الثلاثاء ١٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم أحمـــــد صبـــري غبـــاشي

عمر وقمر

أنا لحبيبي وحبيبي إلي ..
يا عصفورة بيضة لا بقى تسألي ..
لا يعتب حدا ، ولا يزعل حدا ..
أنا لحبيبي وحبيبي إلي ..
 
حبيبي ندهلي ، قاللي الشتي راح ..
رجعت اليمامة زهر التفاح ..
وأنا على بابي الندى والصباح ..
وبعيونك ربيعي نوّر وحلِي ..
 
وندهني حبيبي جيت بلا سؤال ..
من نومي سرقني ؛ من راحة البال ..
وأنا على دربه ، ودربه ع الجمال ..
يا شمس المحبة حكايتنا اغزلي ..
أنا لحبيبي وحبيبي إلي ..

عمر .. وقمر ..

رقيقةً ناعمة ، انزلقت القطرة على جبيني بعدما ارتطمت به .. مجرد قطرة أخرى تصبّبت من القمر ، ناجمة عن توترٍ وقلق .. لأعلى نظرت .. صحت فيه : " ما بالك ؟! " فردّد ذات الموضوع المطروق المعتاد ..

قصة ( عمر ) ، وخناجر المشكلات الدائمة التي تمزّق قلوباً .. ولا ساهرٌ مسهد معذب في قصته سوى ذلك القمر البائس .. على الرغم من جيرتي لهذا الـ( عمر ) إلا أنني لا أسكب اهتمامي على قصته كما يفعل ذلك القمر .. لا أدري علام انشغاله وتوتره بمثل هذا الشكل .. أيبغي غماً ؟!

أيهوى الكدر ؟! .. كثيراً ما نصحته ، كثيراً ما نبهته ، كثيراً ما حاولت منعه .. أذكر جوابه على سؤالي كلما قذفت بالسؤال في وجهه : " لماذا ( عمر ) ؟! .. هناك ملايينٌ غيره من المعذبين الملتهبين عاطفياً يملئون أرجاء الأرض ؟! فلماذا ( عمر ) تحديداً هو من يحظى بمثل اهتمامك ولوعتك هذه ؟! .. أشك أن ( عمر ) ذاته ليس مهتماً ولا ملتاعاً مثلك ! .. إنك تكاد تقتل نفسك "

كان يجيب ولآلئ الدمع تقطر من عينيه تأثراً : " صهٍ .. أنّى لقلب قاس كقلبك أن يدرك ويستوعب حجم قصة حب متأججة كقصة ( عمر ) ؟! .. أنّى لغافل مثلك أن يعي ويشعر بشعور ( عمر ) وحبيبة ( عمر ) ؟!! .. أنا وحدي من يعلم .. وحدي أنا من يشهد .. أنا من أطل عليه من نافذة حجرته وأرقبه .. أتابع تطورات قصته .. أشهد ما يقابل حبه من عقبات .. فتعساً لي إن كنت شاهداً على عشقٍ كهذا ولا أتحرق شوقاً في آتون الانتظار وترقب العقبة المنتظرة .. لست متحجر الفؤاد مثلك حتى أفعل .. ولا أحد أدرى مني بـ( عمر ) وقصته .. "

بائسٌ ذلك القمر ! .. ها هي قطرات التوتر تسيل منه اليوم أيضاً .. أشفقت عليه فقلت : " ألن يهديك الله ؟! .. كف عن حماقتك .. التحف سماءك ونم يا قمر .. "

لا رد ! .. مستغرقٌ هو في متابعة ( عمر ) عبر النافذة .. فلأدعه وشأنه ، ولأصعد لشقتي فالسرير يصرخ باسمي منادياً ..

أن تقرر النوم وأنت تجتاز مدخل العمارة ، فيتغير رأيك بمجرد صعود درجات السلم لتجد أن شهيتك للإبداع قد أبرزت فكيها لتطبقهما على جزء من عقلك ، وأنك تبغي بشدة أن ترسم ؛ لهو شيءٌ غريب ..

حمام منعش فعشاء خفيف فكوب شاي ..

ألوان ولوحة وفرشاة ..

الشهية مفتوحة لا زالت ولا أدري ماذا أرسم !

راودتني فكرة طريفة .. فقمت لأفتح النافذة على مصراعيها ليظهر لي القمر الواجم .. يصوب بصره - كالعادة - نحو نافذة ( عمر ) ..
عدت لمقعدي أمام اللوحة ، ورحت أنقل بصري من وجه القمر إلى اللوحة أمامي ؛ لتتحرك الفرشاة ملوثةً بياض اللوحة الناصع ..

عائدٌ للشقة من العمل في ليلةٍ تالية ..
أهم باجتياز مدخل العمارة فأتحول فجأة للقمر ناظراً لأعلى وكأنما تذكرت شيئاً ، وقلت ساخراً : " ما أخبار ( عمر ) ؟! "
مزدرياً بصق بالكلمة : " تافه "
ضحكت .. وصعدت للشقة

" لا تعتب عليّ ، أخرني القمر ..

ضيعتنا هنية ، وطالع لها السهر ..

يا خجلة عنييّ لو يعرفوا فييّ ..

لومك مش علىّ لومك ع القمر .. "

ثمة شيء ما في صوت فيروز يداعب شيئاً ما بداخلك ليصيبك بشعورٍ ما خلاصته أنك تود أن تملأ الدنيا إبداعاً ورومانسيةً وملائكية ..
إنه شريط أهدانيه ابن خالتي حالفاً بأغلظ الأيمان أنه أعده لي خصيصاً وسجّله بنفسه ..

" شريط ( كوكتيل ) أعددته لك بنفسي .. فيه ما يناسب ذوقك .. ستشكرني عليه ما تبقى لك من عمر .. "
يبدو أنه على حق .. يا لروعة فيروز ! ..

أتجه للنافذة لكي أنهل قدر ما استطعت من نسمات الصيف المنعشة .. أنظر للقمر فأجد علامات القلق ترتع في وجهه ولا تفارقه ..

 " ألا زلت على بؤسك ؟! "
 " تطور الوضع للغاية "
 " كيف ؟ "
 " لا أدري ! "
 " حسناً .. من أين لك بهذا التخمين إذن ؟! "
 " إنه يحادثها هاتفياً كالعادة "
 " أتدرى ماذا تقول له ؟! "
 " لا أدري ! "
 " حسناً .. ماذا يقول لها ؟! "
 " لا أدري ! "
 " تباً .. ما الذي تدريه إذن ؟! .."
 " لو نظرت إلى خلجات وجهه وهو يتحدث إليها الآن ؛ لأدركت أن كارثةً تمر به لا ريب .. "
 " ليشفك الله "

تركته وأعددت نفسي لكي أرسم على الأنغام الفيروزية ..
لا ريب أنها ستكون لوحة رائعة .. خطوط وألوان ، خطوط وألوان .. المساحة البيضاء تتآكل على اللوحة ..
فجأة يختفي صوت فيروز ليحل محله صوت مطرب شعبي شهير ؛ فأمزق ما رسمت وأمنع نفسي بصعوبة من تحطيم المسجل ، وأتجه للنوم ..

ليلة أخرى .. الشريط الـ( كوكتيل ) من جديد .. أكمل سماعه .. به ثروة رومانسية - باستثناء مقلب الأمس - لا بأس بها ، أغلبها فيروزي ..

" شو بنا ! شو بنا ؟! ..

يا حبيبي شو بنا ! ..

كنت وكنا .. تضلوا عنا ، وافترقنا شو بنا !

وبعدا الشمس بتبكي .. ع الباب وما تحكي ..

يحكي هوا بلادي .. خدني .. خدني على بلادي .. "

أبدأ ليلتي كالمعتاد بالنافذة .. حيث المزيد من تطورات ( عمر ) .. والقمر ..
عبر النافذة أحدث قمرنا البائس ..

 " ها ؟ .. كيف حالك وحال ( عمرك ) ؟ "
 " أنا في غاية الانتشاء والسعادة والتفاؤل ! "
 " يا للكارثة !! .. إنك سعيد بالفعل !! .. خبّرني سريعاً ماذا حدث ؟! "
 " لا أدري ! "
 " !!!!! .. علام سعادتك إذن ؟! "
 " ( عمر ) يحادثها هاتفياً كالعادة "
 - " وما الجديد ؟! .. اعتدت إن ذلك يعكر صفوك لا العكس .. أتدرى ماذا تقول له ؟! "
 " لا أدري ! "
 " حسناً .. ماذا يقول لها ؟! "
 " لا أدري ! "
 " تباً تباً .. ما الذي تدريه إذن ؟! "
 " لا أدر...... احم .. لو نظرت إلى خلجات وجهه وهو يتحدث إليها الآن ؛ لأدركت أي نعيم يحياه ! "
 " ليشفك الله "

رغم سخطي الواضح إلا أنني لم أمنع ابتسامة من أن تطفح على وجهي عندما حولت بصري عن القمر إلى حجرتي ..
القمر سعيد .. و( عمر ) سعيد .. هذا جيد ! ..
أأنا سعيد ؟!! .. سعيد ..

" نحنا والقمر جيران ..
بيته خلف تلالنا .. بيطلع من قبالنا ، يسمع الألحان ..
نحنا والقمر جيران ..
عارف مواعيدنا .. وتارك بقرميدنا ، أجمل الألوان .."

على صوت فيروز ترقص شهوة الإبداع بداخلي فأعد عدتي ..
وبجوار اللوحة والألوان والفرشاة أجهز قلماً وأوراقاً ..
ابتسامة القمر عبر النافذة .. سعادة ( عمر ) .. صوت فيروز .. انتشائي .. لا ريب أن محصلة ذلك كله ستكون رائعة ! ..
إن ما أمارسه لغريب .. إنها أول مرة أكتب وأرسم في ذات الوقت ..
أنصت برهة لفيروز - أرسم جزءاً على اللوحة - أخط عبارة على الأوراق ..

على اللوحة .. دائرة نبتت بداخلها ملامح وجهٍ يتضح أنها للقمر .. وعلى وجهه بسمة ..

على الأوراق .. ( ليلاً أشرق القمر ، وأشرق وجهه بابتسامة أضاءت ما في فؤادي من ظلمات وبددتها .. )
على اللوحة .. كفان يحوطان وجه القمر سرعان ما ينبت لهما ذراعان إلى أن يتشكل الجسد ليتضح أنه جسد فيروز ، أو هكذا أردته ..
على الأوراق .. ( في ليلةٍ صيفيةٍ فيروزية .. حيث يعزف الصوت المنساب على أوتار القلب ، أرمق القمر وأبادله بسمةً ببسمة .. )

" يا قمر أنا وياك ..

صحبة من زغرنا .. وحبينا قمرنا .. وعشنا أنا وياك يا قمر ..
يا قمر أنا وياك ..
لوّنا سمانا .. وزرعنا هوانا .. يا قمر أنا وياك يا قمر .. "

على اللوحة .. في الركن الآخر منها .. رويداً رويداً تتضح معالم قوس قزح ..
على الأوراق .. ( على صوت فيروز ، وفى حضرة القمر .. يغلبني النعاس ؛ وعلى وجهي تأبى ابتسامة أن تدعني .. فأرى في حلمي كائنات وأطياف وردية ، وأشتم عطراً محبباً ، وتتسلل في نعومة لأذني الموسيقى المرغوبة )

على اللوحة .. حول قوس قزح تُحلّق طيورٌ بديعة المنظر .. أسفل كل هذا على الأرض ينفرد عصفورٌ بعصفورة ويحتضنها - ولا أدرى كيف ؟! - في حبٍ وشوقٍ ولهفة ..

على الأوراق .. ( حلمي الجميل ، والكائنات الوردية ، والعطر المحبب ، والموسيقى الناعمة .. عصفورٌ رائع الألوان ينحني على عصفورة يعلو رأسها تاج ويقبلها .. ويهمس لها : " أحبك .. كـ( عمر ) .. " )

تنتهي اللوحة تقريباً .. فقط أضع لمساتي الأخيرة وأرمقها في رضاً .. في رضاً أيضاً أعيد قراءة ما كتبت ..
صنعت لوحة أدبية بديعة .. وأخرجت فصاحة ملونة رائعة ..
أرمق المسجل في امتنان حيث الشريط الدائر .. أتجه إلى النافذة وقبل أن أغلقها أبتسم ابتسامة واسعة وأبعث بقبلة في الهواء للقمر وأنا أقول له :

 " تصبح على خيرٍ قمري المنير "
 " تصبح على كامل خيرٍ ورضا وسعادة .. "

أطفئ الأنوار ، وأترك الشريط دائراً في المسجل .. وألتحم بالسرير ..

* * * *

كلما زادت أقاصيص الهوى ..
في بلادي قصة
تحبل الوردة طيباً ..
وهلال الصيف يكتظ حليباً * ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى