الجمعة ١٣ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم رشا السرميطي

بريد الجرح

الآتي أنبل من خيانة الأمل في عهدك أيُّها الملل

الحادي والثلاثون من آذار؛ في مثل ليل هذا اليوم من كل عام، أمارس طقوس حزني العتيق، بعيدٍ ينتحب فيه الفرح توسلاً للآهات أن ترحل، وتودّع دفتر أيامي القادم.

وحدي على شاطئ العمر أجثو، والغروب يؤلمني بعدما أحببته، وخيوط الشمس تحتضر، تودعني باكية، خلف البحر اللامع، كجمال المآقي عند فراق الأحبة، أنتظر بزوغ القمر مكتملاً، كعاشقة ألهو برمال الزمن العابر، والقمر يحدثني، محاولاً تبديد حجم خسائري، أرسم العديد من صور الأمس المقتول في رحم غدٍ أجهض الشروق، فيداهمني الموج حاضراً، ليقطع مسامرتي، ويعبث بأجمل أحلامي، ويسرقني يقين اللوحة المرسومة على رمال الحلم الأبيض، مبللاً أوراقي، ومفسداً أجمل ما صنعت، يأخذه مني غصباً، ويلقي به بعيداً في قاع محيطات الذكرى، ينتهي كل شيء، وتبعثر الريح ملامح ذاك الرجل المزيف من أمامي، فلا يبقى سوى قلمي منصتاً، لهمس الروح، وعزف طيور النورس الحزين لمآلي، وقارئ يشهد وعدي المذبوح وطول انتظاري.

لم يبقى أحد معي يواسي وحدتي، أو يُطمئن حيرتي بحتمية العودة، كأنها لحظة إيمان باستحالة اللقاء، في سراديب العمر الهارب على أرصفة من الحنين، التي تغري أفكارنا، وتتحرش بذاكرة الماضي، فتأتي بنا من بعيد وجعاً ثملاً من كؤوس النسيان الممتلئة بشراب الجرح الدامي، وألم خاص، بأبجدية العذاب، بل، أفكار تم نحرها مع ما كان، كدخان لفافة احترقت بين أصابع ذاك الرجل الغريب كانت قصتي. لم أنتهي بعد صدقني، ينتظرك الشقاء بعزة ربي وجلاله سينصفني، ولو سئلت، لن أسامح، وخنجر الغدر في خاصرتي، سوف أظل كالزهر أتمايل غضّة مع هبات العمر العاصف، ولن أنكسر ذات تاريخ منتظر، مادمت أحتاج مبرراً واحداً كي أغفر لك الخطيئة الخضراء التي ترعرعت من نزف وجعي، واشتدت أبجدية شائكة تؤذي كل قارئ عنك، فلربما أصافح الذات يوماً ما برضا عما فعلت، وربما تنجو من مقصلة بوحي !

هل تعلم أني مع كل أذان أشكوك لرب السماء، وسخطي طال أوراق الماضي جميعاً، وعبث بأجمل ذكرياتي التي أحرقها دمع السويداء، فسالت كحلاً أصاب أوراقي بالحداد أعواماً طوال، لو كنت غبية، لما كانت تلك النهاية خاتمة لي، لكنك باغتني بما لم أك أنتظر، ويحك يا رجل القسوة ! لم فعلت كل هذا ؟ سحقاً لرجل سلب مني معظم بداياتي. للورد أشكو ومن غير الورد يتسع لأحزاني؟

عاد آذار محملاً بعبراتي، وأينع الكلام وارتوى ألماً، حتى آن تفتح الزهر أسوداً ملوثاً برماد أحلامي، فأنا لست ككل البشر الذين يحتفلون بقدوم الربيع، والأعياد الضاحكة التي جمعت المسلمين والمسيحيين حتى اليهود على نص من السعادة، إنه عيد ميلاد جرحي، فهيا يا من تصفقون لصمت شفاهي، وعلى ألحان نبض عاشقة الورد ترقصون، جميعكم مدعوين اليوم كي تعزف إليكم أناملي لحن الجرح لنوتة الوجع الذي افترس مستقبلي، ونهش مني سبع سنين أفلت، والليلة اكتملت، وقفة يكتنفها التيه، ويقين بالنهاية !

كلما فكر فيه قلمي، راوده القيء، واعتل حبره يخلط لون الحب والكراهية على ذات السطر، يبصق أبشع العبارات النتنة المثقلة بمرض كان هو، أبكيتني، ولم تزل مآقي العين حبلى بدمع الحمد والشكر ثناء لله، لا ضعفاً وحزناً عليك، إنما كبرياء لأنثى، عشقت الــورد، فكانت رشا.. وكنت اللاهناء لها، حتى أصبحت أرى معظم الرجال سواسية ، كمشط جدتي، أسنانه متكسرة، يهبط ليلاً جدائلي، فيعقدها، ويسبب الألم في بويصلات أحاسيسي المرهفة، ثم يتمرد النبض كعادته وينسج الكلمات، وكأنني أختبئ في ستائر الليل البهيم، كثوب زهيد بلا جواهر، والنص أفل مع بدر محياه خسائر، لم يبقى إلا الريح، وهبات موحشة كوحدتي بينهم؛ يتطاير شِعري أحمراً داكناً، كنزف شرياني، ينتشر في البحر طهراً ونبلاً لأسطورة خيالية، والروح أقدمت تناجي بارئها في لحظة خوف، من فؤاد قد لا ينبض بالحب بعدك.

أكتب برعشة الوداع إليك بريداً يعاتب إنسانيتك الميتة، وكعادتي، أتساءل وحيدة: كيف أنظر للقمر بعدئذ كان محياه؟ كيف أسقي الورد على قبر شفاه لا تطرح إلاّ وجعاً؟ بل، كيف أحدِّث شمع الليل وأوراقي على رقصة من السخط؟ أما آن لأحد أن يخبرني كيف أسهر والمطر على موسيقى ياني وحفيف الشجر بعد إعصار هز ثبات أنوثتي وغيَّر أجمل مفاهيم الحياة؟ حقاً، كيف يمكن تنظيف الذاكرة من ملفات قديمة تتسبب بعطب كل جديد يأوي للتوطن فيها، وألف كيف تحتويني؟!

أوشحني العشق باللون الأبيض دون رحمة، وها هو قلمي يهوي إلى ذاك القبر الذي أعدّه الفراق لي سكناً، يستلقي عليه الجسد منهكاً من خسائر الأمس الباهت، وكلمات كتبت بعبير الحب، الذي لم يؤتي إلا عذب العذاب الباهظ الثمن، رخصت جلوداً حفر عليها اسمك، بينما كانت أمنيتي الوحيدة أن نلتقي ونحلّق على بساط من الهوى، شاءت النهاية ألاّ يزغرد الفرح بعرس الجرح، احتراماً للمصاب.

امكث تحت التراب، فهو المكان الصائب لجبن أمثالك، وسدتني أميرة النساء بمخملية التعامل على عرش من وهم الخبث في أقوالك، ها أنا أجلس اليوم وكل الماضي يحزنني، فجميع البشر يبدؤون وينتهون، إلا أنا، ما كنت لأستطيع. كلهم حولي يتراكضون، وبالماس يتهافتون، وسنين العمر ولَّت مسرعة في محيط النَّوى، بعد صحوة الزَّهر، في صيف حار جداً، يشتاق المطر.

الآن، استراح خاطري بعدما آثرت الصمت رقياً لذاتي، بدلاً من مواراة عمري، شيعت جثمان رجولتك، وسيدفنك القلم في قبر لن يحوي سواك. أصبح الورق مستعداً لتلقي آخر النزف في عيدك، عيد الجرح، بعد نصوص عديدة عصي على أمثالك فهم معانيها. لقد كسرت يناع سطوري، وأصبت الورق بعلل، حرفي منعقد، واللعثمة موجودة، لكن الرغبة في الانسحاب والتراجع مفقودة. لقد ضيعت مني كل الألوان، حتى بات الظلام عاماً لغالبية أوراقي البيضاء.

كم غضبنا، فرحنا، تخاصمنا وتصالحنا بذات العيون، كأنها حالة من الجنون أصيب كلينا فيها، كنت أعلم مذ عثرت عليك أنك المنون، حين ضيعتني بين جفونك، وتعلقت برمشك موطناً حنوناً، لغارقة فرّت من ألف ميتةٍ دون علم أنك موت جديد، صفقي يا يديّ، وفاءً مفقوداً في الدنا، واسرقي من الليل ضياءه، إيذانا بإطفاء آخر شمعة للخلود.

أعترف بأنني متعبة، والآهـات تنسج من كلماتي الثكلى شالاً من هلع، أوتار حروفي متقطعة والأوراق ممزقة، ضيع الحبر ألوانه الوردية في البحث عن حروف ماسية تليق بقدسية الحدث، وطغى السواد طابعاً رسمياً يقوي اللحمة بين فقرات النص، أحتاج لخلوة مع نفسي كي أبكي أو أبكي ربما لأضحك !

مهما حاولنا وابتعدنا عن الماضي، يبقى الهوى طارقاً لنوافذ الليل الساكن فينا، يحرك مشاعرنا الثابتة، ويوقظ الأمس النائم بين دفتي ماضٍ رحل عنا، ليجدد احتفالنا بالحزن قبل الفرح !

أوشك الفجر أن يصل وأنا أتنشق عطر قهوتي، وأستمع لصوت البن يفور بإبريقي كي يُسكب حلو مرارته بفنجاني، فمن قال أن قطاف الورد محرماً صدق؛ لأنه على الشجر أجمل، وفي الصباح يحلو لامعاً، يتمايل والندى فوقه متلألئاً، ليفوح عطره راسماً الابتسامة على وجوه المارَّة مثل حاضري القادم من جنوب البوح كوردة حمراء تتقد حزناً يتكاثف بين أوراقها نغماً حزيناً. كلما تسللت في ثنايا ذاكرتي الموقوتة، أصطدم بتلك الأزقة وسلالم الدرج، وهل أجمل من ممرات الذاكرة لاتخاذ موعد مع ماضٍ هرب؟ أذكر حين كسّر برواز الصورة وجرح يميني ثمَّ رحل، وأذكر كم مرة فِضنا بذاك الوهج نبث دفء الحب لمن حولنا، كما أتذكر جيداً ذاك الصاعد الأخضر، وتلك الأرقام، اجمع مقدار حبي إليك واطرح منه شظايا الانتقام اضربه بانتظار على مدى الأيام وأقسمه على واحد، التحام من كلينا بروح لله ساجد، هكذا كانت معادلة أيامنا.

لم يبق الكثير، يا من كنت أغلى إنسان عاصرته، وبعد مرور الأيام عرفت أنك لم تكن سوى شبه حقيقة مهشمة على سطور اليقين الأبيض، لا تشبه أبداً ذاك الرجل الأسطوري الذي لطالما حلمت بكينونة البقاء بقربه مدى الحياة، كبقايا أعقاب سجائر محترقة أنهيتك وصفاً، ولا أحتاج إلا لرميك في منفضة العدم، كأنَّك لم تكن !

ساعة الصفر قد حانت، والدمعة متأججة تصبر على الصرخة المختنقة في حنجرتي وتخرس جميع أنفاسي، سبحانك يا رب أنت سبحانك العليم ونحن لا نعلم، لكنّ الخيرة فيما تختار، ونحن عبادك الخطاؤون الراجون لعفوك وغفرانك دائماً يا أكرم الأكرمين.

هيَ لوحة مرسومة بالعبرات، وكلي فخرٌ بأني على عرش قلبي رفعت رايات الحرية، قد تكون مأساة، لكنها بالنسبة لي كانت سبباً للحياة، فعذراً لما سببت، بعد لحظات وجيزة، ترحموا على بقايا تلك الهمسات، فعاشقة الورد من الآن في سبات، فأنا لست كالأخريات، وفستان زفافي سوف يكون باقة من الورد الأبيض والتوليب الأحمر ممسوكاً بيديّ ،كما عاهدتك يوماً، بأني الأنثى التي للهزيمة لن تنتمي، أما رحيق الانتظار الذي أسكنته في قلمي، سيكتبك ورقاً يبصر جميع البشر ماهيّتك. أيا رجل التردد خذلتني ! والقلم عطّر جميع أوراق دفاتري بلحظات انشطار للروح موقداً جميع أشعاري التي كتبت إليك، سوف أعض على شفاهي بقول الحمد لله، ولتحتمل لهيب نطقي باعترافات عما اقترفت في أمسي. مذهولة أنا في عيدي، هل أفرح أم أبكي ؟! فمشاعري مختلطة، محمومة، تهدي بريداً دوَّنه القلم لأحدهم، لا يحمل بين السطور سوى الجرح العميق.

نحن في زمن لا عشق فيه ولا اشتياق، داء أصابني، والليلة فقط ودّعني بلا لقاء، فصورة الماضي آفلة بعد وصول حاضري المتأخر، نضج المستقبل قبل أوانه بشهقة الانتهاء، وعبراتي تكاد تسقط قبل عثوري على منديل في تنشقه الشفاء لي، لكنني أدركت أن العمر رحلة شائكة، وليس تحدٍ لمن ينتصر، والطريق يحتاج رفيقاً يواسي وحدة الندم، فأبجديتي خرجت من ذاك المعتقل حرّة تحلّق فوق قبة الصخرة المشرفة، والآتي أنبل من خيانة الأمل في عهدك أيُّها الملل.

الآتي أنبل من خيانة الأمل في عهدك أيُّها الملل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى