الأربعاء ٢٩ شباط (فبراير) ٢٠١٢
قصة قصيرة
بقلم علي كاظم داوود

وجــه

ما يلفت الانتباه في وجهه تلك الأخاديد التي نحتتها السنين، وجبينه الذي لن يختلف عليه أحد صفحة بلون القمح، أنفه المدبب المعروق مثل حجرٍ برّاق في وهج الشمس، وكل ملامحه توحي بأنه تحفة مُنحت روحاً بشرية.. عيناه الحادتان، شعره الأبيض الخفيف، جسده النحيل، كفه قاسية الجلد المصبوغة بألوان كثيرة، حركاته المحسوبة، وحتى كلماته المقتضبة تجبرك أن تصنفه في خانة الأشخاص النادرين، فلن تجد ـ مهما عشت ـ من يشبهه.

تراه ينهمك في العناية بأدق التفاصيل فيما يصنعه، يسفح الساعات الطويلة من أجل أن يجعله كما يريد، ليعرضه في أشعة الظهيرة النافذة عبر الباحة الوسطى غير المسقفة، في محلّه الذي يعرفه كل سكان المدينة، ويقصدونه لاقتناء صنائعه الغريبة. والكل موقنون ـ دون اتفاق مسبق بينهم ـ بأنه يمنح جزءا من روحه لما يصنعه...

الأصباغ، الخشب، القماش، البلاستك، الزجاج، المعادن والحجر، واشياء أخرى كثيرة لا يعرفها أحد، كلها تأخذ من أنفاسه، عند تشكلها أو امتزاجها في قطع ولوحات فنية، فريدة في الإبهار..

يذوب بين يديه القديم بالمبتكر، ويتفق الفلكلور مع الحديث.. فالتراث حاضر بكلّه، والحاضر تراث يولد مرة أخرى برعاية من أنامله الطيعة لأفكاره، في تماهٍ سحري يهيمن على لبّ الإنسان ويخطف نفسه.

هذا المشغل الكبير لم يأبه يوما بدخوله الألفية الثالثة، فلازالت أنامل الماضي ترسم زواياه وجدرانه، وتعبث بسقوفه ذات الألواح الحديدية الصدئة التي تشابك بينها طابوق مزخرف يتماسك بالجصّ مشكلا عدة أقواس طولية.. مثلما تنطبع بصمات تلك الأنامل الخفية على وجه صاحبه ذي الأخاديد العميقة التي تشبه مسارب الدمع، أو تشي بأن حاملها حاول مواجهة ريحٍ شرسة، ولم ينحنِ أمامها، حتى تركت مخالبها آثاراً عليه.

ما يضفي على المكان طابع الهيبة هذه الشناشيل الخشبية المنقوشة وهي تبرز إلى الأمام، مظللة بشرفتها العابقة بالماضي واجهةً كل ما فيها باب خشبي وشباكان على جانبيه، وهو في الأصل بيت قام بتحويله إلى مشغل ومحل لبيع ما يصنعه، لأنه يمتلك موقعا تجاريا جيدا في السوق الكبير لمدينة العمارة، ومساحة واسعة تفي بأكثر من غرض.

في مقتبل عمري كان يأخذ بتلابيبي فضول عارم لاستكشاف خبايا ذلك المكان العتيق، المليء بالأسرار والعجائب.. نوبات كثيرة اجترني لأن أنظر من خلال ثقوب بابه أو شبابيكه الموصدة. بابه الصاجي ذو الزخرفات والمقرعة النحاسية يجلل الرائي بانبهار من لامست أنامله وجه التراث المجهول، أو نفضت الغبار عن خباياه. شبابيكه بأطرها الخشبية تثري رغبة الاستكشاف الطفولي وتُواشِجُها بقضبان الحديد الممتدة بينها، حيث طلاؤها المتقشر عن بعض ابدانها الاسطوانية لم يكن مبررا لأن ينخرها الصدأ رغم تراميه عليها مثل لوثاتٍ عابرة.

من غير الممكن معرفة ما تضفيه صنائعه على من ينظرون إليها، كاستحالة قراءة الأمزجة، فكل شخص يرى ويشعر بإزائها بشيء مختلف يتملكه، شيء قد يكون مثل السحر، مثل ما يقوم به الجن في ظلام المنازل أو البساتين المهجورة، خوف أو سكينة، نشوة أو حزن، أمل أو يأس، كما لو انها تحكي، أو تحاكي صوراً من حياة لها قدرة على البوح، أو رسم الأخيلة..

طيور تهم بالطيران كما لو أنها تختط طريق الغياب. فرس تلاعب مهرها بحنان يكاد ينطق، خيول عربية بيضاء كالثلج تعدو نحو الأفق الذي لم يغادر مكانه، وأخريات شهب عليها فوارس ملثمون تتقدمهم رايات ضوء. أناس يشبهون الأسماك تغمرهم المياه وهم لا يشعرون. قطط فزعة. سكاكين معلقة في الهواء، أوانٍ نحاسية مبعثرة في الضوء يندلق منها لعاب زجاجي يسيل بلا توقف. زقاق من منازل قديمة تمنحها السنين قدرة الحكاية عن الماضين، صبية يبعثون الحياة في الأزقة الضيقة. مسجد يعبق بالقداسة الصاعدة بأعمدة من وهج نحو السماء، ملائكة بأجنحة لا ترى، مصاحف مغلفة بالجلد أو بالقماش المطرز بخيوط ذهبية. سوق يضج بالباعة والمشترين، رجال بكوفيات مطرزة ونسوة بعباءات سوداء، فاكهة براقة وخُضَرٌ يانعة. نهر يسير مجهدا يقاوم الجفاف، زوارق بلا صيادين. دلّة تزبد القهوة في فوهتها الشبيهة بمنقار كبير. نخل يطاول الغيوم سعفه لكن لا ثمر فيه. أكواخ من القصب تطفو بين المياه والبردي. أقلام. كراسي من جريد النخل. فوانيس، فوانيس لرمضان ولعاشوراء، شمعدانات كبيرة وصغيرة.. وصنائع أخرى لا تحصى، ولا تبقى.. فلم يحتفظ يوما بواحدة منها، يصنعها ليبيعها، أو ليهديها لكل من أعجبته ولا يملك ثمنها، كأنه أراد أن يوزع روحه على طول المدينة وعرضها..

كان يتحسس انبهاري بما أراه في لحظات استراقي النظر لمعروضاته، عندما قادني من يدي إلى الداخل، وأعطاني أجمل وأعجب ما بقي عنده، قبل أن أسمع نبأ موته بساعات، أعطاني سفينة من الخشب طولها خمسون سنتيمترا بأربعة عشر شراعا بلون السماء، لا زالت تطفو في فضاء غرفتي إلى هذه اللحظة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى