الخميس ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
بقلم هيثم نافل والي

قلق

لم تنقطع توسلاتهم طوال الفترة المنصرمة، وها هو أخيراً الجد توفيق ذو القامة الطويلة، العريض المنكبين، برأسه الكبير الذي يفرشه الشعر المجعد الأبيض اللون فيغطيه، وغالباً ما كانَ يرتدي بدله سوداء دونَ ربطة عنق، فقد كانَ يمقت التقييد ولا يتحدد به، له عينان تلمعان كعيون القطة في الليل، تعلوها نظارة طبية سميكة العدسات كعدسة مجهر، وعندما يبتسم تبرقُ أسنانه البيضاء الاصطناعية بخطوط رفيعة، شفافة تحتَ شاربه الفضي الكثيف، يقبل دعوة أبنته (من زوجته) وأولادها الشياطين (تحسين وسلام)، بعدَ أن أعدَّ حقيبة السفر السوداء والوحيدة التي يملكها لمثل هذه المناسبة! فوضعَ فيها قرطاسه وقلمه وخمسة من الكتب التي يود قراءتها، ثمَ دسَ فيها بعض الملابس التي سيحتاج لها بعدَ أن رتبَ كل تلك الأشياء بدقة تكاد تكون مقصودة كالفقير عندما يعد نقوده!

نزلَ على رغبتهم، فحلَّ ضيفاً عليهم في مساء كانَ المطر فيه يسامر سطوح النوافذ عندَ سقوطه عليها بحنان وهدوء! استقبلوه أحسن استقبال، وغمرته السعادة وهو يرى نفسه بينَ أحضان أسرة أبنته ليلى بعدَ طول غياب، فهو لم يزورهم منذ أكثر من سنة، إذ أن صحته قد تدهورت في السنوات الأخيرة بعد وفاة زوجته سعاد (أم ليلى)، فظلَ وحيداً يهتم بنفسه كما يهتم الطفل اليتيم بشؤونه وحسب خبرته! بينما اعتاد في أوقات العصر من الجلوس في المقهى المقابل لمنزله وحتى ساعة متأخرة من الليل ثمَ يعود لينام وهو راضٍ وسعيد لكنَ سعاله الحاد المتواصل يأبى النوم ليبقى يعاني القلق والسهد وهو في حالة من الاضطراب النفسي والتعب الجسدي، عندها يسمع أول صياح للديوك فينهض من سريره شاحب الوجه، شاخص البصر، منتفخ العينين اللتان تماثلان عيون سرطان البحر! لكنه كانَ دائماً يحدث نفسه بهمس كعادته وهو يضحك ضحكات هستيرية وكأنه لا يعرف غيرها: ها.. ها.. ها.. لقد هانت، فمضى الكثير ولم يبقى إلا القليل، عندها يصبر نفسه ويواسيها ثمَ يحررها من لحظات الخوف ويؤهلها كي تستعد عندما يقابل فيها شبح الموت الصامت الذي لا يقهر.

أقتربَ منه تحسين وقال وهو يبتسم بجذل وعيناه مفتوحتان كالمسحور: جدي أحكي لي حكاية، أرجوك، ثمَ أردف بمرح أنا لا أشبع من القصص التي ترويها لي أبداً .
قبلهُ جده بحنان وهو يضمه إلى صدره وأجابه بعدَ أن مدَّ رقبته إلى الأمام كطير الإوز: ليسَ الآن، لكني أوعدك بأني سأحكي لكَ قصة جميلة قبلَ أن تنام، ثمَ تابع كلامه .. هيا أذهب واللعب معَ أخيك ودعني أتحدثُ معَ أمك قليلاً.

لم تمضي إلا دقائق معدودة حتى شعر الجد بإحساس غريب مفاجأ وهو ينفخ بمنخريه كالحصان، فلمعت عيناه لتبدو كخرز زجاجية! ثمَ وقف وسط الغرفة كعمود النور وقال: أريد أن أكون لوحدي، هلا سمحتي لي يا ابنتي العزيزة؟! نظرت ليلى له بذهول وهي صامته كتمثال من حجر، وعيونها تصبُ دفئاً لمن حولها بعدَ أن أشارت له إلى غرفة زوجها وقالت بصوت غير مسموع: هناك يا أبي ستكون بخير، فالهدوء يعم الغرفة وأصوات الأطفال وجلبة الشارع لن تصلك، ثمَ تابعت برفق أذهب هناك وأنا سأكون جاهزة لكل ما تحتاجه، ما عليك إلا أن تطلب .. انحنت عليه ورسمت قبلة على جبينه العريض الأسمر الذي بانت عليه التجاعيد بشكل واضح.
جلسَ الجد توفيق على كرسي بلا مساند، أمام طاولة شبه مستديرة دونَ أن يسند ظهره إلى الخلف .. سادَ المنزل صمت رهيب كصمت القبور، ثمَ علت منه ضحكة متشنجة كصراخ القطة وانحنى على الطاولة وبدأ يكتب شيئاً ما ..

سمعت أبنته دوي الضحكة الغريبة التي انطلقت من الغرفة وكأنها آتيه من بعيد! فذهلت للحظة وتبادلت النظرات معَ أولادها باستغراب وحيرة، وقالت في سرها الشيطان نفسه لا يعلم ما الذي يحصل داخل الغرفة! لكنها لم تتجرأ وتزعج أبيها ومنعت الأولاد من الدخول إليه، حتى انطلقت موجه جديدة من الضحكات المتقطعة كأزيز الطائرات! فانتاب ليلى نوع من القلق والحيرة لوضع أبيها وظلت ساهية، غارقة في التفكير وكأنها تنوي اتخاذ قراراً بشأن ما يحصل، تسمرت باهته في مكانها وهي تنظر صوب الغرفة وكأن الجن يسكنها! وحاولت جاهدة أن لا تقلق الأولاد من جراء الموقف المتأزم، فعمدت باصطحاب أولادها إلى المطبخ بغية تحضير الطعام حجة، لكن أبنها الصغير تحسين تسلل بهدوء كاللص وأسترق السمع بحذر من خلف باب الغرفة، فبهر من أن هناك من يتحدث معَ جده وبصوت واضح ففزع راكضاً مسرعاً إلى أمه وهو يدق الأرض بقدميه الصغيرتين، مغتاظاً كديك ينبش الأرض! وهو يقول .. ماما هناك من يتحدث معَ جدي في الغرفة! سرعان ما أنزلق الطبق من يدها، فأرتطم على الأرض محدث جلبة، ثمَ مسكت يد أبنها معاتبة والغيظ يشتعل من عيونها شراراً وقالت له بحزم: يا ولد إلا تعلم بانَ من العيب الاستماع إلى الآخرين هكذا كالسارقين؟!

 دمدمَ تحسين بصوت منخفض بعدَ أن طأطأ رأسه بخجل وقال: أنا آسف يا ماما، لكنني أحبُ جدي توفيق كثيراً، وقد قلقت عليه حد الخوف، لذلك.. فقاطعته أمه قائلة: هذا لا يكفي من عذر كي تسترق السمع على الآخرين، ثمَ استطرت أذهب من هنا الآن وخذ أخاك معك، وسأحضّر حالاً ما تأكلونه.

بقيت ليلى باهته، قلقة والحزن والألم باتَ قد تسرب إلى قلبها فعصره حرقة، تنهدت وقالت تكلم نفسها: آه يا أبي، لقد كبرت، وها أنت تتكلم معَ نفسك، وما كنت أتوقعه قد حصل! طفرت من عيونها حبات كبيرة حارقة من الدموع دون إرادة وهي تدمدم، كمن يعاتب نفسه ويعاقبها على خطيئة أقترفها قبلَ وقتٍ قصير: لم أكن أعلم من حالك هذا شيئاً، أه .. كم أحبك يا بابا توفيق ثمَ شرعت: الموقف لا يبهج القلب أبداً! وأنا أشعر بالتعاسة لما آلت إليه صحتك ..
بدأت الأصوات التي تصدر من الغرفة تعلو وتنخفض، تتخللها صيحات وقهقهات وحوارات مبهمة لا يعلم حتى الشيطان سبباً لها! ولم تعد ليلى تطيق الصبر أو تتحمله، فقررت اقتحام الغرفة لمساعدة أبيها، كي لا يقع في مصيدة الشر والوسواس ..

فتحت الباب عليه دونَ أن تطرقه لتقف وسط الغرفة وكأنها هبطت من السقف! تفاجأ الجد مذهولاً من هذا الاقتحام الغير مبرر، فوقف بارتباك قبالتها كمن يرى سيارة مسرعة تتجه نحوه وتريد دهسه! فقال صارخاً وبنبرة حادة لها رنة الذهب وهو ينظر لها وكأنه يراها للمرةِ الأولى: ما هناك يا ابنتي؟! هل الأولاد بخير؟! ولماذا تدخلين علي هكذا كالقدر المستعجل؟!

ابتسمت ابتسامة ضيقة، ملتوية، ساخرة، مضطربة بمرارة بعدَ أن اختفت شفتاها وهي تحاول الكلام، ارتمت في أحضانه وهي في حالة من البؤس الشديد وقالت: أنَ حبي لك يا بابا جعلني أقلق عليك كثيراً، لذلك أردتُ الاطمئنان بطريقتي الغبية هذه، ثمَ خفضت رأسها نحو الأرض وكأنها تبحث عن شيء قد أضاعته للتو! وقالت بتردد: أعذر لي تصرفي الشائن هذا، فاحمرت وجنتاها واستطردت، يعني عذراً يا أبي فخوفي عليك كانَ الدافع طبعاً من الدخول هكذا بهمجية، سوفَ لن أسامح نفسي أبداً .. وبدأت تبكي بتشنج كمن يعاني من ألم حاد.
ربتَ أبيها على كتفها برفق وحنان كراهب وقالَ لها هامساً، كمن يغني بصوتٍ منخفض: كوني صريحة معي ومباشرة يا عزيزتي، فأنا لم أعد صغيراً منذُ عشرات السنيين! ثمَ وجه لها سؤالاً محدداً: لماذا دخلت عليّ هكذا وبشكل مفاجأ وهو ينظر لها بعيون ثابتة دونَ أن تطرف كعيون النسر؟

 لقد .. ثمَ ترددت للحظة وأردفت: أقصد .. سمعناك وأنتَ تكلم نفسك ودارت في رأسنا الظنون والأفكار الشريرة، فلم أستطع الانتظار ونحن نراك هكذا وبهذا الوضع الصعب، الذي أرعب نفوسنا، وفي لحظةٌ ما، فكرت بالاتصال بالدكتور ولكني قلت لأتأكد بنفسي أولاً!

قهقه أبيها بكل عنفوان وقالَ بمرح الأطفال وهم يلهون ويلعبون:

يا عزيزتي الغالية، لماذا لا تريدين أن تكبرين؟! فإني أراكِ ما زلت طفلة صغيرة، ثمَ أقتربَ منها وكأنه يود شم رائحتها، فقال أنتِ تعرفين بأني كاتب مسرحي وقد تعودت منذُ سنوات طوال أن أدير الحديث بينَ أبطال مسرحياتي التي أكتبها لأتأكد من سلامة الجمل وكي أتأكد من أنَ الحوار لا ينقصه شيئاً! لذلك أتكلم بلسان الممثلين الذين أصنعهم بنفسي .. قطبَ حاجبيه وهو ينظر إلى أبنته، فشاهدها تصيخ السمع وكأنها تريد أن تحفظ ما يقوله! ثمَ تابعَ قائلاً: أعزائي خوفكم عليّ كانَ غير مبرر أطلاقاً، وها أنا أمامك وبكامل قواي العقلية ..

رجعت ليلى إلى الوراء وهي تبتسم بعدَ أن ضربت خدها جراء الصدمة والخيبة التي تلقتها وقالت وهي تبكي من الفرح: آه يا أبي لقد قلقنا عليك كثيراً، ثمَ نادت أولادها، فقصت عليهم بتعجل كمن يركض وراءها شخصاً ويحاول اللحاق بها! ما حدث، فضحك الجميع ببراءة، ليسود جو العائلة المرح والحب والرضا مجدداً، ولا تسمع سوى أصوات القهقهات العالية ها .. ها .. ها ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى