت الشعر الصوفي على وجه الخصوص. بحيث جنح الصوفية بصورة المرأة في اتجاه آخر؛ اتجاه وجودي باطني إشراقي عرفاني. ترمز فيه المرأة إلى الذات الإلهية العلية. وتمثل صورة الجمال المطلق والجلال المهيب الذي تهيم فيه النفوس، وتغيب في حضرته العقول. "فالمرأة في المنظور الصوفي مظهر من مظاهر الكمال الإلهي، وقبس من جماله وجلاله باعتبار الجلال في الجمال والجمال في الجلال، وفي نفس الوقت إن المرأة في الشعر الصوفي رمز يوحي ويدل على الحب الإلهي، يعتمد في تأليفه على الغزل الإنساني، وقد تم التعبير فيه عن العشق في طابعه الروحي من خلال تلك الأساليب الغزلية الموروثة بعد أن تم تكوينها ونضجها الفني"#.

لكن الشاعر الناصري لم يجرؤ على الخوض في أنهار الحب الإلهي أو السباحة في عالم الإشراقات الروحانية باستثناء ما كان لأحمد التستاوتي واليوسي. ولذلك ظلت الأشعار الناصرية الخالصة بعيدة عن الشطحات الصوفية والمقامات العرفانية.

لم تصل صورة المرأة إلى هذا المستوى من التمثيل والرمزية، وإنما ظلت محاصرة بجاذبية الحياة المادية، مشدودة إلى الواقع ومرتبطة به. فالمرأة ـ مهما كانت رمزيتها عند الصوفية ـ لم يتجاوز حضورها في الشعر الناصري ما ترمز إليه مما في حياة الناس، فهي قد ترمز إلى الأرض، وإلى ما فوق الأرض. إنها رمز للجمال والإثارة، وعنصر حي وخصب يغري الإنسان ويسلبه عقله وتوازنه واتزانه. ولشدة تعلق الشاعر الناصري بالمرأة، ولمكانتها الكبيرة في فكره ووجدانه، كانت صورتها تتراءى له في مظاهر الحياة، وكان جمالها يتجسد في كل المرئيات. ولذلك تسربت إلى أشعارهم لغة العذريين، واستوطنت فيها تعابيرهم و أسالبيهم. فنجد الشاعر يتسلح بالقاموس الغزلي ليناور في حلبة الغرام، بدون أن يكون السياق تجربة غرامية أو لحظة عشقية واقعية. ولكن الشاعر يجد في استخدام المعجم الغزلي متنفسا له لإفراغ مكبوتاته العاطفية، ولممارسة عملية التعويض النفسي. فإذا كان التصريح بالغرام والعشق داعيا إلى اتهام صاحبه، وإلى التقليل من مروءته وعدوليته في المجتمع المحافظ. فإن توظيف لغة الغزل ترميزا وإشارة وتلميحا، كان أمرا مقبولا عند الفقهاء والصوفية على حد سواء. بل إن منهم من توسع في هذا الباب، واستغل هذا الترخيص فوصل بشعره إلى مستوى الغزل المادي الشهواني#.

ومن مظاهر حضور المرأة كعنصر فني لتشكيل الصورة الشعرية، ما ورد عن الناصريين من توظيف لهذا العنصر البشري لتجسيد جمال الإبداع ورقته. بحيث تتحول القصيدة إلى امرأة جميلة تتصف بكل أوصاف الحسن والبهاء. فيسقط الشاعر الأوصاف التي درج عليها العذريون في وصف معشوقاتهم، ويستعيرها لوصف القصيدة الشعرية. فيكاد القارئ يحار في تحديده لجنس الموصوف وحقيقته. بحيث تختفي القصيدة، وتغيب معالمها، لتفسح المجال لصورة المرأة بكل ما تتصف به من أوصاف الجمال والكمال والدلال والتغنج، وتحضر عبارات الشوق والمحبة والوصال والهجر والبين والقبل والثغر. فيتحول السياق إلى الغزل في بعديه الحسي والعاطفي. من ذلك ما نلمسه في وصف الأديب أحمد بن موسى لإحدى القصائد :

ـ أهلا بـــــها غادة حســــــناء لابســــة
ثوب المحاسن تحكي البدر في الظلم
ـ زفت إلينا ضحى تزري بشمس ضحى
تخــــتال في حـــلل تخــــطو بلا قدم
ـ أحيت صبابة مشــــتاق بـــــزورتـــها
وأنعــــشته بلـــثم ثغــرها البـــــسم#

والشاعر في هذا الوصف لم يصدر من فراغ، ولم يبدع من عدم، وإنما كان له مرجع يستند إليه ويوجهه في هذا الاتجاه. فقد تعود الشعراء على مثل هذا النوع من الاستعارة التي تنقل القارئ من سياق التقريظ إلى سياق الغزل، ومن الحديث عن الفن والإبداع إلى الحديث عن العشق والغرام. وكان للشعراء المغاربة مشاركة في هذا النوع من التعبير. من ذلك ما ورد عن الأديب علي مصباح الزرويلي (ت 1150) في إحدى مدائحه :

ـ وبين يدي نجواي قدمت غادة

خرودا عليها دون فكر الورى حجب#

وكقول الأديب ابن زاكور (ت : 1120) :

ـ خذها على رغم العدا غادة
لفعــــها الصدق بأقبيته
ـ خود زهت إذ بشرت بـــكم
ولفـــــها المجد بأرديته

وقوله أيضا في قصيدة أخرى :

ـ أتتك مهاة كالعروس جـــــــــليلة
ومدحك كالعقد الثمين بجيــــــدها
ـ وشكرك سحر جال وسط جفونها
وذكرك خال فوق صحن خدودها

وقريب من هذا الاستعمال نجد الشاعر الناصري يوظف صورة المرأة في سياق التقريظ، كقول أحمد بن موسى : [الرمل]

ـ بنت فكر قـد أتتــــني زائـــرة
ذات حسن ودلال ووشــــــاح
ـ أما والله سبــــاني حســـــنهـا
لحظها في القلب رمح وصفاح
ـ ومحياها صبـاح مــــــــــسفـر
بين ليل حبذا ذات الصــــــــباح
ـ وجبين كالضحـى طـــــلـعتـــه
ورضاب عســـل مســــك وراح
ـ ثغرها الأشنب وضاح اللمــى
فرد عــــقد جوهـــر وأقــــــــاح
ـ ولها سهم كحــيل صــــائــب
قوسه الصدغ سريع في الجراح
ـ وجنتـــاها جلــــنـار حـــاشــا
خدها الوهاج ورد في انــــفتـاح
ـ عــبرت بحــر معــان وأتــــت
لؤلؤ الفيروزبـــادي والصحــاح
ـ أقبلت في حلة مـن رفــــــرف
تتهـــادى بين أزهـــار البطـــاح
ـ طرر الحسن علـى وجــنتـــها
يشي بالســـعد علــى الأقــــاح#

فلولا بعض القرائن اللفظية، مثل (بنت فكر)/ (عبرت بحر معان) لما استطاع القارئ أن يتبين حقيقة الموصوف أو جنسه. فهذه الإسقاطات الأنثوية الكثيفة تدفع القارئ إلى ممارسة عملية فك شفرات النص والتسلل بين فجواته و بياضاته حتى يصل إلى البنية العميقة المتوارية خلف ذلك الستار الاستعاري. ومثل هذا التوظيف المغلق والمغرق في الرمزية والغموض هو ما يحقق للنص أدبيته ، وهو ما يضفي عليه الجمالية. فتلقي هذا الأثر الأدبي من شأنه أن يثير القارئ و يستفزه ويكسر أفق انتظاره. وذلك لما يسببه من توتر لحظة التلقي، ولما يترتب عنه من مسافة جمالية بين الأثر وقارئه. ولن يتم تقليص هذه المسافة إلا بممارسة لعبة التأويل،وقراءة ما بين الكلمات والأبيات، و الوصول إلى المسكوت عنه. فالقارئ يجد نفسه مطالبا بالمساهمة في إنتاج المعنى وفي مطاردة الدلالة.

وللأديب موسى الناصري أيضا مشاركة في هذا الأسلوب الوصفي/الرمزي، بحيث يجعل من صورة المرأة أداة استعارية لبناء العالم الجمالي لتعبيره الشعري. ومن ذلك قوله في إحدى قصائده:

ـ ها مدحتني لفت حياء وجهها تبغي القبول وأخذها منك باليد#

فجمال المرأة وحياؤها من العناصر التي كانت تثير الرجل دائما، لكن الشاعر له رؤية خاصة، وذلك حينما يرى هذا الجمال يتجسد في الأشياء، فلا يجد طريقة للتعبير عنه سوى استحضار المرأة كرمز لتكثيف المعنى وتفجيره في ذهن المتلقي. ولاشك أن في إسقاط صفات المرأة على القصيدة بعض من الخيال الجميل، كما أن فيه إشارة معبرة عن صورة المرأة في ذهن الرجل التقليدي بحيث يراها مجسدة في كل ما يحيط به ، تطل عليه من كل زوايا واقعه المادي.


مشاركة منتدى

  • السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .
    بداية يسعدني أن أتقدم لسيادتكم ببالغ الشكر و التقدير على مواضيعكم القيمة و خاصة المتعلقة بأدب الزاوية الناصرية، نظرا لما تحيطون به الموضوع من شمولية لكل الجوانب ، و باعتباري طالبة باحثة فإنني ألتمس منكم التزود ببعض خبراتكم بهذا المجال و ذلك بمدي بأسماء الكتب و المراجع التي تحوي الشعر الناصري و ذلك لغرض ضروري .
    و كلي أمل في تقديمكم يد المساعدة للطلبة الباحثين في أدب الزوايا.

    • وعليك السلام
      أرحب بطلبك .و أخبرك أن التراث الشعري الناصري ما يزال في بطون المخطوطات في بعض المكتبات المغربية العامة و الخاصة. وقد أنجزت دراسة للشعر الناصري ستصدر في كتاب في القريب العاجل بعنوان :الخطاب الشعري في أدب الزاوية الناصرية. وضمن هذه الدراسة ستجدين المصادر المخطوطة و المطبوعة المتعلقة بالموضوع.و أما التعاون بيننا في موضوع أدب الزوايا فإني رهن إشارتك يكفي مراسلتي على بريدي :cheddad212@gmail.com

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى