الاثنين ٩ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم عبد الرحمن البيدر

عويلٌ في ليلةٍ باردة

في طرف الحي ثمة عويل، الليل ألقى بنفسه على المدينة بتثاقل، الطرقات خالية إلا من رائحة الماء الآسن، وبقايا الأحجار المتكسرة التي يتغير مكانها عندما تركلها دواليب السيارات، كنت مكوماً أمام المدفأة أحدق باتجاه البخار الذي ينفثه "كتلي" الشاي من الثقب الذي يتوسط غطاءه الذي خلعت عتلته البلاستيكية، في رأسي ثمة أسماء لحوادث تغزو حياتنا كل يوم، موت.. دم.. أصوات قنابل.. دخان.. ازيز حوامات، الفضول الذي يلازمني دفعني لأن ارتدي نعليّ وأخرج لأقف أمام باب الدار عسى أن أرصد أحداً أستل منه جواباً عن سبب ذلك العويل، حين كنت صغيراً لم أكن أختزن في ذاكرتي أسماء تلك الحوادث، كنت أعتقد أن سبب أي عويل هو إما أن أحداً قد مات أو أن هناك شجاراً بين طرفي نزاع من أهل الحي..

في الشارع الذي يمر من أمام داري رصدت رجلاً كأنه قادم من زمن بعيد، عندما اقترب مني وسط ذلك الليل الحالك، نظرت إليه وعيناي مفتوحتان بأقصى ما استطيع، لم يكن منتبهاً لوقوفي أمام باب الدار، استوقفته لأسأله علّه يعرف بالذي يجري، نظر إلي بعينين غائرتين واستل من قعر صدره تنهيدةً ثقيلة وبضع كلمات.. كنت أقف على مقربة من السد حين أراد النهر ابتلاعه، تأملت المشهد طويلاً، تمنيت على السد أن يصمد ويقاوم ذلك النهر الهائج، كان السد مدعماً بشكل جيد.. وبواباته تستطيع استيعاب تيارات الماء الهائجة، أردت تذكيره كيف كان عنيدا في المرات السابقة رغم أن الماء في بعض الأحيان كان يلامس هامته، وقبل أن أبلغ أطراف تأملاتي اختفى السد، كان النهر كأنه غول.. زممت شفتيّ وحدقت نحو الفضاء الأسود الشاسع.. ترى أيهذي هذا الرجل، أم أنه قادم من ماضٍ بعيد، استمر العويل ولكن بدرجة أخف.. مازال الفضول يلازمني، اندفعت باتجاه العويل لأعرف حقيقة الأمر، سرت ببطء وبتردد وسط ذلك الظلام الذي تتنازعه الهواجس، وبين إشراقات الفوانيس الباهتة التي تنبعث باستحياء من خلف ستائر الشبابيك التي تشرف على الشارع، وأنا امشي صدمت بإبهام قدمي اليمنى حجراً مسنناً، توقفت وأمسكت بإبهامي حتى هدأ الألم، عاودت المشي، كلما اقتربت من المكان استمر العويل بالخفوت، حين وصلت الزقاق الذي يسبق مكان العويل داهم اذنيّ صوت غليظ.. ستوب.. هذه الكلمة معناها توقف، نعم هذا ما عرفته أيام الدراسة، تسمرت في مكاني ورفعت يديّ الى الأعلى كما يفعل من يقع في ألأسر وهذا ما يريده غالبا جنود الاحتلال الذين تدوس عرباتهم على احلام اطفالنا، وعلى صفحات حياتنا، وسرف دباباتهم قد طبعت على الشوارع والبيوت والساحات، أحاط بي جمع من الجنود المدججين بالسلاح وبحقائب الظهر التي لا أعرف محتواها، منهم من انبطح على الأرض ومنهم من جثى على ركبة واحدة مصوبين فوهات بنادقهم نحوي وكأنهم متهيئون لقتال، بموازاة فوهات بنادقهم كانت تنبعث أضوية خضراء بخطوط مستقيمة، اقترب مني احدهم بعد أن علّق بندقيته على كتفه الأيمن... أخذ يتلمسني من رأسي حتى قدميّ وكأنه يبحث عن شيء أخفيه.. وهو يتلمسني كان يزعق بلغة لم أفهم شيئاً منها سوى أنه كان منفعلاً، تبعه جندي آخر لا يحمل سلاحاً، معتمراً خوذة مغلفة بقماش يشبه قماش بدلاتهم التي بلون الصحراء، بدأ بتلقيني فحوى انفعالات ذلك الجندي.. ما الذي جاء بك، من أين أتيت؟ بعد أن شرحت له بكلمات تتلوى عند طرف لساني سبب مجيئي وهو أني اريد معرفة سبب العويل.. راح يلقن ذلك الجندي المنفعل ما قلت، تحادثا فيما بينهما قليلاً والتفت الي الجندي الذي لا يحمل سلاحاً، طلب مني ان انبطح على بطني وان يلامس وجهي سطح الارض، جمعوا يديّ على ظهري وربطوهما بحزام بلاستيكي، كان برد الاسفلت يلسع وجهي، والأحجار الصغيرة المسننة تكاد تنغرز في وجنتي اليمنى، بقي ذلك الجندي المنفعل واقفاً بجانبـي مصوباً بندقيته نحو ظهري حتى هدأ العويل تماماً، جلبوا مجموعة من الرجال والشبان مكتوفي الأيدي وأركبوهم بسيارة عسكرية مكشوفة، غادروا المكان وتركوني ملقى على الارض أراقب بصمت ابتعاد ضجيجهم عني، رفعت رأسي قليلاً فلم أعد احتمل برودة الاسفلت، ولم اعد احتمل رؤوس الأحجار المسننة، مرت بضع دقائق، سمعت هسيس أقدام يأتي من ورائي.. أطرقت سمعي.. اقترب هسيس الأقدام، أدرت رأسي الى جهة اليمين بنصف التفاتة لأعرف من الذي وقف بالقرب مني، حدق بي مجدداً وقال: الم أقل لك ان النهر قد ابتلع السد؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى