الخميس ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم أحمد حمادي

عودة إلى الحقيقة

"نهايةٌ مُسالمة، هل هذا ما أردته فعلا؟ "كان وجهي مقابلا لسحنة أعرفها جيدا، لطالما ارتسمت معالمها بين ناظري ولكنّها تبدو هذه المرّة عابسة، شاحبة ومهزوزة.كُنت أنظر إلى نفسي المُرتسمة على الزّجاج..كُنت أكلّم ما انعكس منّي على تلك اللوحة الشفافة الساحرة التي لطالما أرتني حقيقتي، أو هكذا ظننت! ما رأيته لم يكن أنا، كانت فتاة أخرى لم أدرك وُجودها بداخلي طيلة تلك السنوات..عُيونها كانت أسطرا كثيرة نطقت فقط لتلومني، أغنية خريفية ذكّرتني بترانيم الهجرة والرحيل.

لدقائق كثيرة دارت معركة ضارية بيننا، من قال أنّ لغة العيون بيانٌ منقطع النظيركان يعلم ولا شك أن مُخاطبة النّاس أنفسهم خلف المرايا ليست بحماقة بل هي حاجة مُلحّة عندما لا يجد المرء من يستطيع أن يتجرّد أمامه من نواميس التملّق وكمال الفهم. مثلي أنا مع استثناء بسيط. في الماضي، كُنت أقابل نفسي كل صباح بوجه مُشرق..كان لقاءا مُفعما بالشوق لشابة في السابعة عشرة من العمر تمنحها المرايا دفعات متزايدة من الغرور والثقة. اليوم، كُنت أخشى اللقاء..لأوّل مرة في حياتي شعرت بأن الجبن أحد صفاتي. كذبت تلك المُدّعية عندما حجبت عنّي الحقيقة الكاملة، أو ربما أنا من منعتها!

أطلقت زفيري في وجه من تُشبهني فاختفت لتحل محلّها لطخة بيضاء باهتة، كرّرت الفعل لأمنعها من الظهور ثانية. شعرت ببعض الراحة، بوّابة الأنفاس كانت آخر أسلحتي.. وقد فُزت أخيرا.

"لقد كدنا نصل يا سيدتي "قال صوتً مألوف من مكان قريب.

التفتُّ نحو اليمين لأرى امرأة متوسطة العمر تنظر إليّ راسمة ابتسامة مُصطنعة. لنصف ثانية، لم أدرك من تكون ولا ما أفعله أنا في ذلك المكان. استعدت نفسي بعدها، رددت إليها ما ارتسم على شفاهها وبيد متردّدة مسحت آثار بخار الماء من على زجاج النافذة المستديرة.
كمن ينظر إلى نهايته، رميت بصري مستعينة بنصف استقامة من على الكرسي المُريح. كان المشهد بعيدا، لكنّه أرعبني.. تلك القطعة الحمراء النابضة بدواخلي صاحت: "(أليكس) "
إنها الثامنة والنصف مساءا، صوتُ الكعب العالي للمُضيفة كان يستفزّني. لا أدري لما تنتعل امرأة تُمضي نصف عمرها بين السّماء والأرض حذاءا تحتاجه عارضة الأزياء لإبداء الجاذبية؟ حاولت صرفها مرارا، أخبرتها بأنّني لا أريد شيئا مع عبارات شُكر مُتورّمة ولكّنها كانت تعود كلّ مرّة تسبقها تلك النغمة اللعينة التي تجعل قلبي يدق بسرعة.

"إنهاّ تخطف الأنظار "قالت (صامارا)، المرأة الجالسة بجواري.كانت في الأربعين،سيدة آسيوية عكفت على تربيتي مذ كنت بطول شُجيرة الفاصولياء.
"عفوا؟ "

"القلادة "

تحرّكت يدي لا إراديا لتُمسك بالعقد الذّهبي المُعلّق حول عنقي، أمعنت النظر في وجه مُربّيتي ثم ّحرّكت رأسي قائلة:

"هل عذّبتني من أجل النظر إليه، كيف لم أنتبه إلى هذا ؟ "

"ألا يستحق ذك؟ أليس هذا عقد (أليكس) الذي لا يُقّدر عندك بثمن "ردّت (صامارا) بسؤال آخر.

قربّت فمي نحو أذنها وقلت بتهكّم مُغيرة الموضوع بعد أن لامست بياض وجهي بُقعٌ وردية: "ألا أستحق أنا بعض الهدوء قبل أن تقع هذه الطائرة جرّاء ضرباتها المنبهرة على الأرضية ! "
سُمعت ضحكة مكتومة أطلقتها المُربّية ثم ساد الهدوء المفاجئ دليلا على أن المُضيفة النحيلة قد دخلت قُمرة الطيّار. السكون الجميل ذاك كاد يُغرقني مجددا في سديم المعاناة..سديمٌ لا يشبه أبدا ما يتراءى لي في الخارج حيث كانت الغيوم الهزيلة تتناثر هاربة في كلّ مكان.

"تأكّدوا من ربط الأحزمة من فضلكم ، ستبدأ الطائرة في الهبوط "علا صوت المُضيفة لا طقطقة نعلها هذه المرّة مُعلنا انتهاء الرحلة الجوية من الولايات المتّحدة الأمريكية إلى الجزائر.
لم تمضِ إلاّ بضعُ دقائق،عندما أحسست بانهيار سفينة الفضاء نحو الأسفل. قوةٌ جاذبة تجعل القُشعريرة تدبُّ في كامل الجسد..ضغطٌ يُحاول تفرقة الأشياء عن بعضها، ألِهذا يُنصح بإستعمال الأحزمة المشدودة؟ لوهلة جالت بخاطري فكرة مجنونة، خلت بأن ماضيّ يهرب منّي، ذلك الاهتزاز المُتواتر للطائرة يجعله ينشق عنّي ليرجع إلى موطني بالتبنّي. قلت في نفسي محاولة إنقاذ هُويّتي: "أنا (مُنى) ولدت في (كاليفورنيا) لوالدين ثريين من أصول جزائرية..مُسلمة، أحبُّ ديني و تراث بلدي ولكنّي أحب الولايات المتحدة أيضا ". قلت الكلمات الأخيرة بصوت خافت، شعرت بخشية ما كمن تخون وطنها. لم أستطع تحديد ماهية إحساسي وقتها..فعلا لم أستطع!

نظرت من خلال نافذة الطائرة فيما لامست يدي كفّ (صامارا) التي قبضت عليها بإحكام كأنّها تعرف ما بي من ألم. ظهرت صورة تلك الفتاة البائسة مجددا على الزجاج. نظراتها المليئة بالتأنيب زادت من حدة حيرتي وخوفي. أبي اتخذ قراره بأن يجعلني أعود إلى الجزائر في محاولة منه لترسيخ الوطنية في. أمّي،استقبلت قراره بإيماءة لا مُبالية فرحلتها إلى باريس لحضور عرض أزياء الربيع لهذا العام كانت أهمّ من أن تُتعب عقلها المحشو بالأقمشة وتحددّ موقفها من مصير ابنتها . تمّت عملية نفيي بسريّة تامة..استسلامي كان مُهينا بعد قفزات هستيرية وصرخات لم يُكتب لها الفلاح أمام أبٍ جد صارم يعاني من مرض يسمّى: حب الولد الوحيد !رحلة دون وداع، دموع كثيرة و شعورٌ بالمرارة هو ما تلا ذلك...

حطّت الطائرة أخيرا، استقرّت بعد طول حراك لأبدأ أنا رحلة اللاّستقرار. لم الكذب ! أنا لا أحب هذا البلد، أرى فيه كل أنواع المعاناة..أعي جيدا بأن النّاس به سينظرون إلي كما ينظرون إلى (جوليا روبرتس)، شابة تصلح لتكون فُرجة كأنّها أتت من كوكب ثاني. لا يمكنني بدءُ حياتي من جديد، يبدو الأمر صعبا للغاية حتّى بالنسبة إلى فتاة عُرفت بقوة شخصيتها وحدّة ذكائها!
الرّحلة من الطائرة إلى ما وراء المطار كانت بمثابة تحيّة استقبال باردة، لقد أحسست بأنّي المسافرة الأكثرة شهرة في العالم أو هكذا هُيئ لي، الجميع كان ينظر إليّ. (صامارا) زادت الطين بلّة باهتمامها المُفرط بي.. "سيدتي، انتبهي إلى خطواتك فالأرض زلقة "، "سيدتي الصغيرة دعيني أُعدّل ربطة شالك "، "سيّدتي المُوظّف يطلب جواز سفرك ". أوَ حتّى مُربّيتي تظن بأنّ العالم الجديد الذي رُميت إليه جعل عقلي يخف و حواسي تتضارب كطفلة رضيعة! أيُعقل أنّها ظنّت بأنّني لا أستطيع التفريق بين جواز السفر وتذكرة المقعد؟

وصولنا إلى السيّارة كان بمثابة نسيم بارد داعب حرارة الخجل الذي أحرق صدري. عشرون دقيقة، كان الوقت المطلوب للوصول إلى منزل والدي بالجزائر العاصمة.

تاركتاً المُربية تؤدّي عملها في نقل الأمتعة إلى (قلعة والدي)، دخلت ذلك المبنى الضخم. كنت أودُّ، ومنذ البداية، عقد صفقة مع جدرانه الباردة. لا أريده أن يكون فُندقا أعود إليه كل يوم لأمارس طقوس السُبات..كنت أريده أن يكون ملجأي الدّافئ، أذنا تُنصت باهتمام وفما يواسيني عندما أبدأ معركتي مع العالم الخارجي. كمن يعرف المكان جيدا، صعدت الدّرج المرمري لأصل إلى الطابق الأول. اخترت غرفتي بعناية، كانت تُطلّ على مسبح جميل جاورته شجرة بلوط متناهية في الطول. لن أنكر هذا، لقد شعرت بالرّاحة والأُنس..شعور غريب، لكنني استمتعت به!

"هذه أمتعتك سيدتي، هل أحضّر لك شيئا تأكُليه..لا بُدّ أنك جائعة؟ "قال صوت (صامارا) بعد طرق خفيف تلاه انفتاح حاد للباب.

"لا أمل "قلت في نفسي، مُربّيتي تُحب عنصر المفاجأة فلطالما أفزعتني بصفق الباب بانفعال. أود فقط معرفة سر طرقها اللّطيف الذي يتبعه دوما صخبٌ مُضاد!

"شكرا (صامارا)، أريد فقط أن أخلد للنوم "قلت بصوت مُسموع هذه المرّة مع نظرة عتاب واضحة.

ودعّتني المربية تحت نغمات إغلاق مُحكم للباب مُتمنية ليلة سعيدة وهادئة!

بدّلت ملابسي بعدها، أرحت عيناي بمنظر القمر المُكتمل الذي كان قد أشار إليّ بأصابعه المضيئة وحثّني على إرضاء غرروه بتوجيه بصري نحو جسده المُنير.

"تغيّر كل شيء، لكنّك يا سيدي المضيء لم تفعل، كأنّك تبعتني من حيث أتيت! "قلت في نفسي ثم استلقيت على السرير وجعلت أكتب مذكّراتي ككّل ليلة.

(أليكس) ، "إنّها بداية جديدة، قد تكون مُخيفة ولكنّي سأكون بخير. رغم كلّ شيء، لازلت أطمح لأكون الأفضل..يجب أن أكون، كم اشتقت إلي مدينتي ".

كانت خُصلات شعري الأسود الحريري تمتطي ظاهر الوسادة التي بدت بقعةٌ منها داكنة، بعيون نصف مفتوحة هاجمتها كتيبة من سهام الشمس الطائشة، استفقت. احتجت إلى بضع ثوان لأُجيب على الأسئلة الأساسية: من أنا؟ أين أنا؟ ماذا أفعل هنا؟ لا أخفيكم، تمنّيت لوهلة أن أغفو من جديد دون ميعاد للاستيقاظ. بعضُ الدّموع اللّعينة فاجأت مقلتيّ، انسابت على خدّي فاضحة جوانحي لتسقط على تلك البقعة الداكنة فوق الوسادة. أجل، لقد أمضيت نصف الليلة الماضية أبكِ..سأكذب هذه المرّة وأقول: كنت فقط أريح أعصابي ! صوتُ المكنسة الكهربائية كان يُدوّي جنبات المنزل.على الأقل هناك من يستمتع هنا. رميت الأفرشة، دخلت الحمّام، حاولت تجهيز نفسي لأبدو كفتاة عادية من ضواحي العاصمة ثمّ غادرت غرفة النوم و وجهتي المدرسة الثانوية المختلطة. أملك خريطة، أوراق التسجيل وكذا سيارتي الصغيرة. كل شيء تمت تهيأته من طرف والدي..لا تستغربوا، كلّ شيء ينتهي إلاّ الدراسة ! نزلت الدّرج مُسرعة لأصل إلى الطابق الأرضي. استقبلت الباب الخارجي، فتحته وهممت بالمغادرة.

"سيدتي، ألن تتناولي إفطارك..أنت لم تأكلي شيئا منذ البارحة ! "قالت المُربّية (صامارا) من مكان ما بعدما أطفأت المكنسة.

"لا أشعر بالجوع "

"سيدتي! "

"حسنٌ..قليلا "قلت بعد أن رمقتني المربية بنظرتها الكاشفة لكل كذب.

تلقّفت حبة تُفّاح كانت قد رمتها (صامارا) باتجاهي بعد أن رسمت ضحكة خفيفة على شفتيها وقالت:

"لقد اتصل والداكِ، يقولان بأنّهما سيزوران الجزائر في أقرب وقت ممكن "

"لا أستطيع الانتظار ! "قلت ساخرة بصوت غير مسموع ثم صفقت الباب ورائي كما تفعل مربتي مغادرة المنزل.

إنها الساّبعة والنصف صباحا، لقد أردت الوصول إلى المدرسة قبل الجميع. لم أرغب أن أكون آخر الواصلين. الإحتمال الأخير يعني حشدا كبيرا من العيون الفضولية. (الفتاة الأمريكية الجديدة)، إنّه خبر سيتصدّر ولا شك عناوين الأحاديث المدرسية. ركنت سيارتي المكشوفة خارج أسوار الثانوية، لم يكن العثور عليها صعبا فقد كانت المسافة الفاصلة بين منزلي وهي جد قريبة. ضامة كتبي، اتجهت نحو السّاحة العامة قاصدة المبنى الإداري، كلّ ما اختزنته من شجاعة ذاب بسرعة. كل مُخططاتي باءت بالفشل. جميع الطلبة كانوا هناك، هل علموا بميعاد قدومي يا ترى ! متجاهلة النظرات المُلتهمة، سرت وسط الحشود واستطعت مقابلة المديرة وإنهاء مُعاملات التسجيل. كم كنت أطمح في أن تمنحني ذات الوجه الصارم يوما آخر من الراحة، كنت أظن بأنّها ستتملّقني كوني أمريكية الجنسية. الظالمة، لقد أماتت تلك الأمنية بقولها: "اذهبي إلى صفك آنستي، ستجدينه في المبني (أ)، لديك الآن على ما أعتقد درس الفيزياء ". لم يكن صعبا الوصول إلى الفصل، الشيء الأصعب كان الوُلوج إلى قاعة الدّرس. لقد دخل زملائي والتزموا مقاعدهم كما بدأ الأستاذ في الشرح، كيف يمكنني الدخول الآن !
استغرق القرار الصعب بعضا من الوقت، ولكنّي استجمعت بعدها ما ملكته من شجاعة، طرقت الباب ودخلت. لم أكن أشعر بسيقاني، كل ما شعرت به هو دقّات قلبي المتسارعة. بعد التحية، توجّهت ناحية المُدرّس وسلّمته بطاقة اعتمادي في الثانوية مُتمنية أن يرسلني مباشرة نحو مقعدي. لم يفعل هو الآخر ! أخذ يُعرّفني إلى زملائي مفتخرا بانتسابي إلى صفّه. الجميع كان ينظر إليّ بدهشة كما توقّعت تماما. "لا تُتعب عيونك، قامتي هي متر وسبعون "قلت في نفسي مخاطبة شابا كادت مقلتاه تخترقني. "شعرٌ أسود أصلي وعيون خضراء "رددت على أنظار فتاة مسحت مُحيطي طولا وعرضا. "إلى ما تنظر، إنه ثوب مدرسي مُوحد! "تكّلمت بغضب وفتاً يضعُ عدسات طبية يرمقني بعيون تنظر في اتجاهين مُختلفين. التزمت مقعدي قُرب النافذة بعدها وأنا أشعر بأنّني السّبورة فالجميع كان يقتنص الفرص للنظر نحوي. لم يكن ما قاله المُدرّس مُهمّا بالنسبة لي فقد تخطّيت هذا المستوى قبل سنتين. بصري كان متجها نحو ملعب كرة القدم حيث كان الشباب يُمارسون رياضة الركض. أجسامهم المتعرّقة المُحترقة كانت تُنبّهني إلى ما آل إليه جسدي المُكتوي بالحياء والخجل.

دقّت السّاعة العاشرة صباحا، موعد الراّحة قد حان. كنت قد حضرت حصّتي الفيزياء والعلوم. لقد أجبرني مُدرّس علم الأحياء على قراءة أسماء المناطق المختلفة لقلب الإنسان. لقد أثنى كثيرا على معلوماتي ولكنّي لم أكن سعيدة فقد ساد السّكون القاعة كأنّ الطّلبة كانوا يتوقّعون أن يصدر عنّي صوتٌ غير آدمي أو ربما استغربوا إتقاني للّغة العربية ! حاولت تجنّب الجميع خلال الفسحة، انزويت إلى خلف مباني الثانوية حيث وجدت مقعدا خشبيا ضمن لي بعض الراحة والخصوصية. غرقت في التفكير، تذكّرت أصدقائي، ثانويتي، أساتذتي..استشعرت كيف أنّ العفوية تولد مع الاستئناس والتعوّد، أنا أشعر اليوم بأنني متملقة، مُدّعية و مُتصنّعة. كم أبغض هاته الصّفات وهذا المكان ! مرّت بضع دقائق من الحسرة المصحوبة بطقس مُغيم انقشعت ضبابيته بعد أن تسلّل إلى أذناي صوت شجي، لحنُ بيانو غاية في الروعة.استقمت من مكاني دون وعي كعصفور شدّه تيار ريح منعش. أوصلتني خطواتي الحذرة التائهة إلى مبنى قديم تهالكت جُدرانه جرّاء حربها ضد الزمن. وقفت أمام الباب الكبير، فتحته و ألقيت ببصري نحو الداخل.

كان هناك شابٌ يجلس إلى آلة بيانو كبيرة، عزفه كان شاعريا..أخذني بعيدا، نغماته النقيّه لامست أعماقي، جعلتني أشعر بنشوة ثائرة. لم أشعر بنفسي إلا وأنا أصفّق بحرارة بعد أن أنهى مقطوعته السّاحرة. كم كنت غبية ! لقد التفت إليّ بسرعة فتسمّرت في مكاني واحمرّت وجنتاي خجلا ثم قلت: "مرحبا ! عذرا على التطفّل "حاولت الفرار بأقصى ما أستطيع لكنّ صوته ناداني قائلا: "هل أعجبك عزفي؟ "كان سؤالا أم ماذا؟ صوته لم يختلف عن عزفه، كان رقيقا وطيّبا، مُسالما أبعد عنّي ما رسمته من أحكام مسبقة عن صوت الرّجل العربي الخشن. مُلبية من دون فرصة للاعتراض، رجعت أدراجي لكنّني أبقيت فمي مُغلقا حينها أضاف الشاب: "هل أنت جديدة هنا، لم يسبق لي وأن رأيتك؟ "

أجبت: "أجل، اسمي (مُنى) "كانت كلمات قليلة لكنّها نفذت بعد جهد. أتعرفون لماذا؟ لقد سأل سؤالا جعلني أعود أدراجي إلى الخطوة الأولى..مرحلة التعريف بنفسي ! مانطق به بعدها جلعني أراهن فعلا بأن بعض أحكامي المُسبقة عن نمط تفكير الجزائريين كانت خاطئة. لقد قال: "أعرف بأنّ آخر شيء تودّين القيام به هو التعريف بنفسك لكل من تلتقينه، إنه فعلا شيء يدعم تشنّجات المعدة. أتعلمين، أنا مثلك..جديد في هذه الثانوية. أول يوم لي كان قبل أسبوع تقريبا. احتجت إلى رصد كل ذرة شجاعة بداخلي كي أندمج وسط المحيط الجديد "
"أحقا؟ "

"أجل، عليك بالمواجهة لتكسري التردّد،هناك مراحل يجب عليك تخطّيها ومتى ما فعلتِ فلن تعود مجددا "

اقتربت منه قليلا وأردفت سائلة: "ربما أحتاج إلى أشهر كي أستطيع الشعور بالثقة "
"لا تقلقي، ستغدوا هاته الأيّام العصيبة ذكريات مُمتعة، الجمال يكمن في الغرابة..التعوّد يقتل حقيقة الأشياء "

ماذا بوسعي قوله لأعبّر عن شعوري حينها..كلامُ ذلك الشاب كان يُحاكي مشاعري، لم يستطع شخص قبله التأثير عليّ بتلك الصورة..حتى أصدقائي الأمريكيين، حتى (أليكس) ! ماحدث هو أننّي كنت أجلس بجواره بعد دقيقة على ذلك الكرسي الطويل. هو كان يعزف وأنا أستشعر روعة النغمات التي تتساقط على قلبي كقطع السكر. تكلمّنا بعدها كثيرا وعرفت أن اسمه (جواد)، من مدينة بعيدة تدعي (قسنطينة)..طالبٌ مُجتهد يحمل الكثير من المواهب إلى جانب أنامل مُبدعة تُجيد مُخاطبة المشاعر. شابٌ متوسط القامة ذو شعر بُني وعيون عسلية برّاقة.لم أكن أودُّ مغادرة ذلك المبنى القديم، بل رغبت أن تنطفئ الشمس وأعود إلى المنزل مُحمّلة بتلك الثقة المُتفجّرة. لم يحدث ذلك بل انفجار باب المبني الذي انفتح انفتاحا مُدوّيا مُصدرا صوتا تُجيد (صامارا) عزفه. ظهرت من خلفه شابة متوسطة الجمال ذات شعر أسود مجنون.

"(جواد)..لا تفوّت هذا "قالت الفتاة وهي تلهث ثم أضافت باستمتاع قبل أن يفتح الشاب فمه:
" مُصارعة حقيقية، تدور أحداثها الآن في المعلب..( أركان) يتشاجر مع شاب من الصّف الثاني "

أمسك (جواد) بيدي وجّرني وراءه مُتابعا خطوات الفتاة المُهرولة. وصلنا في لمح البصر إلى الملعب الذي كنت قد رأيته من خلال نافذة قاعة الدّرس. كان هُناك شابّان يتعاركان بضراوة، كانت ثيابهما ممزقة والدم ينفر من أنفيهما. كلّ الطلبة كانوا يشاهدون وفقط لا أحد تدخّل ليُنهي تلك المهزلة..لا أحد، ولا حتىّ جواد! ليس من طبعي التدخّل فيما لا يعنيني ولكنّ الدّم فار في عروقي جرّاء ما يحدث. تقدّمت ناحية موقع الشجار عندما سمعت شاباً يقول: "ومن سيجرؤ على الوقوف بين (أركان) و (أسامة)! ". متجاهلة نداء(جواد) بالتمهُّل، هجمت على الشابين واستطعت التفرقة بينهما. من المؤكد أنني لم أفعل ذلك لقوة جسدي بل لدهشتهما الشديدة ! قلت بأعلى صوتي: "يكفي هذا، ألا تخجلان..كل واحد منكما بطول الشجرة وتتعاركان كطفلين في الروضة؟ "ساد الصمت المُطبق كل أنحاء الثانوية، الجميع اندهش وألجمه صُراخي. لا أُنُكر أنّني خفت أن يقذفني أحدُ طرفي القتال خارج حلبتهما ليستمرا في إمتاع المُشاهدين بعرضهم الصباحي ولكن فنّدت اللّحظات التي تلت مخاوفي فقد تراجع المُدعو (أسامة) وغاب بين الجموع أمّا (أركان) فاقترب منيّ وقال بتهكم: "هل أنت الأمريكية المُتحررة، هل جئت إلى هنا لنشر السلام؟ "

صدى صفعة علا وشقّ جسد الصمت، كان خدُّ (أركان) مُتورّدا. صفعته، أجل. كلامه جرح كبريائي وأهان كل ما اكتنزته من قيم. قلت والدموع تنهمر من مٌقلي: "الأحرى بك أن تنشُد السلام يا من تدّعي الوطنية، لا أنا تجعل من نفسك مشهدا يتلهّى به مُحبي الحروب..أمثالك ".

خجل هو من كلامه الفظ وركضت أنا نحو سيّارتي حاملة جرحاً غائرا وحزنا راثياً. لحقني (جواد) لكنّه لم يفلح في إيقاف تقدّمي. "آسفة "هو كلّ ما استطعت أن أقوله له قبل أن أدير مفتاح التّحكم وأنطلق آفلة نحو منزلي تاركة الشّاب الطيّب واقفا بجوار بوابة الثانوية. لم أستطع إيقاف دموعي، كل ثقتي بنفسي اهتزت، حتّى فرحي بإيجاد رجل عربي راقي التفكير لم يستطع مسح صورة نظيره المصارع. حاولت (صامارا) جاهدة رفع معنوياتي. لم تُفلح في البداية ولكنّها تمكنت من حجب بعض الحزن عنّي عندما قالت:

"لا تحكمي على ذلك الشاب مُسبقا، ربّما لديه ظروفه ومبررّاته..الأمور ليست كما تبدوا يا ابنتي "كلماتها لمست بقعة سليمة من قلبي وحوّلت تفكيري على نحو ما باتجّاه ماهية (أركان) وحياته..

كنت أنظر إلى وجه القمر تلك الليلة، كان يبدو كئيبا وناعسا لذلك آثرت تركه بمفرده. لا أدري كيف أن زاوية نظري مرّت بجوار شجرة البلّوط الكبيرة حيث ظهر تحتها ظل شخص ما. اختفى الشبح بعدها ليُخيّل لي بأنّ ما رأيته لم يكن سوى انعكاس ظل الأوراق على الأرض. تاركة النافذة، جلست على حافة السرير وأخذت أكتب مُذكّراتي:

(أليكس)، "كان أوّل يوم لي في المدرسة غريبا، لا أستطيع تحديد شعوري اتجاه ما حدث..هل فعلا أخطأت؟ غدا سيكون مختلف، يجب ذلك..سأكون مبتسمة، ابتسامتي ستقول: أنا بخير، شكرا ".

مرّت الأيام الربيعية مُتسارعة، لقد استطعت وفي فترة قصيرة أن اعتاد العيش في الجزائر، لقد ألفت مدرستي الثانوية واتخذت صديقين حميمين لي: (جواد) و ( ليالي)، الفتاة المشاكسة التي دعتنا لمشاهدة ذلك العراك البشع. خلال أيامي الطويلة، استطعت معرفة أشياء كثيرة عن حقيقة الإنسان العربي لا سيما سلوكاته، نمط تفكيره و رؤيته للأمور.لقد أبهرني (جواد) برزانة عقله كما أقنعتني (ليالي ) بقدرتها الرائعة على جعلي أضحك من كلّ قلبي. لم يحدث أي شجار ثانية، الأمر الذي كان يُشعرني بعدم الارتياح ! لقد كسبت ثقة الكُل عندما أوقفت تلك المعركة، الجميع استعمل ما حدث ليمحي من مخيلته صورة (جوليا روبرتس) القادمة من بلد الحرّيات ويرى فقط (مُنى) الشجاعة صاحبة المواقف الواضحة. مشهد التسابق لإلقاء التحيّة عليّ بات مُعتادا من طرف زملائي وكذا ذلك المشهد الضبابي لرجل يقف أمام شجرة البلوط. كل ليلة كنت أراه.. في نفس المكان.. ونفس التوقيت.

تغيّرت..استيقظت فجأة لأكتشف بأنّ معالم وجه (أليكس) باتت شحيحة في مُخيلتي ! ماذا يحدث معي؟ ذلك الحنين القاسي لم يعد يزجُرني ! لم أعد أشعر بالغربة، بت أشم رائحة الوطن، لكنّني لست في أمريكا؟

كلامُ (صامارا) عن التّفهم كان مُفيدا خاصة بعد أن علمت، بعد بحثي السّري في حياة (أركان)، أشياء دعمت اقتناعي بكلامها. لم يكن ذلك الشاب الوسيم والقوي جدا سوى فتاً يتيماً قُتل والده على يد الجيش الأمريكي في العراق، شابا يُكافح من أجل تأمين مال كاف للحفاظ على منزله المُهدّد بالهدم من طرف البلدية. فهمت على نحو واضح سخطه على الشعب الأمريكي ووصفه لي بالمُدعية. لا أدري لماذا لايزال قوله يخدش كرامتي..لا أدري لماذا أهتم بكلامه إلى هذا الحد، ألأنني أريد تفنيده أم لشيء آخر لا أستطيع الكشف عنه ! لمَ بتّ أرى (أليكس) فيه كلّما لمحته، لمَ يا ترى أودّ لو يقلل من سرعته وهو يمر بجواري كي أتفرّس في معالم وجهه وأتأكّد بأنّه ليس الشاب الأجنبي الذي كنت أعرفه..كم أنا حمقاء!

كنت أجلس ذلك اليوم على الكرسي الخشبي خلف مباني المدرسة منتظرة (جواد) الذي وعدني بتعليمي كيفية العزف على البيانو. لقد بات بمثابة أخي المُقرّب، نصائحه أصبحت بمثابة جرعات دواء تمنحني الثبات.شردت كالعادة..همت بعيدا بمخيلتي وسبحت مستسلمة لتيار حملني بعيدا. شعرت بجسد ما يُقاسمني المقعد، شممت رائحة العرق فالتفت بذعر.

"مرحبا "قال صوتٌ خشن، أحدهم تكلّم ثمّ حاول التربيت على كتفي.

لم أجب بل حملقت في شاب ارتدى قميصاً رياضياً من دون أكمام و وسروالا فضفاضاً قصيرا. لقد كان (أركان)، الشاب الذي لطالما أخذ من وقت تفكيري دقائق وساعات. لم أجبه فأضاف بصوته الرجولي الحاد:

"أنا آسف، أعتقد أنّني نلت ما أستحقه "ومسح على خدّه الأيمن. كنت واثقة بأنّه أخرج كلماته بصعوبة كبيرة، كنت واثقة بأنّه كدّس الكثير من الشجاعة ليعتذر، ربما أكثر ممّا حشدت أنا لدخول قاعة التدريس في يومي الأول..لقد أدخل كلامه البهجة إلى قلبي، لقد شعرت بغبطة لم أفهم سببها ! قاطعة عليه مسّ كبريائه مُجدّدا، قلت مُتصنّعة الغضب: "لا بأس، انسى الموضوع "

"أنا..آسف، سامحيني من فضلك "قال (أركان) بصوت بدا مُعذّبا.

"لا بأس "أجبت بهدوء.

"هل قاطعت حديثكما؟ "تكلّم (جواد) الذي وصل إلينا كظل زاحف. لقد أفزعني كلامه العذب، فقد ظننت أن (أركان) هو من أصدره..لجزء من الثانية رحت أقارن بين الصوتين وأقول: أيّهما أفضل!

"لنذهب "قلت بعد أن استقمت واقفة. دفعت (جواد) واتجهنا ناحية البناء القديم تاركين (أركان) جاثياً لوحده. مرّت ساعة بعد ذلك قضيناها أنا و (جواد) في العزف. صوتُ المطر الذي أخذ ينهمر وقتها جعل الأجواء شاعرية. صحيحٌ أنني أحببت نغمات البيانو ولكنّني كنت أفُضل لو أنهيت كلامي مع (أركان) قبل ذلك. كم كانت دهشتي عظيمة عندما رأيت هذا الأخير قابعاً في مكانه ينتظرني وقد بلّل المطر جسده بالكامل. تقدّم نحوي..وقال: "هل يمكن أن نتحدّث الآن؟ "

"إنّها متعبة "ردّ (جواد)

"وما شأنك أنت بها؟ "زمجر (أركان) وتقدّم نحوه كمن يريد عراكاً.

"فيما بعد "تكلّمت بسرعة ثم أومأت للشاب العازف بأن نتحرّك ناحية قاعات التدريس.
كانت حصة علم الأحياء مُملة، صيحات المُدرّس لم تجدي نفعا فقد كان معظم الطلاب في طور ما قبل النوم..كم أشفق على حنجرته الصارخة ! صوت الجرس كان بمثابة صافرة أنهت تشريح معنوياتهم. زحف الجميع خارج القاعة الفسيحة لأظل وحدي رفقة (جواد). نظرات المُدرس المستحسنة كانت ترمقني بامتنان، من الواضح أنه ظنّ بأنّي كنت أصغي باهتمام لدرسه !
"كيف لم تخبريني..أيّتها الأمريكية الكتومة ! "علا صوت (ليالي) من بعيد. كانت تتخطىّ الكراسي كثور هائج.

"آسفة "قالت صديقتي معتذرة بعد داست قدم (جواد) الجالس بجواري ثم صاحت مرّة أخرى: "أيتها الكتومة! "

"ماذا هناك؟ "سألت بتعجُّب ودعمت نظرات (جواد) الحائرة سؤالي.

"اليوم يُصادف عيد مولدك، هل يجب أن أكون آخر من يدري..حتى (أركان) كان يعلم ذلك ! "

"(أركان) ! "قال (جواد) وقد علت وجهه نظرات مُتّهمة جعلتني أتمنى لو تنشق الأرض وتبلعني. كبريئة مكمكمة الفم، أجبت (ليالي) قائلة: "كنت سأخبرك "

"متى..العام المقبل؟ "

"سأقيم غدا حفلة صغيرة وأنت مدعوّة إليها..لاحظي، أنت أوّل من دعوته. (جواد)، أنت أيضا مدعو "قلت العبارة الأخيرة دون أن التفت إليه، لقد خفت أن تحرقني عيونه المُتسائلة. قهقهة (ليالي) لطّفت الأجواء. لقد فرحت بالحفلة ونسيت في لمح البصر غضبها المُتدافع. كانت فعلا نموذجا طائشا للمرح. خرجنا بعدها من قاعة التدريس مستقبلين الرواق، كان معظم الطلبة قد توّجهوا نحو المطعم لملئ البطون.

"إنّها تقترب.انظري كيف تبدو، دجاجة صفراءُ شاحبة "قالت (ليالي) بعد أن أطلقت ضحكة مكتومة صدرت من أنفها وهي تنظر إلى شابة صهباء اقتربت ناحيتي مباشرة. كانت تُسمى (جنى)، رئيسة فرقة الموسيقى الخاصة بالطلبة، فتاة مغرورة وتافهة جسّدت بكل جدارة معاني تمسّك المرء بقشور الحياة.

"أتودّين استمالة كل شباب الثانوية أيّتها الغربية..ألم يكفيكِ عازف الموسيقى المخلوع من فرقتي..لا تُنكري، لقد رأيتك مع (أركان) في المقعد خلف المدرسة؟ "

"أظنّني استقلت،على ما أذكر، لأمنح فرقتكم عديمة الموهبة بعضَ المعنويات "ردّ (جواد) وضحكت (ليالي) بمرح. استشاط وجه الفتاة الشاحبة غضباً لكنّها لم تُجب بل وجّهت بصرها ناحيتي فقلت بملل:

"ليس لدي متسعٌ من الوقت لك (جنى) "ثم تخطيتها.

خطوتان فقط هو ما استطعت إنجازه لأنّ (أركان) سدّ طريقي ثم فعل (جواد) نفس الشيء حيث وقف بيني وبينه. لقد كان هذا الأخير يخشى عليّ من طبع (أركان) الصعب..لقد كان فعلا أخاً حقيقيا.

لم تمر إلاّ ثوان قليلة، عندما صارت أنفا الشّابين مقابلة لبعضها البعض كإنذار بنشوب معركة حامية الوطيس. لم أشعر بنفسي إلاّ وأنا أدفعهما عن بعض لأقف في الوسط. لقد شعرت بأنّي عصفور صغير بين جبلين متنازعين. أخذت أقلب نظري بين (جواد) و (أركان) وألمٌ ما يعصر فؤادي عصرا. قطعا لم أحضر إلى الجزائر لفك نزاعات ذكورية بالية!

"(مُنى)..عقدك؟ "صاحت (ليالي). تحسّست عنقي ولكنّي لم أجد قلادتي الذهبية.
"يا إلهي، أين هو؟ "قلت بفزع وأنا أنظر في كل مكان.عجز عقلي عن تحديد المُدّة التي قضيتها من دون العقد الذي لطالما طوّق عنقي.

"(منى) حاولي تذكر أي شيء عن عقدك..متى ارتديته، وآخرة مرّة رأيته فيها "قال (جواد) باهتمام كبير. خوفه كان باديا للعيان، منحني بعض الرّاحة لكنّه لم يستطع حجب خوفي من ضياع قلادة (أليكس). كثّفت من تركيزي رغم أن (جنى) كانت تحاول جاهدة تظليل طريق ذاكرتي بضحكاتها الساخرة. (أركان) كان يقف من دون حراك، أقوى حركة قام بها رغم عضلاته المفتولة هي توجيه نظرة صارمة ناحية الصهباء الاستغلالية فخرست تماما..

"لحظة.. "قلت فجأة لتجحظ كلّ العيون منتظرة ما أسفر عنه تصفير عقلي الناجم عن مراجعة سجّل الذكريات. لم أتكلم، صمتُّ..نظرتُ مباشرة نحو عيون (أركان) الخضراء. تراءى لي مشهد يده وهي تمتد نحو كتفي..لقد لامست كفّه مؤخرة عنقي عندما كُنا نجلس على الكرسي خلف المدرسة، كيف لم أنتبه إلى هذا؟ مُبقية على هدوئي، أمسكت يده من دون خجل وسحبته أمام أنظار (جواد)، (ليالي) و (جنى). لا أدري كيف استطعت جر كتلة اللّحم تلك ولكنّ حزناً مختلط بأسف مع رشّة مُفرطة من الغضب جعلني أفعل. انعطفت ناحية غرفة الأساتذة حيث حجبت الجدران وجوه زملائي حينها أفلت يده. ظللت أنظر إلى وجهه الذي لم يُبدي أي تعجّب، لقد جعلني ذلك أرتعب!

"أين هي؟ لمَ سرقتها؟ "سألت بعد أن أخذت نفسا عميقا.

"لماذا أبقيتِ على سمعتي ولم تفضحِ أمري هناك؟ "

فاضت عيناي بالدمع، لا أدري لمَ أبكي عندما يجرحني؟ كنت أودّ أن يُدافع عن نفسه، أن يصرخ في وجهي مُفندا، أن يتّهمني بالتحرر..جوابه شق قلبي نصفين.

"أهذا يعني.. أنّك.. أخذتها، هل أردت استعادة منزلك بثمنها؟ "سألت مُجدّدا وقد ازداد منسوب المياه الحارة على وجنتاي.

لم يُجب بل ظل صامتا.علا صوت الصفعة الثانية على خدّه، صفعته بكل قوتي ثم أخذت أهز كتفيه وأنا أرتعش من البكاء : "لما لم تقل بأنّك تحتاج المال؟ هل تظن بأن الأمريكية بخيلة بالإضافة إلى كونها مُدعية "

"لمَ أبقيتِ على سمعتي؟ "قال (أركان) بكل قوّته، صوته الخشن بدا متألما دكّ حصون قدرتي على الاحتمال. تاركتاً إياه دون إجابة، حملت وزني بأقدام واهنة وعدت إلى المنزل. كنت أتمنّى لو أن مُضيفة الطائرة أخذت عقدي بدلا عنه..تمنّيت لو فعلت صاحبة الكعب العالي ذلك وجنّبتني هذا الموقف القاسي. لا أعلم لماذا لم يخطر ببالي اسمٌ ما يستطيع مواساتي..لا أحد كان بإمكانه ذلك إلاّ هو، هكذا كنت أشعر!

(أليكس)، "أنا بخير..إلى أن أُصبح وحيدة، ومؤخرا كنت أميل إلى ذلك. لا أدري مالذي يحدث لي، أنا خائفة! "

رغم كل حزني، أسفي و تعاستي لم أتنازل عن حفلة عيد ميلادي. كل صحبي حضروا تلك الليلة. الجو كان بهيجا وقد استمتع الجميع به. لأوّل مرة في حياتي، ارتديت قناعا خادعاً من فرح مُصنوع من معدن الكذب. الكلّ حسبني سعيدة ما عدا (جواد) الذي كُلّما نظرت إليه سقط التمويه عن معالم وجهي. كابرت طيلة سويعات حتى فاض قلبي ورغبت أنفاسي في تجديد هواءها ولم أجد سوى حديقة المنزل مُعيلا على ذلك. كان ماء المسبح يتلألؤ على ضوء القمر وأصوات الحشرات الليلية تملؤ الجوّ صخبا.

سمعت صوت خطوات تقترب منّي، التفتُّ ناحية مصدر الصوت لأرى ذلك الشبح يدنو متخطّيا شجرة البلوط الكبيرة.كان يرتدي طقما أسوداً جميلا رفقة ربطة عنق متأّنّقة. هل تبدوا الأشباح بهذا الجمال!

"ماذا تفعل هنا..أليس الوقت مُبكرا على زيارتك اليومية؟ "سألتُ الطيف.

"هل كُنت تعلمين من أكون؟ "قال (أركان) وقد أنار ضوء البدر وجهه وكامل جسده.

"هل لديك شك في هذا؟ "أجبت بصرامة ثمّ هممت بطرده رغم أنّ قلبي كان يُحاول منعي.
"تفضّلي، عيدُ ميلادٍ سعيد "تكلّم الشاب قبلي دافعا إلىّ بهدية مربوطة بإحكام. فتحتها ببطئ وكم كانت دهشتي عظيمة لمَا رأيت في تلك العلبة..لقد كانت قلادتي الغالية. إنّها هي ولكن مع تغيير بسيط استمال انتباهي، لقد تم إضافة حلقة ذهبية في منتصفها نُقشت عليها أحرف كثيرة. رفعت القلادة في الهواء محاولة قراءة تلك الكلمات..

"أقسم بأنيّ لن أجرحَك ثانية "تكلّم الشاب قارئا ما كُتب على الجزء الدّخيل من العقد.
"(أركان) "أتممت قراءة الكلمة الأخيرة على القطعة. لقد نقش من ظننته سارقا اعتذارا على عقدي كانت نهايته اسمه، (أركان).

اختلطت المشاعر بداخلي، صدقا لم أعد أعلم من أنا. كنت أنظر إليه وقد فهمت كلّ شيء..لجزء من الثانية، تذكّرت رغبتي في مقارنة وجهه بمعالم وجه (أليكس)، لم يكن يشببه..كان أجمل بكثير. رُحت أخزّن تفاصيل سحنته في مخيلتي كمُودعة شخصا غاليا من دون رجعة، عيناهُ كانتا رائعتين. أخفضت رأسي، فتحت بوابة نفسي، بحثت عن مخلفات الماضي، عن (أليكس)..لكنيّ لم أجد بي أيّ شعور . أوصدت باب الماضي فرحة..بل كدت أطير من الفرح، أهاته هي الحقيقة ! هل كان فعلا سبب تغُّيري؟

"أخبرتني (جنى) بأنّ عقدك الثمين يخص صديقا عزيزا عليك، شخصا لا تستطيعين نسيانه "قال (أركان) ليُرجعني كلامه إلى الواقع.. إلى الحديقة وبركة الماء.

فتحت فمي، أردت أن أدافع عن نفسي كمُتهّمة، كمظلومة..كمن تريد إثبات براءتها لكنّه أشار إليّ بالسكوت، وفعلت. اقترب منىّ، أخذ العقد من يدي..حام حولي ثم ألبسنيه وهو يقول:
"عقدك السابق لم يعد موجودا، لقد سرقته "

ابتسمت بخحل، فهمت قصده..تلك القطعة الذهبية المُعتذرة أخفت عقدي القديم، لم أعد أرى قلادة (أليكس) بل هدية (أركان) التي لا تُقدّر عندي بثمن.

"(أركان)،منزلك؟ "سألت فجأة ثمّ استدرت ناحيته.

"لا تقلقي، لقد استرجعته "ردّ الشاب راسما ابتسامة بريئة.

"هل ستُقلع عن المشاجرات "عقّبت بسؤال آخر فردّ هو دون أن يُغيّر تلك الضحكة الخفيفة: "ليس مع (جواد)، إنّه خصمي "

"(أركان) "صحت مُدعية الغضب.

"نلت جزائي" قال الشّاب وهو يمسح على خدّه لتندلع من أفواهنا ضحكات كثيرة انتهت باحمرار وجنتاي خجلا. كان القمر فوقنا مبتسما، هذا ما أحسست به..كل شيء بدا سعيدا، كل شيء بدا كالعودة للدّيار.

(أليكس)، "لم تكن نهايتي مُسالمة فقط، بل سعيدة. لقد كنت مُخطئة، أجل. ما خلّفته ورائي لم يكن موطني بل هذا . لقد وجدت أخيرا الحب والصداقة الحقيقين، معاني الوفاء التي جعلت وطنيتي تزهر بعد أن مدّت جذورها ضمن أرض طاهرة. من يقول بأنّني أمريكية قطعا كان يقصد فتاة أخرى..شابة احتجزها زجاج نافذة الطائرة وأعادها إلى موطن الغرباء. (أليكس)..وداعا ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى