الاثنين ٢٧ شباط (فبراير) ٢٠١٢
بقلم أيمن خالد شداد

صيف كثير التثاؤب

كانت الأيام تمر بي كقطار هرم طعنته سكة الحديد فصار جريحا لا يقوى على الحركة، وأنا أعيشها متلحفا بالصبر الممزوج برائحة الزنبق الصيفي العنيد، أراقب الزمن مراقبة المشتاق لعروسه ليلة العمر.

هكذا تسير حياتي في الغربة الصماء سير أفعى قد ابتلعت لتوها فأرا سمينا فتأخرت عن جحرها ساعات وساعات، لقد نصبت لأيام الغربة مشنقة، وكنت أعدمها يوما بعد يوم بأي شيء حتى لو كان تافها، فالمهم لدي أن تسير الأيام وتنقضي كي تأتي العطلة الصيفية، فأعد العدة عائدا إلى حضن أمي إلى وطني..... كم كنت سعيدا في تلك اللحظة.

لقد جهزت أمتعتي ووضعتها في السيارة، فطريقي إلى الوطن برية سأقطع بيداءها وفيافيها وقطع ظلامها الدامس قطعة قطعة ...

الآن بدأ الصيف عندي ...

مرّ ذلك الصيف بي كحكاية يونانية طويلة، يحكيها (حكواتي) يعاني من السعال، فينطق كلمة ويعطس عطسة ويبقى ذابلا طيلة الوقت، فينام جزء من المستمعين ويمرض الآخرون ...
سأقيم في بلدي أربعين يوما، أتوقع أن تمر سريعا ككل صيف وردي أقضيه في بلدتي بعد غياب طويل، ولكن الامر هذه المرة سيكون مختلفا، فالرياح تجري بما لا تشتهي السفن ـ كما يقال ـ .

هجر المضاجع:

كانت أسرتي قد انتقلت لتوها من قرية رقدت في أحضان وادي الأردن زمنا طويلا، إلى مخيم لبس عباءة المدينة منذ وقت ليس ببعيد، وكأنني قد تحولت من نعاس مميت إلى صحوة مؤرقة خانقة فلا صوت يعلو فوق صوت الضجيج.

بيتنا الجديد جسد بلا روح " لا ماء في البئر والقلب " نسيت ذاكرتي هنالك في تلك القرية، هدير نهر اليرموك، وصوت حفيف أشجار الزيتون، ووجع ذكريات الطفولة، ورائحة الميرمية الآتية من جباريس تلك القرية الفلسطينية التي أرضعتني أمي حبها كما أرضعتني قلبها.

منذ اليوم سأعيش بذاكرة تتلاشى غيمة غيمة، لا حياة لاموت، لا حركة لا سكون، مفردات ستشكل ذاكرتي الجديدة في صيفها الأول ( نعاس، ملل، فراغ، كسل، يبس، ذبول، سكون، جفاف، هدوء قاتل، إحباط، قيد، مرض، دائرة مغلقة، شارع طويل، إهمال، فقد، نسيان، تيه، ضياع، اندثار، موت الذاكرة.

أيامي توائم، وأحداثها رتيبة؛ أصحو كل يوم متأخرا رغم أنفي فصوت ضجيج السيارات والمارة يشكو منه حتى الراقدون تحت التراب، الكل يجب أن يصحو في وقت واحد، إنه قانون المخيم العشوائي ثلة من المارة يذهبون لعملهم يتحدثون عن نظام العمل القاسي، وطلبة يشكون من مدير مدرستهم لأنه يسجل في ذاكرته العجوز كل تصرفاتهم، وشباب عائدون لتوهم من وهج السهر في إحدى المقاهي القريبة من المخيم، كل هذا يدور حول رأسك وكأنك تقطن الشارع، والذي يفصلك عن الشارع (20 سم) هي حجم قطعة الباطون المكسوة بالأسمنت، فكان من البديهي أن أستمع لكل الأحاديث العابرة وأتدخل في خصوصيات المارة، والعكس صحيح ...
كنت أنام ـ أيضا ـ متأخرا متأرقا كل ليلة، كأنني أقسمت أن أسهر حتى تنام آخر أم سهرت على طفلها المريض، وآخر امرأة هجرها زوجها ليلة العرس لخطأ ما في ذاكرتها، وآخر صفصافة حرقتها أشعة الشمس فباتت تبكي أوراقها المشتعلة ورقة ورقة ...

أنظر كل صباح في جدران بيتنا المتعرق، أبحث عن ذاكرة أعيشها للحظات، فيقطع أفكاري أصوات ولغط من هنا وهناك، كأنهم يعيشون داخل بيتنا أتكلم فيسمعون وأكلمهم فيجيبون، لا حدود للحدود هنا، لا خصوصية تذكر، فأنت وحياتك مشاع للآخرين، ملك للعابرين يعلكونها ثم يقذفونها ...

في بحر اليوم أخرج برفقة أحد أقاربي الذي اعتاد على زيارتي بشكل يومي طلبا للتسلية، كان هو الوحيد الذي يقتل مللي، ورغم ذلك كانت الساعات التي نقضيها خارج البيت تمر ساكنة برائحة الموت، جفت الكلمات ويبست في ذاكرتي المتعرية، سكون دائم، نعاس مميت، جفاف مريب، هدوء قاتل، إحباط مستمر، هكذا توالت الأيام ثقيلة حتى انقضت ...

كرهت ذلك الصيف! متى سأعود إلى الغربة؟!

جلست وحيدا على سطح بيتنا بعد أن اجتاحني الظلام الدامس، لم أعد أرى النجوم لتسليني، بكيت نفسي، بكيت غربتي في وطني، انهرت تماما، لم أعد أقوى على الحركة، أصبحت مبعثرا كغيمة مزقتها أشعة الشمس الحارقة، لم أعرف سرّ بكائي ... فقط بكيت.

سلام من (العين )، تذرف دموعا حارقة على فراق أحبتها ، تراقب عن كثب موعدا مع قمر خريفي يكفكف دمعها، ويزيل طبقات الغمام التي حلت ضيفة ثقيلة على بؤبؤها. فهي تبحث عنه كل يوم تبصره في ساعات السحر، لكنها سرعان ما تفقده حين ترقد نائمة بأحضان الأحلام المزعجة،هي قلقة كثيرة الدوران والزوغان، تبحث عن طيف من الحنان، يداعب رعشتها فيهدئها ويمضي بها إلى بر الأمان ؛ سيعود بها الزمان بل سيمضي بها إلى ذلك اليوم المنشود، يوم تتحول تلك الدموع الثقيلة نهرا يحملها إلى مكان تبصر فيه من جديد ،وتشاهد من تريد ، فتخرج من حزنها العنيد إلى فرحها الأكيد .

أنا الآن في مدينة العين، عدت من جديد لألملم نفسي المبعثرة، لأستجمع ذاتي المفقودة بسبب صيف كثير التثاؤب، أقرأ كلمات تلخص معاناتي في ذلك الصيف الثقيل ...

فراغ فسيح. نحاس. عصافير حنطيَّة
اللون. صفصافَة. كَسَل. أفق مهْمَل
كالحكايا الكبيرة. أَرض مجعَّدة الوجه.
صَيْف كثير التثاؤب كالكلب في ظلِّ
زيتونة يابس . عرَق في الحجارة.
شمس عمودية. لا حياة ولا موت
حول المكان . جفاف كرائحة الضوء في القمح
لا ماء في البئر و القلب .
لا حبَّ في عَمَل الحبِّ... كالواجب الوطنيِّ
هو الحبّ. صحراء غير سياحيَّةٍ، غير
مرئيَّةٍ خلف هذا الجفاف. جفاف
كحرية السجناء بتنظيف أعلامهم من
براز الطيور. جفاف كحقِّ النساء
بطاعة أزواجهنَّ وهجر المضاجع. لا
عشب أَخضر، لا عشب أَصفر. لا
لون في مَرَض اللون. كلّ الجهات
رمادٌية
محمود درويش ( الغائب الحاضر )

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى