السبت ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

سوء فهم

تصرخُ عبير متذرعةً، مبتهلةً بطريقة متوسلة، خاضعة وهي تبكي وتقول: لا أريد الزواج ولا أفكر فيه الآن، فأنا مازلت صغيرة ولم أنتهي من دراستي الإعدادية بعد، ثمَ يعلو صوتها أكثر وكأنها قد كسرت الخجل فتشجعت، لماذا تجبروني على دفعي إلى معترك الحياة وأنا لم أستعد لها؟! ثمَ تشرع بلهجة خاضعة مقهورة أرجوكم دعوني وشأني، لتعيد ما قالته للمرة الألف وبصوت مبحوح، لا أريد... لقد قلت لكم... لا أرغب في الزواج الآن... لا تستطيعون إجباري على الزواج هكذا وبهذه الطريقة، ثمَ ينخفضُ صوتها بعدَ أن بدا عليها التعب والإرهاق فتقول هامسة وهي تنتحب بزفرات متقطعة، مناجية... أرجوكم ، أتوسل إليكم، أرحموني، لا أريد الزواج الآن...
يقفزُ أخيها وسام، الهمام من خلفها كالصقر، فينتزع خصلة كبيرة من شعرها، ليتناثر على الأرض كالريش، وهو يدمدم: نحنُ لا نريد أن نسمع رأيك، ومنْ قالَ ذلك؟! بل نريدكِ أن تستعدي للقاء خطيبك، لقد قررنا وانتهى الأمر، وما عليك الآن سوى التنفيذ، ثمَ يصفعها على خدها بقوة، لتصرخ عبير عالياً مستغيثة بأمها الواقفة كالتمثال أمامها دونَ أن تحرك ساكناً، كعادة الآم في العائلة الشرقية! فمسؤوليات كهذه تكون من عاتق الرجل، ولا شأن للنساء فيها، بينما يبصق أبيها على الأرض وكأنه يتقيأ، وهو يرى منظر أبنته أمامه بتقزز وكأنَ كرامته الإنسانية قد أهينت...! فيعقب على ما يشاهده قائلاً: ما عدتِ تنفعين حتى للزواج يا بنت، وكأنها قد اقترفت خطيئة وأنَ بكارتها قد فضت قبلَ ساعات فقط! ثمَ يشرع حرام فيكِ التربية وما قدمناه لكِ طوال هذه السنين وكأنه ينتظر مكافأة لقاء ذلك! ويردف متأففاً، حانقاً بعدَ أن غلى الدم في وجهه فصار بلون الطماطم، يا عديمة الحيلة... فكري قليلاً... يا ما لا نفعك فيك أبداً... واحسبيها جيداً، فالزوج غنياً جداً، وأسرته معروفة، ثمَ يرفع نظارته الكبيرة السوداء وكأنها نظارة مكفوف، من على عينيه لتظهر عيونه الجاحظة لتبدو كعيون التمساح، فيقول شارحاً كالمحامي وهو يترافع: صحيح أنه قد تجاوزَ الأربعين عاماً بقليل، لكن لا ينقصهُ شيئاً، سوى الزوجة التي تربي أولاده، ثمَ يتغير أسلوبه الواثق فجأة، فيصرخ هائجاً كالذي لسعته نحلة، ويقول:

ثبتي عقلكِ في رأسك يا جاحدة، أنهضي الآن ولا تضيعِ مزيداً من الوقت هكذا هباءً فهو في الطريق وسيكون بعدَ قليل هنا معَ أسرته، عندها يرفع يده وكأنه يودعُ أحداً فيردف: لقد اتفقنا وحسمَ الأمر، فلا داعي للكلام أو المماطلة، ولن يفيدك شيئاً الآن أبداً... هيا أنهضي، ثم يبصق على الأرض مجدداً وهو يتحدث مع نفسه: حرام فيها الأكل والشرب...

تنهار عبير نتيجة الجهد الذي بذلته طوال الوقت، للدفاع عن حريتها وحقوقها الإنسانية التي تراها تغتصب دونَ وجه حق، ولكن من يسمع وأخيها لا يعرفُ طريقة للتفاهم سوى الضرب والشتم والسب، وأمها الخائفة ، الضعيفة التي ليسَ لها حول أو قوة، تشاهد منظر أبنتها المروع أمامها بصمت والدموع تطفر من عيونها كحبات المطر، وتقول في سرها ليعاقبني الله على ضعفي ، لكنها بقيت صامتة، مستغرقة في التفكير بكآبة وكأنها تخدع نفسها أو تحتقرها، عندها يسود الصمت فيطبق على كل المكان ليبدو وكأنَ كل الأشياء قد تآمرت عن عمد للتو!

يصل كل من سعيد( الزوج المنتظر ) وأمه وأبيه وأخته هناء وهم في نشوة عارمة، بينما تفوح من غرفة الجلوس رائحة كرائحة الخريف! فتسأل هناء عن غرفة عبير، فيشير وسام لها بيده هناك...

تتوجه إلى غرفتها، لتصدم بالصورة التي تراها أمامها، فعبير مغشي عليها وأمها تحاول إسعافها بصمت وبذهول وهي تقرب من أنفها عطر، فتهرع هناء مسرعة إليهم، لتسكب كأس الماء الذي بجانب عبير، فترتعش فجأة ثمَ تجفل ثانيةً بعدَ أن استعادت وعيها، فتحاول الكلام بعجز وكأنها فقدت النطق...

تقترب هناء منها وتسألها بارتباك: ماذا جرى يا أختاه؟!

لا أعلم يا أختي العزيزة، تجيبها عبير بصوت غير مسموع، منهك وكأنها مازالت تعاني من مفعول المخدر...! ثمَ شرعت: في لحظةٌ ما، لم أعد السيطرة على نفسي، فسقطت على الأرض دونَ شعور، ولم أعرف ما يجري حولي...

لا تتكلمين يا عزيزتي الآن، أهدي قليلاً وأنا سأهتم بكِ أجابتها هناء وهي تدلك يدها وتنظر لها بوجل وكأنها في معبد وأمام الآلهة، ثمَ أردفت، ما هذا يا حلوة، نحنُ لا نملك سواكِ، وكم عبير نعرف، أعوذُ بالله، ثمَ ترفع رأسها إلى أم عبير متسائلة بحيرة وكأنها تسأل عن الطريق بعدَ أن تاهت وتقطعت فيها السبل فقالت: أينَ هي سمر، فأنا لا أراها هنا؟

لقد ذهبت إلى المكتبة لاستعارة بعض الكتب، ستأتي حالاً... أجابت الأم برأفة وبقليل من الهمة بعدَ أن رأت أبنتها في تحسن.

تنهض عبير بعدَ أن استعادت نشاطها، لتغسل وجهها الملائكي وتسرح شعرها الذهبي، فتضحك مجدداً ثمَ ترحب بهناء قائلة: أنا آسفة جداً يا عزيزتي، لقد شغلتك معي، فهذا ليسَ وقته، ولكن الموضوع كبير ولم أستطع استيعابه هكذا دفعة واحدة، في تلكَ الأثناء يدخل وسام وهو يزأر كالأسد، دونَ خجل وبتهور فقال:

ما زلتِ لم تغيري ملابسك بعد؟! فالناس في الخارج ينتظرون قدومك، هيا ولا تجعليني اتخذ معكِ أسلوباً آخر، ثمَ أردف باستهتار، أنتِ تعرفينني يا ... هيا... أفعلي ما أمرتك به. تتقدم هناء منه ببطيء كالشرطي وقالت، ما هذا يا وسام، أنظر إلى أختك أنها لا تقوى على الوقوف، وأنت تطلب منها أن ترحب بضيوفكم، أنا استغرب من تصرفك هذا حقاً، ثم أردفت كالذي يعاتب أحداً، هناك أبيك وأمك، وستأتي أختك سمر قريباً، فلا داعي من وجود عبير إذن، دعوها أرجوك، وأنا أوعدك سأتكفل بأمرها، أرجوك...

طأطأ وسام رأسه كالحيران وهو يمشي في الغرفة من ركنٍ إلى ركن وكأنه يفكر في مسألة حسابية، صعبَ عليه حلها، عاقداً يديه خلفَ ظهره ليبدو كالمعلم وهو يمشي وسط طلابه! فنظرَ إلى أخته باحتقار وقال:

سأقتلها عاجلاً أم آجلاً، فأنا لم أعد أتحمل تصرفاتها الغير مسئوله، قالَ ذلك بإحساس غريب، كمن يخدع نفسه عن قصد! ثمَ خرجَ دونَ أن يلتفت وهو مكفهر الوجه كالغمامة، يدمدم... الشيطان نفسه سوفَ لن يخلصها مني... سأقتلها... ومن يراه في تلك اللحظة وهو هكذا حانق وقلبه يدق بقوة سيقول بأنَ هذا الرجل مستعد أن يقترف الآثام كلها الآن عن طيب خاطر!

يرحب أبا وسام بالضيوف مجاملاً وكأنه في حفلة فيقول، مرحباً، أهلاً وسهلاً بكم، لقد زارنا السعد والله، يرد عليه أبا سعيد مبتسماً، بشوشاً ووجهه يبدو جميلاً، يدخل المسرة والفرحة لكل من حوله كالشجرة التي تطليها الثلوج شتاءاً، وهو يقول، شكراً يا أخي أبا وسام، هذا من حسن ذوقك وكرم ضيافتك وعلو وسمو أخلاقك... عندها تدخل سمر المنزل باسمة، فرحة وكأنها تحفظ نكته وتريد أن تقولها... فترحب بالضيوف بحرارة، فيقف سعيد أمامها صامتاً، متأملاً وهو ينظر لها بعيون مفتوحة، مفتونة، واسعة فيقول:

لقد انتظرنا قدومك يا سمر طويلاً، ترد عليه ضاحكة بغنج... وها أنا هنا، ثمَ أردفت ، تفضل بالجلوس، وتصمت للحظة وكأنها تريد أن تتأكد من أنَ كلَ شيء على ما يرام، فقالت معتذرة، سأعود حالاً، وتوجهت لرؤية أختها...

دخلت سمر الغرفة لتجد أختها عبير في أحسن حال من الصفاء والانسجام معَ ضيفتهم ، فتقترب من هناء وتقبلها وتقول:

كم أنا سعيدة برؤيتك يا أختي العزيزة، ترد عليها هناء بكل أدب، وأنا أسعد يا أختاه.
تبدأ هناء بالاسترسال في الحديث معَ سمر بصوتٍ هادئ كصوت جريان النهر الصغير، ها... ما هو رأيك بأخي؟! تخفض سمر رأسها بينَ يديها وهي تقول:

أنه لا يعاب على شيء، وسيم، متعلم، وسنه يعجبني كثيراً، ثمَ شرعت، الرجل يجب أن يكون قد خبرَ الحياة، كي يستطيع أن يحافظ عليّ، في هذه الأثناء انتبهت عبير لما يدور حولها من حديث، فصعقت من الذهول، فوقفت فجأة وهي تصرخ ماذا أسمع؟ وأكاد لا أصدق، فتتوجه إلى هناء وهي في حالة من الفزع والرهبة فتسألها بعمق، إذ كانت تقف عند كل كلمة تقولها... أنتم... تريدون... أختي... لأخيك، وماذا عني؟ يا ألهي، شيء غريب يحدث، غير معقول، وبدأت ترطن بكلمات غير مفهومة وكأنها تهذي وقلبها يدق بعنف، ثمَ تردف، ولكن ماذا يعني إصرار أخي وأبي والضغط عليّ لأجل القبول؟ والقبول على منْ وعلى ماذا، إن كانَ أخوكِ يريد الزواج من سمر وليسَ مني...؟! ثمَ تردد باستنكار، ردوا على أسئلتي، قولوا لي كلمة واحدة، وماذا يدور حولي... آه... يا ربي، رأسي تكاد تنفجر...

تسمع هناء باستغراب شديد كالذي دخلَ منزلاً غير منزله، فقالت بتردد وارتباك، لابد من هناك سوء فهم قد حصل، ثمَ أردفت دونَ تكلف بعدَ أن تشجعت قليلاً فقالت، فأخي لا يريد الارتباط بكِ، وهو يحب سمر حد الجنون ومن أول نظرة عندما رآها في الجامعة ذات يوم وهو في زيارة لصديقة، لذلك قررَ أبي في حينها أن يمهد للموضوع، فتكلم معَ أبيك، ولكن قد يكون الأمر لبسهُ سوء الفهم، إذ أننا نجهل أسم سمر إلا منذ فترة قصيرة، لذلك أعتقد بأنَ أبيك قد فهم النوايا على أنها موجه لكِ وليسَ لسمر، ثمَ تضحك بصوت عالي وتضحك معها سمر فتضحك عبير هي الأخرى... فيهرع الجميع إلى دخول الغرفة ليتأكدوا ماذا يجري هناك، فالضحك والقهقهات العالية كانت تهزُ أركان المنزل كله وبقوة، كالضحكات التي يطلقها الجنرالات... هئ... هئ... هئ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى