الأحد ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١١
طارق الأبواب
بقلم هيثم نافل والي

عندما يعبث الأخرس بالكلمات

دخلَ علينا شقتنا مساءاً عندما كنا نقيم في ميونخ، فجأة كالقضاء والقدر وهو يضحك كعادته، لتظهر أسنانه الصفراء بلون الذرة من كثرة التدخين... يهز أكتافه بحرية وبحركة بهلوانية وهو يقدم لنا فريقه المكون من ثلاث بنات وولدين وزوجته التي لا تنقطع عن إسقاط نظراتها على الأشياء بريبة عجيبة وبحدة ظاهرة... لتوحي للمرء ومن اللحظة الأولى أنها تقوم بتسجيل كل شيء في ذاكرتها، لتحسدها فيما بعد بخبث وعداء... بهدوء وروية! بينما كانوا أولاده- ما شاء الله – أعمدة كالتي تقف عليها كنيسة الفاتيكان! عبوسين الوجوه وكأنهم جاءوا للتعزية لا للزيارة... أعوذُ بالله من تشاؤمي هذا الغير مبرر! (ماذا أفعل وقد كانَ هذا انطباعي الصريح) كانوا ثقيلين الظل لا يبتسمون ويذكرونني- ولا أعرف لماذا – برجال الأمن العراقي سابقاً!

للأسف وبلا محاباة ... لقد خدشوا هدوء معبدنا بلا ذنب نقترفه! وما شدَّ انتباهي وعظمَ استغرابي وعقدَ لساني فزادَ الموقف ارتباكاً هو أثارت حفيظتنا عندما صعقنا لدخولهم بأحذيتهم دونَ خجل أو وجل... شقتنا النظيفة الجميلة التي نعتبرها ونردد أسمها على شفاهنا بفخر... معبدنا الروحي.

جنَ جنوننا، تبادلنا النظرات الملتهبة، أنا وزوجتي المسكينة التي شعرت بمصيبتها التي تعاني منها، فضغطت على يدها الصغيرة وأنا أشتعل حرقة وأذوب مرارة! وهمست بصوت غير مسموع: سأقوم بتنظيف الشقة فور مغادرتهم، لا تقلقي... ثمَ أردفت دونَ أن أجعل أحداً يشعر بنا: نعم أنها مصيبة وسقطت علينا كالصاعقة ولكننا ما زلنا أصحاب المعبد وعلينا استقبال مصليه بكل حفاوة... أليسَ كذلك؟!

 ردت دونَ تردد باستياء، مصلين!

قلت وأنا أتلعثم في الكلام بعدَ خانني الحزم ويبسَ حلقي وجف ريقي: نعم، أنهم ضيوفنا على أية حال...

لكن وبصدق أقول: لقد كانَ سمير صاحب رجال الأمن هؤلاء! أقصد رب الأسرة ودوداً ويحاول أن ينقي كلماته بحذر شديد مغالى فيه! كي تخرج الجملة من فمه جميلة وذكية قدر المستطاع، وقد خمنت بأن له قلب ملائكة، لكن حركاته التي يقوم بها تذكرني برقص الشياطين! لذا ظلَ انطباعي غير واضح المعالم وكأنني أمام لغز... بينما ظلت زوجتي صامتة وهي تقرض غيظها بهدوء غير معهود وكأنها تدعوا الشيطان أن يأخذهم...ولكن في سرها!

ما أن قدمنا لهم العصير الطبيعي وبعض قطع الكيك الذي تفننت في صناعته زوجتي، ولم تمضي إلا لحظات من الهدوء النسبي والسلام الحذر... حتى بدأت أصواتهم تعلوا في الآفاق، كزئير الأسد... ثمَ تلاسن الأخوة وكأنهم سيدخلون في معركة غير معروفة العواقب... نظرنا إلى السيد رئيس الفريق وقلبنا مقبوض وكأنَ الشقاء ينتظرنا على الباب! لكنه تسارع مستدركاً:

لا تقلقوا فهم على هذه الحياة الصاخبة متعودون! وأردتُ أن أقول له( وما ذنبنا نحن يا هذا) ولكني غرقت في بحر خجلي كالحجر وبقيت ساهياً، صامتاً أنتظرُ المعجزة أو رحمة الله!
وبحركة يد سحرية، سريعة وخاطفة أخرجَ سمير علبة السجائر التي كانَ يحتفظ بها في جيبٍ بداخل الجاكت العريض والطويل الذي يغطيه حتى ركبتيه، كالجاكت التركي! ثمَ أشعلَ سيجارة بكل وقاحة وكأنه في بيته... وهنا لم نتمالك أعصابنا، كالمرء الذي يشاهد أمه أمام عينية وهي تقتل!

نهضت زوجتي من مكانها وكأنَ عقرباً ساماً قد قرصها... وهي في حالة لا يعلم بها الشيطان نفسه! غادرت غرفة الجلوس بصمت قاتل. بينما أشتعلَ الغضب في رأسي كالنار وقلتُ ماسكاً أعصابي قدر المستطاع وأنا أقول له برجاء غاضب: أرجوك يا سيد سمير، نحن لا ندخن ولا نشرب الكحول ... ثمَ تغيرت لهجتي لتصبح متوسلة وساخرة... حتى علاقاتنا التي تربطنا بالآخرين لا تتعدى إلا الذين يحملون طباعنا، وكما ترى لا نقدم لزائرينا إلا ما هو صحي ولذيذ... ثمَ أردفت بتأثر واضح: يمكن لك أن تقول بأننا أصدقاء البيئة! واستطردت أقول بحماس حقيقي:ناهيك عن مرض الربو الذي تعانيه زوجتي منذُ ولادتها بقليل...

وقفَ كالنخلة وهو يشعر بأنه قد أهين! ثمَ طوي نظارته السوداء بعصبية حتى كادَ يحطمها! وصاحَ صارخاً بفريقه بعنجهية متوحشة: هيا بنا، سنطرق باب عمكم أبو قاسم وهو لا يبعد من هنا كثيراً... ثمَ دمدمَ قائلاً: سنذهب إلى الذي يقدرنا ويعرفُ قيمتنا... لا إلى غاندي وملته ومن لفَ لفهم... أصدقاء البيئة قال.. ثمَ بصقَ على الأرض بتقزز دونَ احترام... بعدَ أن طغى اللون الأحمر على عينية لتبدو وكأنها جمرة كعيون وحش.

بعدَ فترة من الزمن وبعدَ أن تعافت فينا الحياة... حضرت عن طريق الصدفة، ندوة عراقية موضوعها كانَ قد شدني وشجعني على الحضور( احترام الذات وأضرار التدخين) وقلت محدثاً نفسي:

آه... كم جميل أن يشعر المرء بالآخرين وأن يعرف قيمة نفسه فيحترمها كما يحترم الآخرين ويطالبهم بالمثل! ثمَ أردفت بثقة زائدة: بالتأكيد سأكون محظوظاً لتواجدي هناك هذه الليلة...
وما أن بدأت الندوة حتى صعقت في مكاني وكأني مت!

فقد وجدت رئيس الفريق- الأستاذ سمير- هو قائد الحملة وهو الذي يقود النقاش ويطرح الأسئلة بلحمه ودمه... لقد كانَ يتكلم وكأنه شخصٌ آخر... ثمَ لفته انتباهي علبة سجائره التي خبأها بشكل غير محكم في ثنايا الجاكت التركي... خرجت ضاحكاً وأنا أتأسف على وقت الحاضرين ثمَ شعرت بحسرة وبمرارة لجلوس هؤلاء أمام هذا الرجل الغريب، الأخرس الذي سيعبث بالكلمات...!

وأنا أتسلى في ضحكي... تذكرت زيارتهم، قضاءهم وقدرهم، أحذيتهم وسجائرهم، وأصواتهم التي كانت تطلق كالرعد في أفاق معبدنا الصغير الهادئ بكل سفاهة...

ولكن للأسف الموضوع لم ينتهي عندَ تلك الحدود...

فزوجتي ترفض بإصرار لا يعرفه سوى البحر!على إنها لم ترى في حياتها قط رئيس الفريق- الأستاذ سمير- ولم يأتوا لزيارتنا إطلاقاً ولم يطرقوا بابنا يوماً! بينما حاولت جاهداً أن أذكرها بذلك المساء الذي اقتحموا فيه شقتنا بأحذيتهم وكأنهم مستعمرين! لكنها تصر وتنكر كالملحد ولا تعترف! وأبقى أنا أؤمن، بأنهم كانوا في دارنا ودنسوا حرمة معبدنا وهم لا يفقهون..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى