الأربعاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٢
بقلم نبيلة عيلان

صرخة جسد

كانت تجلس هناك على الشاطئ، تداعب مياه البحر بقدميها الحافيتين، ترمي بنظراتها المثقلتين، إلى أبعد مسافة من البحر، كأنها تنتظر قدوم أحد ما. تحدّق يمينا ثم شمالا،كما وأنها تبحث عن شيء ما، ترسم على شفتيها - التي تحوّلتا إلى وردة يابسة - ابتسامة حزينة تختصر روايتها. تلك الابتسامة تعبّر عن شيء مكبوت بداخلها، ترفض الإفصاح عنه، مقرّرة عزل العالم في صمت، ومحوصورتها من ذاكرة من يعرفها، شاقّة طريقها نحوالمجهول.

تنزل من مآقيها دمعة، تعبر وجنتها في هدوء، تمرّر يدها وتمسحها برفق. بقيت ساكنة للحظات، مغمضة العينين، سارحة بخيالها. ثوبها الأسود الشفاف قليلا والعاري اليدين يتطاير مع مداعبة الرّياح له، كأنه هوالآخر يرغب في الرّحيل، يودّ لوالزمن يتوقف ليرتاح من هذا الجسد النّحيل، الذي يزيد له نحالة يوما بعد يوم.

تفكّر..وتفكّر، وعيناها ما تزالان مغمضتين، فجأة يعلوصوتها، بين الضحك والبكاء لا يمكن لأحد تمييز حالتها النفسية المزدوجة تلك. تظلّ كذلك لساعات، ضاحكة باكية. لا أحد من سكان المنطقة القليلين -الذين يصادفونها يوميا في نفس المكان من الشاطئ - يعلم ما تخفيه مهجتها.

بعد أن تمضي النّهار ممدّدة على الشاطئ، تلجأ في سواد اللّيل للاستلقاء تحت سقف أحد المنازل المهجورة الذي تشهد عليه السّنون أنه كان منزلا لأحد النبلاء، غادر المدينة في ظروف غامضة باتجاه المنفى.

لم يثر أبدا اختيارها لهذا المكان مستقرّا لها، فضول العابرين، رغم وجود أماكن أكثر هدوءاً وأمنا، خاصة وأن المنزل المهجور بات وكرا للصوص وشاربي الخمر ومتعاطي المخدّرات. كثيرا ما حاول هؤلاء الاعتداء عليها، لكنهافي كل مرة، تنصّب سلاح الحقد والانتقام ضدهم، لتتحوّل من امرأة بريئة إلى وحش كاسر، مجرّدة نفسها من كل تراسيم الرحّمة والغفران، نافثة سمومها في كل ركن من المنزل.
لم يكونوا ليغفروا لها خطيئتها في ذلك اليوم، لم يكونوا ليغفروا انكسارها ولا ضعفها أمام قوانين الحب، لهذا اختارت مسلكا آخر لحياتها بعيداعن الذل ّ والمهانة واللّوم. تتذكّر يوما وهي تجلس في ساحة المنزل، تقطف من الرّبيع بعضا من ألوانه السحرية، ومن الشمس قبلا دافئة،قبل أن تخرج والدتها، ترشقها بنظراتها، ثم تهمس
 ماذا جرى لك يا طفلة، لما تغيّرت فجأة، كلامك، طريقة أكلك، حتى جسدك، ألا تنظري أبدا في المرآة؟
رفعت عينيها إلى والدتها محاولة تفادي نظراتها التي تحمل ألف معنى وعلامات استفهام
 هل للأمهات فعلا الحاسّة السادسة؟ أم أن ما يحدث لا يمكن إخفاؤه..؟
ليتني أستطيع أن أخبرك ما بي، ليتك تحملين عني جبل الأمل الذي في صدري،ليتني أستطيع أن أرتمي في أحضانك وأقصّ عليك مأساتي.. لكني..

استيقظت من غفوتها، محاولة إمساك نفسها عن البكاء، حتى لا يطفح اليقين في لحظة، قالت في هدوء وبنبرة حزينة وخوف شديدين..
"ماذا بي، أعلي ّ أن أخبرك كل مرّة بما يحدث لي كل شهر مثل كل النساء، أنسيت أني أصبحت امرأة منذ خمس سنوات، وهذه حالة عادية، نتعب، نمرض،نزيد في الوزن، نأكل بشراهة، حتى إننا نتقيّأ، لكن كل هذا عادي بالنسبة لامرأة وأنت أدرى بذلك "

"أصمتي الآن، حتى لا يسمعك أخوك، إنه نائم في غرفته.."

كان ذلك اليوم بداية لفضيحة أبدية وحزن أزلي، محاولة في الكثير من المرّات اختصار الزمن والحياة، حتى يمر العمر وتنتهي كل تلك المرارة والشجون. لكن كانت فقط البداية، فبعد شتات عائلي، اختارت أن تنغمس في وحدتها، راحلة إلى العدم، مستسلمة للقدر. تسير بين دهاليز قلبها النازف، في رحلة البحث عن النسيان.

لم يعد المكان مناسبا لها، لكن ذلك كان قدرها، في هذا المكان المهجور ولدت همومها، وفيها تعاظمت أحزانها، وقرّرت أن تدفن آخر ذكرياتها هنا، مدركة أن الموت فقط هوالذي يريحها من هذا العناء، لكن الخطايا كثيرة، والطرق لكسب المغفرة والعفوقليلة. ترفع عينيها نحوالسّماء، شاردة الذهن، مستنجدة من خالق الكون، تسرّ إليه ما يثقل كاهلها من هموم، مطالبة الرّحمة، محاولة بذلك طرد آلامها، ورغب عقلها عن التفكير، لكن عبثا تحاول، فاللّيل قد أتى، حاملا معه سكونه وظلامه، وعقلها في كذا حلكة يفتح الأفق لاستبداد الآلام، يغيب عنها النوم، لتستسلم أخيرا للذكريات، معيدة رسم خارطة مآسيها في مخيّلتها.

يعود بها التفكير إلى ذلك اليوم المشؤوم، يوم من أيام الشّتاء البارد، قطرات المطر تتراقص في الهواء قبل أن تجد لها مستقرّا على الأرض، أوعلى أجساد البؤساء مثلها، ممن لم يحالفهم الحظ في امتلاك سيارة، أومظلّة، أوحتى ثمن تذكرة الباص. كانت هي ضائعة بين قطرات المطر التي أصبحت عنيفة، وكأنها جاءت لتلومها على فقرها وتعاستها الأبدية، لم تكن تملك مظلّة ولا فلسا، تبحث في جيوب ملابسها على عجل ثم في حقيبتها اليدوية، لكنّها لم تعثر على أي شيء يدفع الغبن عنها، لم يكن في الحقيبة سوى بعض الأوراق الخاصّة، بطاقة تعريف، بطاقة الطّالب، وجريدة قديمة عليها عنوان شركة إشهار، قرّرت تجربة حظّها علّ الحياة تبتسم لها أخيراً. لكنّ القدر خطّط لحياة أخرى، وانتهى مصيرها بين أحضان رجل في الأربعينيات من عمره، الذي نزل عليها من السّماء كفارس شهم يرغب في إخراجها من حياة الفقر والضّياع التي كانت تعيش فيه.

ربّما كانت صغيرة ساذجة، عمرها لا يتجاوز السابعة عشر، كانت تقطن في منطقة نائية قبل أن تنتقل إلى المدينة، حيث تختلف الثقافات، ولا مكان للعادات والتقاليد المقام، وجوه متعطّشة للجسد، لاغتيال البراءة، لم تكن لتقبل لولا إصراره عليها، لولا الأمطار التي تهطل بغزارة وكأنها تستعجلها للخطيئة، دون إدراك وجدت نفسها تجلس إلى جانب ذلك الرّجل الذي كان في عمر والدها. تستيقظ من غفلتها عندما تسمع صوت الباب يغلق أتوماتيكيا تنظر إلى الذي يجلس أمامها، ويبتسم لها كمن وجد كنزا ثمينا طال انتظاره، يخيّم الصّمت على المكان، ثم تخرج الجريدة من حقيبتها، وتقول
 كنت أبحث عن هذا العنوان، أتعرف أين أجده سيّدي؟

دون أن ينظر إلى الجريدة أويتمعّن في العنوان، ينظر فقط إليها بعيون عطشانة، جائعة
 لا تقلقي.. بعد مشوارنا القصير أوصلك إلى حيث تريدين
 أنت تبحثين عن عمل لا..؟
تهز رأسها أن نعم ثم يبتسم ويقول
 أنت محظوظة حقّا، كنت أبحث عن سكرتيرا لمكتبي..أتقبلين العمل معي؟
 لست أدري إن كنت أستطيع العمل معك سيدي لأني لا أفهم كثيرا في الأعمال الإدارية
 ستتعلّمين مع الوقت

تبتسم محاولة إخفاء سعادتها، شاكرة القدر الذي وضع في طريقها أملاً جديداً اسمه السيّد حسن.
كانت تلك آخر الكلمات التي سمعتها من فمه..فقط عيناه كانتا تتحدّثان نيابة عن لسانه. يداه بدأتا تداعبان شعرها بابتسامات يرمقها، وبالخوف يملأ قلبها، لكن لا يمكنها فعل أي شيء، محاولة استجماع قواها، وعدم التفكير فيما سيحدث بعد أن تخطو أوّل خطوة، تعبر بها عتبة باب بيت عتيق، منعزل عن العالم.

لم يعد كل ذلك مهما اليوم، كل شيء انتهى في لحظة طيش، دون تفكير، حتى أنها نسيت العنوان الذي كانت تبحث عنه، وما كانت ترغب القيام به، ضاع كل شيء في دقيقة بين أحضان هذه الجدران التي لم يبقى فيها سوى بقايا الذكريات، منتظرة يوم تثأر فيه لبراءتها وسذاجتها وقدرها. فقط أمل لقاء من هدر بحياتها، يجعلها متمسكة بالدنيا، رغم أنها أصبحت مرتعا للآلام.
يوقظها ككل ليلة من سطوة الذّكريات، صوت قهقهات أولئك الشّباب المخمورين، الذين يسكنون جوارها. أصبحوا لا يأبهون لوجودها، لم يعد جسدها يثير شغفهم ولا عطشهم، بعد أن شاخ، وأصبح متلاصقا بهذا الثوب الأسود، الذي يمثل صورة عن روحها التي استوطنت عليه الكآبة والأسى. هي أيضا لم تعد تكترث لهم، بالنسبة إليها هم مجرّد تماثيل أودمى متحركة، ما داموا بعيدين عنها.
وجودها في هذا المكان من الشاطئ، أصبح بالنسبة لسكان المنطقة شيئا عاديا، حيث يعتبرونها صخرة من بين الصخور العالية في اليمّ، أوقطرة من مائه، أوبقايا أطلال منسية في هذه القفار، غير مبالين لحزنها، لغنائها أوبكائها.

كانت تستلقي في نفس المكان من الشاطئ، من الفجر حتى غروب الشمس، كعباها عاريان، مغمضة العينين كانت، عندما اقترب منها أحد الرّجال في ذلك اليوم المنتظر، عن عمر يناهز الستينات، يتوقف عند رأسها..ينظر إليها طويلا قبل أن يقول
"السّلام عليكم "..

أحسّت بقشعريرة تعبر جسدها تفتح عينيها على عجل، تتوقّف بسرعة، تحدّق في الرّجل الذي يقف أمامها ويبتسم ويقول

"كنت أبحث عنك.."
"كنت أنتظرك "
"هل أخبرك أحد عني ؟"
"حياتي الضائعة "
"لم أفهم"
"ستفهم قريبا "

تخرج من جيب ثوبها البالي سكينا، كان المتسكّعون قد تركوه بين الأطلال..
ينظر إليها الرّجل باستغراب، تهجم عليه كوحش مفترس، متعطّش للدم، تغرس في قلبه الخنجر، لم تعلم كيف ومتى ومن حتى فعل ذلك، مستغربة من وحشيتها، وإلى أي حد غرس الوصب سكاكينه في كيانها، وبقدر ذلك نصبت في قلب ذلك الرّجل سكينها، حتى رأته يقع أرضا، وهويرمقها بعيون استعطاف ورحمة، تجلس على ركبتيها وفي يدها الخنجر الذي يقطر دما، تبتسم وتهمس..

"عرفتك مذ سمعت صوتك أوّل لحظة "
"هل تتذكّرني..كيف تتذكّرني، وقد مررت على الآلاف مثلي "
"لكني..أخيرا استرجعت عذريتي "
"اليوم فقط أستطيع أن أنام بدون عذاب ضمير "

تستلقي إلى جانب الجثة الهامدة، تغمض عينيها، في يدها تمسك السّكين الملطّخ بالدّم، قبل أن تمرّ موجة عالية على جسديهما، لتحمل معه ما تبقى من الذّكريات والأسى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى