الجمعة ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم عبد الهادي شلا

القطار في محطته الأخيرة

ألقت التحية وأخذت مكانها في المقعد المقابل..

دون أن يرفع عينية..رد التحية وهو يقرأ في كتاب"الملاك الفاسد" بشغف..ما انتبه لوجودها

يلهث خلف الصفحات بلهفة لمعرفة المزيد عن هذا الفنان العبقري الماجن لكثرة انحرافاته وجريه وراء النساء..

كل النساء التي عرف تركت آثارها في رسوماته ما ترك إمرأة تمر في حياته دون (..) و أن يرسم لها لوحة..قتله الحب والفقر معا

الفصل الثاني صور حالة التردي التي وصل إليها وعن إدمانه بعد انتكاسته في الحب..

على باب الغرفة الحقيرة التي كان يقيم فيها أروع لوحاته .. رسم

ما تمكن من دفع ايجارها حمل الباب باللوحة المرسومة عليه لصاحب الغرفة

أفلتت ضحكة ساخرة من صاحب الغرفة جلجلت ،وفي وجهه صرخ..مجنون

القطار يطوي المسافة خارجا من المدينة الصاخبة نحو المدينة الساحلية

ما أروع هذا"البورتريه" وألوانه ..كم أنت رائع أيها الفنان(موديلياني)..حدث نفسه

ورأسه المثقل بالأفكار رجع بجسده إلى المقعد .. مد ساقيه..ألقى بالكتاب على المقعد

نظارتها السوداء الأنيقة أضفت روعة لجمالها ..تأمل وجهها

مال برأسه إلى الناحية الأخرى ووجهها يلاحقة

هل أعرفها؟ سأل نفسه..

لاأدري ..ربما التقيتها في مكان عام أو أنها من سيدات المجتمع الراقي اللاتي يظهرن في الصحف و المجلات

إنني أعرفها..ملامحها ليست غريبة .. ؟ حدث نفسه

الفضول لاحقه

يا إلهي..هل من الممكن أن تكون؟!!..لا

إنها تشبهها

عاد برأسه إلى الخلف و بالذاكرة يخترق بها الزمن

ولم لا..فقد مرت سنوات طويلة لم ارها

هي(ساره)؟؟

لو أنها تلتفت إلى الناحية الأخرى وينحسر منديلها قليلا لرأيت تلك الشامة التي تختفي قرب أذنها

ياإلهي..إنها تعيد ترتيب منديلها كما لو أنها تريد أن تقتلني بهواجسي وأمنياتي..حدث نفسه

***

أول مرة التقيتها في شرفة المعهد.. كنت أتأمل جمال الحديقة من أعلى حين أخذت مكانها على مقربة مني وفتخت كتابا تحمله في يدها

إلتفت نحوها وابتسمت مرحبا ..ما ابدت اهتماما

وأنا.. تابعت النظر إلى الحديقة

إنه كاتب غريب.. بصوت عال إلى نفسها تحدثت وكأنها تريد مني المشاركة

نحوها ..إلتفت ..؟؟

الكاتب يقول أن المرأة مجرد لعبة جميلة يهواها الرجل تحت حالة من الضعف أمام غريزة الامتلاك وبمجرد أن يتكرر هذا الشعور فإنه يألفه ومع الأيام تروح حلاوته وبهائه فينتكس الرجل ويبدأ رحلة أخرى مع العذاب جريا وراء نداء الغريزة التي تشتعل في داخله....

كأنها تريد رأيي..نظراتها عبرَّت

استدرت نحوها ..ليس كل الرجال..إن الرجل والمرأة كيان واحد لا تستقيم الحياة ولا تستوي دون التنسيق في عطائهما وبشكل ايجابي يحقق الغرض من وجودهما كما حدد الخالق طبيعة عمل كل منهما وخصائصة بصورة تكاملية ودون التضارب بينها..وأن التقائهما يحقق كمال الصورة من الغاية في وجودهما.....

ألاحق ردة فعلها ومدى تجاوبها. .وأنا أنظر في عينيها

إلى كتابها عادت وتركتني أبحث عن معاني أخرى في تلك النظرة الماكرة وهي تميل بوجهها إلى صفحات الكتاب بينما عدت إلى الحديقة أتأملها من الشرفة

أحببتها..

كنا في السنة النهائية وفي الأيام الأخيرة

كان هذا منذ زمن بعيد..

***

مع كتاب الملاك الفاسد وصورة وجه(سارة) الآتي من أعماق الذاكرة ووهج الاشتياق عاد إلى مغامرات هذا الفنان العبقري وحياته الماجنة .. بدا مرض السل يسري في جسده ويفتك به بينما حبيبته تلعب معه لعبة شيطانيه قضت على أخر أنفاسة بعد أن أدمن الخمر وباع لوحاته بسعر بخس ليسدد ثمن الكؤوس التي أودت بعقله وجسده النحيف .

***

جاءه اليقين حين انحسر المنديل عن الشامة التي طال انتظاره ليراها

وانفرجت أساريره وهم أن يسألها..

لولا أن ابتسامتها الرقيقة سبقتها وهي تقول:

منذ أخذت مكاني في المقعد هواجسي أخبرتني أنك (كريم )

كريم: وأنت سارة!؟

ما أصغر هذا العالم..

مفاجأة لم أتوقعها فقد مرت سنوات طويلة لم أسمع أخبارك فمنذ تخرجنا تفرقنا ودار بنا دولاب الحياة الذي ما توقف..أردفت

كريم:نعم..ولكنك لم تبرحي مخيلتي طوال هذه السنين وكنت دائما متفائلا بأنني سألتقيك في مكان ما..وها قد حدث..

بينما هي تداري مشاعرها التي كادت أن تنطلق لتملأ القطار بهجة وفرحا

ماذا تقرأ؟ سألته، بينما يدها سبقتها لتأخذ الكتاب

لايوجد خاتم في اصبعه..من الممكن أن يكون قد نسيه..خمنت

بينما هو يحدق فلا يرى دبلة بين الخواتم التي رصعت بها أناملها

لعبة الرجل والمرأة القدرية.. مرة أخرى.. بدأت

***

سارة:إنه كتاب رائع فقد قرأته عدة مرات.

رغم أنه يروي قصة حياة فنان من عباقرة الفن الحديث.. إلا أنه يحقق في العلاقة بين الرجل والمرأة ولكن الرجل هنا له صفة مختلفة فهو رجل غير عادي بل فنان دفع حياته ثمنا لحب إمرأة تلاعبت بعواطفه فمزقته وقضت على حياته.

كريم: قلت لك رأيا مشابها لهذا منذ سنوات.

سارة:حقا؟

كريم: ألا تذكرين ذلك اليوم الذي التقيتك في شرفة المعهد وكنت تقرأين كتابا يتحدث عن علاقة الرجل بالمرأة وأردت معرفة رأيي؟

بحياء مالت برأسها تتأمل غلاف كتاب ( الملاك الفاسد )..رسم جميل..!!

القطار يتمهل استعدادا للوقوف في إحدى المحطات

***

سارة:ما أجمل منظر الحقول الممتدة على جانبي الطريق وفي مثل هذا الوقت من النهار..

كريم:حقا إنه منظر رائع..فقد شاهدته من قبل فيمثل هذا الفصل من السنة ونفس القطار حين كنت أزور المدينة الساحلية في السنوات الماضية .

سارة:هل تسافر إلى المدينة الساحلية كثيرا..سألته

كريم :كلما شعرت بالتعب من دوامة العمل أختلس بعض الأيام للراحة والاستمتاع بهدوء المدينة وزرقة البحر .

لحظة صمت..ما سمعا دبيب القطار الذي يطوي المسافة بين المدينة الصاخبة والمدينة الساحلية

كلاهما بالسؤال الذي يلح ..انشغل

هل؟

كلاهما معا..

تفضلي..قال

هل لديك أبناء؟

لا..أجاب

وأنت ؟سألها

لا..أجابت

رباه لم أفهم شيئا..فربما هي متزوجة ولكنها لم ترزق بالأبناء وربما أنها لم تتزوج..حدث نفسه (كريم)

مازلت صغيرة وسترزقين بالأبناء في المستقبل ..!! أضاف بخبث

أنا ما تزوجت..أجابت

وأنت؟ سألته

وأنا كذلك..(كريم)

***

القطار في المحطة قبل الأخيرة.. توقف

حرارة الحوارقطعته أصوات بائعي الكعك والبيض والحلاوة ..جرائد..مناديل .

بينما هو يتأمل الوجوه المتزاحمة على الرصيف كانت تترائى له الوجوه التي رسمها الملاك الفاسد وأجساد النساء العاريات وألوانه الزاهية التي لها دلالاتها ومعانيها في كل لوحة .

فتح الكتاب عن صورة موديل عاري

كريم:أنظري إلى هذا الجسد وقد بدت مظاهر الجمال فيه رغم أن الفنان قد أكثر من اللون الأخضر والأزرق ليرفع من قيمته و قد ترك العيون بيضاء بلا لون..

سارة:نعم..إنها لوحة رائعة الجمال وقد تميز هذا الفنان بأن جعل العيون بلا "حدقة" ليجعلنا نشعر بأنها تنظر في كل اتجاه..علقت

***

القطار رويدا رويدا.. إلى محطته الأخيرة ،تحرك.

صمت..طويل

كل إلى هواجسه ..عاد

سارة:هل أنت في رحلة عمل؟

كريم:تقريبا..ولكن القدر وفي اللحظة الأخيرة منحني أجمل لحظات العمر التي انتظرتها

سارة:ما فهمت!!

كريم:أنا ذاهب لخطبة فتاة من أقاربي

سارة:وهل.... أحبتها؟

كريم :أردت أن أملأ فراغا اتسع في حياتي مع مرور الأيام وما أستطعت أن أمح صورة حبيبة تربعت في قلبي طوال هذه السنين ..و يبدو أن قلبي لا يتسع لامرأة غير التي أحبها !!

***

بعد سنين الانتظار..و ثلاث ساعات هي المسافة بين المدينتين ..توقف القطار في محطته الأخيرة.


مشاركة منتدى

  • هذا الكتابُ رائع، وكذلكَ قصتكَ الرومانسية ..
    والرحلةُ عبر القطار .. تعني أشياءَ كثيرة من الشاعر ..

    لا تغيبُ عني صورةُ "جين" الإمرأةُ الصابرة الشجاعة .. حبيبة "أميدو"

    لك وُدِّي ..

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى