الثلاثاء ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٢
بقلم عبد الجبار الحمدي

ورد القلوب الدامية...

جلس على الأريكة، ثم قرأ لصاحبة الرسالة... اليوم وبعد أن اكتشفت أنك لست الذي أحب، أرجو منك أن تعيد لي جميع رسائلي، أما رسائلك فقد مزقتها لحظة كتابة سطوري هاته، لك الشكر وأتمنى أن تعمل على طلبي الأخير منك.

سطور فجرت بداخله بركان من الغضب، رسالتها الأخيرة تلك، فمنذ عام مضى، في يوم ماطر بكثافة، زلت قدمها وهي تحاول اجتياز الطريق، كان هو الوحيد الذي هرع لنجدتها والأخذ بيدها، فالشارع بدا خاليا من المارة والمركبات بسبب غزارة المطر، أما هو فكان يعشق هطوله والوقوف جانبا, لمشاهدة وسماع القطرات تطرق أبواب مختلف الأشياء، إنها الحياة لكل شيء، شعرت حينما نظرت إلى عينيه بالدفء، هذه هي كلماتها التي ترددها دوما بعد أن تعارفا والتقيا أول مرة، قالت: أتعلم؟ شعرت ولأول مرة أن الحياة دبت بي وتأججت دفئا حين لامست يدي يديك، لا أدري!! لحظتها أحسست أن غزوا من فيض مشاعر حب يسري إلى دمي، لذا لعلك لاحظت الرعشة والقشعريرة التي سرت في جسمي؟! لم يكن سببها البرد أو المطر، إنما دفء يديك وما حملته من مشاعر.

أما هو فقد بات شاردا بمفردات صاغتها بجمل كانت كسديم جال الليل بحثا عن هجوع في مكان شاعري، استغرب تلك المشاعر في بداية الأمر! لكن وبعد أن البس جسده روحها بات محلقا نحو قناديل ليل طويل، للسمر فيه مع نجوم تجمعت تسمع قصائد عشق غريب، في ذكرى يوم ماطر، قال لها: أتعلمين يا دفء روحي؟ أنك بالنسبة لي كوردة القلب البيضاء الدامية، خلقها الله فائقة الجمال، إلا إنها تحمل الوجع دمعا تسقطه في لحظات ألم، شبهتك بها لأني أحس إن الجمال كله ينعكس برونقك في لحظة المطر، تبقين ألقة زاهية ما دمت تنبضين الحب مثلها تماما، همساته تلك كانت تدغدغ الحياة بداخلها، لذا أقسما أن المطر هو العالم الذي يفترشاه في أي لحظة تنزل أول قطرة فيه، أحبت المطر مثله، فكان الإشارة لكل لقاء، حتى لو كانا معا قبل ذلك، هو الناقوس لهما في الشتاء، لذا أحبا الحياة أكثر فيه دون الفصول الأخرى، تلك التي أمطرت هي سمائه برسائل حب، يبادلها هو زخات من الرسائل، حين تتلبد روحه غيوما بلوعة الوجد،حتى ذلك اليوم الذي جف المطر عندها، عمد كثيرا الى صلاة الاستسقاء، عل سماءها تتلبد بالغيوم، لتمطر شذرات توقظ نبض قلبها الذي توقف، طالما ذهب لوحده ساعة زخات المطر، يردد كلماتها عليه، إنها بقربه يشعر بها، أنفاسها لا زالت تخرج البخار، إنها تلفح وجهه، لا يمكن أن يصدق ما قرأ، فقد توازنه، صار يقضي الليل على مسطبة المتنزه، عدة مرات طرده الحارس حين أخذ يبيت وأنفاسها عليها، هو يميزه، فقد رآه أكثر من مرة مع تلك الفتاة الجميلة في لحظة أوج نسيان كل من حولهما، لاعت نفسه شعر أن حياته قد انتهت، وهاهي رسالتها الأخيرة في يده، تعمل على صلبه بمسامير الهجر المعوجة،ثار، غضب، دفع بآنية زهور القلب الدامي، سحقها بقدمه، خنق رسالتها محاولا إخراج أنفاسها تلك التي سممت حياته بحروفها، جمع كل رسائلها واتجه إلى منزلها، وصل وقف متصلبا، بالكاد أصبعه على الجرس، تنسم عطر رائحتها، بلع ريقه، دخلت السكينة إلى نفسه، أدرك حاله متسائلا أين أنا؟؟؟ هل يمكن اسمح للجنون بأن يقودني للتصرف برعونة؟ همست نفسه المشبعة ألما، لكنها مزقتك!! ومزقت كل رسائلك، أحاسيسك، مشاعرك، كبرياءك، هز رأسه... لا .. لا أظن ذلك، يا الهي أتوسل إليك ساعدني، أَملِ علي، ماذا أفعل؟؟ أنفتح الباب قبل أن يلمس الجرس، هاهي!! تقف أمامه، وقبل أن ينطق بكلمة قالت له: هل أحضرت جميع رسائلي؟؟

كان مُدهشا، مصعوقا لما يسمع، حاول إخراج كلمات وقفت على شفاهه، إلا أن الدهشة أفرغت كل معانيها فراحت مع شهقة عجب، لم يتكلم فقط مد يده التي أمسكت بالرسائل إليها، أخذتها دون تردد، فجأة فُتح الباب على مصراعيه، وإذا بشخص يأخذ الرسائل منها قائلا: أهذه هي؟؟ كلها على ما أظن، أليس كذلك؟ عموما أشكر لك صنيعك، إن أمل حكت لي عن كل شيء، وقد سامحتها، أوه .. أرجو المعذرة لعلك تتساءل من أكون، أنا أحمد خطيبها الذي سترتبط به في القريب العاجل، كما يسرني دعوتك من الآن إلى حفل الزفاف، هذا إذا لم يكن لديك مانع؟

كان الوجوم قد سيطر على جميع أطرافه، أفقده النطق، لم يتحرك ولا يدري ماذا يقول!!!؟؟؟ مجرد دموع دامية نزلت ساخنة دون إرادته، عبرت عن وجعه وبركان الغضب الذي قتل كل أحلامه البريئة، أمتص ألمه وحمله بعيدا عنهما، حتى وصل إلى المكان الذي ولد حبهما فيه، صرخ الآه بحرقة، أفزع الطيور التي سكنت أعشاشها جوا، هتك ستر صمت العاشقين، أخذ يحدث نفسه ... حفل زفاف!! دعوة.. أي جنون ذاك الذي أسمع، أمسى السقم توأمه ونديمه، فبالكاد يحرك جسده، راح يجسد لحظات الساعات والأيام القادمة لاقتراب يوم الزفاف، الذي كان الوقت فيه كمقصلة الزمن، ستقطع أيام عمره لا محالة وإلى الأبد، دون حسبان رن جرس الهاتف لأكثر من مرة، ضجر من تكرار رنته، مد يده، رفع السماعة ليسمع صوتا يقول له: آلو مرحبا أخ عماد، كيف حالك؟ أنا أحمد خطيب أمل، لقد طلبت مني الاتصال بك ودعوتك اليوم.. الآن إن استطعت لأمر هام، أرجو أن لا تتأخر إنها بانتظارك.. إلى اللقاء، يا لها من مكالمة غريبة!!! ما هذه الوقاحة والسماجة، كيف لها وبأي حق تطلب مني الحضور في يوم زفافها!؟ هل تظنني مجنونا؟ أو أحمق لأقبل دعوتها، وهذا الأحمد كيف تسمح له كرامته بأن يتصل بي فقط لأنها طلبت منه ذلك؟! حاول الجلوس، سحب جسده بصعوبة إلى الأعلى محاولا فهم ما يدور، كانت هواجسه تقلبه على لهيب مستعر، جعلت حرارته ترتفع، حمل على نفسه ألمها، ودون شعور خرج نحو منزلها، وما أن وصل حتى وجد لفيف من الضيوف الذين حضروا خارج المنزل وداخله، ينظرون إليه باستغراب!! فهيئته رثة والسقم قد تمكن منه لاشك، هذا ما كان يداوله بعض الحاضرين، تساءل ما الذي يحدث؟؟ لماذا ينظرون لي بفضول زائد!؟ ربما عرفوا بقصتي، هذا ما ردده لنفسه، فما أن دخل حتى استقبله احمد، أهلا وسهلا تفضل اجلس، رد بغضاضة لا .. لا أريد الجلوس... فقط أطلب من أمل الحضور لأسألها عما تريده مني، ولماذا أرسلت في طلبي؟ قال أحمد: لا بأس.. عليك أن تدخل إذن... هناك إنها بانتظارك في غرفتها، استغرب ما سمعه من أحمد، لكنه لم يكترث، تحرك باتجاه غرفتها وهو يرى العيون ترسل صمتها وفضولها خلفه، أتراها ترتقب ما سيحدث؟!!! دق على الباب ثم فتحه، شهق عماد بقوة، سقط إلى الأرض، حمله أحمد، أجلسه على أريكة قرب سريرها، وهلة مضت... بعدها أستعاد وعيه، فقال له أحمد: أنه طلبها، هي جعلتني افعل ما رأيت وما سمعت، كان ذلك بعد أن علمت بحالتها والتي ساءت كثيرا، كم كانت تعاني وتتعالى على وجعها، فقط لكي تراك وتَسعد بلحظات قليلة معك، كنت الأمل عندها،، لكن ما أن أخبرها الطبيب عن تفشي السرطان في جسمها، حتى حكمت على نفسها بالموت، بعيدا عنك، أرادت أن تجنبك العذاب معها، أرادت منك أن تكرهها لتنساها، لم يصدق ما يرى ويسمع، أمل... كيانه، سر حياته، مسجاة على فراش الموت وحيدة، لكن وجهها يشع نورا!! لا يمكن أن تكون ميتة، أجهش بالبكاء ... صرخ بشدة، رمى بنفسه عليها صارخا لماذا؟؟؟ لماذا يا أمل تتركيني أعيش بلا أمل؟؟!! لا يمكنك ذلك، ليس من حقك أن تقرري الموت بعيدا عني، لا ... لا .. يا حبي الوحيد، كان الجميع ينصت له وما يفعل، نظر إلى الجميع وهو يقول: أمل ماتت، تركتني.. هل يرضيكم ذلك؟ أجيبوني... لا تقفوا صامتين، ألتفت إلى أمل وقال: هاك يدي خذيني معك، فلا حياة لي بدونك.. سقط إلى جانبها، نازفا روحه كوردة القلب الدامي، كانت تلك هي القصة التي ذكرها أحمد في دفتر يومياته، الذي اعتاد أن يسطر فيه ما يراه ويسمعه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى