الأحد ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم موسى نجيب موسى

ليل أبدي ـ القسم الثالث

النعـــــي

- لماذا البذخ ؟!!
تساؤل حائر طل من عينيه حينما طالع أربعة أعمدة كاملة وصورة حدثيه له تزين خبر نعيه الذي نشر صباح اليوم في الجريدة الرسمية طالع الخبر بتأن وتمحيص.
بسم الله الرحمن الرحيم
« يا أيتها النفس المطمئنة أرجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي»
صدق الله العظيم

«طوبـى لمـن اخترته وقبلته يا رب ليسكـن في ديارك للأبد»

انتقل إلى الأمجاد السماوية فقيد أل جروان ،فقد شيعت أمس جنازة المرحوم بإذن الله الدكتور

زوج الدكتورة "مريم" عالمة الذرة المعروفة كريمة المرحوم "على بك مصطفى "ووالد الدكتور "ماجد" بمركز البحوث العام والدكتورة "أنجي" خطيبة الدكتور "منصور" بالجامعة المفتوحة وشقيق المعلم "أحمد" صاحب مسمط "الشركاء" والمرحوم "ملاك "وكيل الوزارة السابق والمرحوم "سمعان" صاحب مركز "الكرمة سنتر" للكمبيوتر والمرحوم "حنا" عامل بمدرسة النصر الإعدادية بمنشأة منبال والمستشار" محمود" والمستشار"محمد" بالمجلس العام والمرحومة السيدة "فيوله" زوجة المقدس "عبد المسيح" التاجر بوكالة البلح وزوج شقيقة الدكتورة "نبوية عبد الرسول" حرم المهندس "جمال الدين علوان" بالشركة الدولية لصيانة الأجهزة الإليكترونية وخال الطيار "غبريال" الطيار بأمريكا و"صموئيل" بفرنسا و"أخنوخ" ببلجيكا و"متياس" صاحب شركة فلوباتير للاستيراد والتصدير وعم المحاسب" بيومي" بالشركة القومية زوج المحاسبة "منى" والصحفي "عماد الدين" بجريدة( أخر الأخبار) زوج المرحومة "فاتن" سكرتيرة تحرير مجلة (حياتي) والمهندس "فتح الله" و"صلاح الدين" العامل بالوحدة المحلية وستقام ليلة العزاء بقاعة مناسبات السيدة العذراء بمسجد الرحمن بمصر.

كانت حكمته الأثيرة التي يرفع لواءها كل حين أن القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود فلم يفر من بين يديه أي قرش أبيض قبضت عليه، ولم يأت عليه يوماً ما أسود طيلة حياته. استيقظ على رنين الهاتف وعندما استطلع الأمر جاءه صوت أنثوي ناعم يحثه على ضرورة سرعة إرسال اسمه كاملاً حيث تعذر نشره في إعلان هذا الصباح لسقوطه سهواً أثناء علمية التجميع وسوف يتم تدارك ذلك الخطأ في الطبعات التالية أن شاء الله...وضع السماعة، وراح يتقبل واجب العزاء.

مفرغــة منويــة

قبلها كنت أخال الزواج مجرد مفرغة منوية يتم كبح جماح الشهوة وإشباع الرغبة في جوفها ... صدمة حب عنيفة نفت القلب إلى هوة سحيقة داخل مقبرة الذات ،وقليل من مشاعر تبقت لها في القلب بعد المنفى، ومعرفة وثيقة جداً بها كان القرار ... تم الزواج على يد كاهن المدينة الصغيرة – مطاي – جعلتني منذ أول يوم لي معها على الفراش أن اعرف كيف يكون الحب الحقيقي ؟!! أعادت قلبي من منفاه فكانت إلى جانب دورها كمفرغة منوية تحتوي حيواناتي القوية ... أما لنا جميعاً – أنا ومريم ويوسف -ثلاثة أبناء لها لا يفصل بينهم سوى السن والميول والثقافة ... نحتت صورتها في القلب ولم تغادر ذاكرته بعد.

حبيبـة الراهــب

سنوات عمرها فرت من بين يديها ... كان لها رأي فيمن سيتقدم لزواجها ... كثرة التردد .. طول سنوات انتظار ما قد لا يأتي ...جسد تحاول ضبط إيقاعه بمعرفة طبيب التخسيس ... أشياء جعلتها تعيد النظر فيمن تريده ولكنها لم تجده ... الأول كان راهباً توهم في جلسة اعتراف صريحة أنه يميل ناحيتها أو هي توهمت ذلك لم يعد يفرق هذا كثيراً . كان يترك الدير وينزل لها في العالم يحاول أن يلتمس من يديها الباردتين أي لمسة دفء يدفئ بها قلبه المتجمد من قسوة برد البرية وشظف النساك ... هرب منها عائداً إلى البرية لكن في هذه المرة اتجه نحو دير أخر غير الذي عرفها فيه ...الآخر محرم عليها أيضاً .. زوجته الجميلة وابنته الأجمل وابنه المنتظر وعقيدتهما الصارمة ... كلها محطات كان يجب عليها الوقوف فيها طويلاً قبل أن يمضى قطار العمر ... لكنه مضى دون أن تترك توقيعها في ذاكرة القلب البيضاء ... رحلت دون عودة أو في انتظار عودة أخرى مع آخر حينما يتغير الموقف ... لم تحدد موقفها حتى الآن.

عائـد من الحيـــاة

قرر دون سابق إنذار أو تفكير أن يخوض التجربة بكل مراحلها ... لم يشأ أن يخبر أحد من معارفه أو أصدقائه أو أقربائه. حتى زوجته التي لم يخف عنها شيئاً لم يشأ أن يخبرها عما انتوى على ما يريد أن يقوم به ... في نهار أغسطس قائظ ... قطع الطريق الطويل المترب تحت الشمس اللافحة والتراب الساخن ... حافياً كان ... هكذا أراد أن يكون عند ذهابه لشراء الأقمشة اللازمة لذلك ... نفس الطريق المؤدي للجبانات والذي قطعه مراراً وتكراراً كلما مات له صديق أو قريب أو عزيز أو حتى شخص يعرفه لمجرد المعرفة ... وصل إلى محل الأقمشة ... لم يشأ أن يبدد الوقت في تفسير مقنع لنظرات بائع الأقمشة التي كادت أن تنهش قدميه العاريتين ...ولأنه يجهل الكثير في مثل هذه الأمور فقد طلب من البائع أن يقص له قطعة قماش تكفي لتكفين شخص في مثل سنة وحجمه ... عندما تقدم له صاحب محل الأقمشة بواجب العزاء طفرت دمعة ساخنة من عينيه وعندما فاجئه بائع الأقمشة بأن المتوفى قد يكون قريباً جداً من نفسه علق في عجل من بين دموعه المنهمرة :-

  جداً ... جداً.

أخذ الأقمشة اللازمة وتوجه بعدها إلى "متري" خياطه المفضل وطلب منه أن يقوم بتفصيل الكفن عليه تماماً. أندهش "متري" من طلبه لأنه يعرفه جيداً ويعرف جميع أفراد عائلته وإنه يعلم تماماً أن أحداً لم يمت منهم حتى لحظة مجيئه إليه قال له:-
  لن أستطيع أن أقول لك البقية في حياتك.
  ولم لا تقول ؟!!!
  لأنه لا توجد أي حالة وفاة في عائلتكم.
  ومن أدراك؟
تعجب "متري" من كلامه ولم يشأ أن يأخذ منه أجر التفصيل. وعندما هَّم بالرحيل ألقى "متري" خلفه بكلمات التعزية الحارة والأمنيات بإغداق الله رحمته الواسعة على المتوفى ... فتح باب منزله خلسة حتى لا يوقظ أحداً وأخذ يتسحب على أطراف أصابعه حتى وصل إلى الحمَّام ... حلق ذقنه جيداً وبعدها أخذ دُشاً ساخناً ... ارتدي الأقمشة البيضاء ... وقف طويلاً أمام منظره المدهش المنعكس أمامه على المرأة المشروخة إثر إحدى المشاحنات النادرة التي كانت تحدث بينه وبين زوجته التي يحبها... تمنى كثيراً أن يرى هذا المنظر... كانت تدفعه رغبة دفينة داخله دفعاً لذلك...هجمت على جسده رعشة غريبة وشعر بأن جسده أخذ يتخلص من شحومه الكثيرة شيئاً فشيئاً حتى خف وزنه جداً وأخذ يحلق في الجو ويطير في سماوات بيضاء لا نهاية لها، ويقابل كائنات نقية كالبلور لا وجه لها ولا أقدام بل كل جسدها أجنحة تطير بها ... عندما حط على الأرض ثانية أغرق جسده بعطره المفضل والذي كانت زوجته تشتريه له دائماً في احتفالات عيد ميلاده ... بعدها تمدد بملابسه الجديدة إلى جوار زوجته ... في الصباح حاولت زوجته كعادتها إيقاظه لكي يذهب إلى عمله لكن ... جسده البارد لم يستجب لمحاولاتها المتكررة .

البشهيـــة *

تلتصق قدماها بأرضية الطابق الثالث من المدرسة ... تستند على السور الحديدي الذي يحول دون سقوط التلاميذ... تتأمل وتترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية ... لا تشعر بوقع أقدامه رغم اقترابه جداً منها .

  أنت اجمل كثيراً بدون النظارة .
حوائط أسمنتية صنعها الصمت المطبق على المكان بين فمه وأذنيها... أعاد الكلام عليها مرة أخرى:-
  أنت اجمل كثيراً بدون النظارة .
اتسعت شفتاها بابتسامة باهتة وزاغت عينيها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية ... بلا إرادة تملك عليها توجيه أفعالها قامت بنزع نظارتها... ضحك ... لم تشأ أن تعرف لماذا ؟ لكن عيناها امتلأت بالرعب عندما مر من أمام الباب الخارجي أحد أقاربها وأخذ يحملق فيهما ... رجعت عدة خطوات للخلف.
  لماذا تخافين إلا تعصمك هذه "الدبلة" التي تزين بنصرك الأيمن من مجرد الشك؟
  الشك ملاذ وخاصة لأمثالي.
لم يفهم معنى كلامها ولكنها عادت تقول :ـ
  الشك مقبرة – أشارت إلى البشهية – مثل هذه المقابر الكثيرة التي أتمنى أن تحتويني إحداها في يوم قريب جداً.
  لماذا التشاؤم؟
  ولماذا التفاؤل ؟
عرف بعد ذلك من إحدى زميلاتها القريبات منها أنها مرت بتجربة قاسية ولم تملك حيالها سوى أن توافق على أول من يتقدم لها لتقطع الكثير من الألسنة التي بدأت تلوك سيرتها ... فكان خطيبها الذي ألبسها "الدبلة" ورحل إلى بلاد النفط ... وكانت هي بقايا أنثى تحاول أن تلملم رفاتها في أقرب مقبرة . في صباح اليوم التالي كانت قدماها تلتصق بأرضية الطابق الثالث من المدرسة ...تستند على السور الحديدى...تتأمل ثم تترك عينيها تسبح في الفضاء الواصل بينها وبين البشهية...شعرت بوقع أقدامه بمجرد أن اقترب منها.
  أنت أجمل بدون النظارة.
لم تتسع شفتاها بأي ابتسامه ولم تزغ عينيها بين صورته الماثلة أمامها وبين البشهية ... وملكت أخيراً أرادتها فلم تنزع نظارتها ... لم يضحك ... لم تمتلئ عينيها بالرعب على الرغم من مرور نفس قربيها من أمام الباب الخارجي للمدرسة وحملقته فيهما.
  أنت أجمل بدون النظارة.
سمعتها للمرة الثانية ... لكنها لم تشأ أن ترد عليه وراحت تتأمل في البشهية بعمق أكثر وأكثر و......

اللحــــاد

بعد أن رش الماء فوق سقف المقبرة التي سكنت لتوها تلفت حوله يتأمل وجوه المعزين والمعزيات وتتسرب إلى أذنيه كلمات لم يمل من سماعها طوال سنوات كثيرة قضاها في هذا المكان ... كان يجري هارباً من ماذا ؟لا يدري ...!! نفس الموقف ... منذ زمن ...وتكاد تكون نفس الوجوه ولكن ليس نفس المكان ... الجسد المسجي لأمه وصورة أبيه القاسية لم تبرح مخيلته بعد. لم يكن يعرف وقتها هل يحزن على فراق أمه التي أحبها كثيراً ؟! أم يفرح لا نعتاقها من سجن أبيه وسوطه وتعذيبه الكثير لها ... اختلطت مشاعره ؛فلم يتبق شيئاً سوى صورة ملائكية لأمه بوجهها النوراني وجناحين أكثر بياضاً يكاد من ينظر إليها أن يفقد بصره .. أمنية متجددة تداعب خياله بعد أن أودع الجسد البض لفتاة شابه ماتت منتحرة حزناً على هجر حبيب لها .. هكذا فسر الكلام الذي وصل إلى أذنيه من نميمة المعزين والمعزيات المعتادة .. تعود هو على ذلك منذ أن ذاق طعم الجسد البارد مع زوجة أبيه التي فارقت الحياة بعد تعذيبه سنوات خمس، وعندما ذهب أبوه لكي يعد "خارجتها" انتقم منها بذلك الفعل الذي أدخل على نفسه البهجة حيث أنها أول مرة ينتصر فيها عليها، وحتى لو كانت بلا إرادة وبلا نفس يتأرجح به صدرها الرجراج الذي كاد أن يخنقه في إحدى مرات هبوطها عليه لتضربه بعنف مثلها اعتادت منذ أن وطئت قدمها منزلهم لتقهرهم وتقهر أمهم المستسلمة ... ماتت أمه في إحدى مرات تعذيب أبيه لها ولكن قبل أن تسكن العالم الآخر لم تنس أن تلقى بأخر حفنة كرم في جعبتها لإنقاذ القاسي من حبل المشنقة؛فقد أدلت في سجلات التحقيق الرسمي بأن يديها المرتعشة تسببت في سقوط الماء الساخن على جسدها ولم تكن يدها بل يد القاسي الذي لم يرحهما يوماً، وهي رحمته كل الأيام .وقتها نظر إليها وكيل النيابة -المسئول عن التحقيق في الحادث- بإعجاب شديد لأنه كان يعلم حقيقة الأب القاسي من كثرة مخالفاته القانونية التي تراكمت أمامه وكان هو المحقق الوحيد فيها ...أرخت محاضر البوليس لطبيعة هذه العلاقة الغربية بين أمه وأبيه ... وفي آخر فصول المأساة ربت وكيل النيابة على يد أمه الحانية وقال لها وهو يودعها:-

  يا أمي نامي الآن في سلام فلن يزعجك أحد بعد الآن.
تحققت نبوءة وكيل النيابة سريعاً فبمجرد أن أوصد باب حجرتها في المستشفى خلفه حتى استقلت روح أمه أول مكوك صاعد إلى السماء لتسكن الراحة العظمى ... بكاها الجميع هو وأخوته وكثير من الجيران الذين كانوا يتألمون لها إلا واحداً فقط لم يشأ أن يذرف عليها دمعة واحدة من مقلتي أبيه المتحجرة بل كانت هناك لمحة فرح تتراقص بين حدقتيه ... انتبه على صوت أخر المعزين وهو يصافح أهل المتوفاة ويسكب في أذنهم عظيم أسفه وخالص تعازيه للفقيدة الشابة ... ضحك في داخله فلم يكن هناك شئ ذات أهمية في حياته بعد رحيل أمه ... عاد حلم مضاجعة المتوفاة يراوده من جديد وخاصة أن عزرائيل ضن عليه لفترة طويلة بمثل هذا الجسد الأبيض الممشوق لدرجة أنه ذات مرة حاول أن يطفئ ذلك اللهب الذي يشتعل داخل جسده حلما تم دفن أنثى مع عجوز في الثمانين من عمرها ... النهار قارب على الرحيل من هذه الدنيا والليل يزحف على أطراف قدميه ليغرق المقابر في سواده القاتم ... تتابعت ضربات يد الرجل العجوز الواهنة على كتفه وسمع صوته الواهن حينما قال له:-

  أدخل الآن استرح قليلاً لربما يأتينا طارئ ... وتذكر دائماً أننا لابد أن نكون جاهزين دائماً ؛ فإكرام الميت دفنه.

نظر إلى الرجل العجوز / الحاني الذي احتضنه ذات يوم وأوجد له المأوى ولقمة العيش .ذلك الشيخ الذي أقعدته الشيخوخة والمرض وجعلته غير قادر على مواصلة عمله الذي يحبه فصار له الذراع الأيمن في كل شئ .. أكتفي بهذه النظرة فقط ولم يشأ أن يحدثه في شئ . في الصباح الباكر من كل يوم (يزغده) أبوه في صدره بمؤخرة مقود العربة "الكارو" التي يمتلكها .... يستيقظ وبقايا النوم مازالت عالقة بأهداب عينيه... فمه يعلن عن اعتراضه بكثرة التثاؤب ... يحاول من بين لعناته الكثير التي يصبها على أبيه أن يطعم الحمار ويسقيه ويضعه في المكان المخصص له في مقدمة العربة ممنياً نفسه بالعودة سريعاً لاستكمال نومه ... يخرج بالعربة إلى زحام الشوارع ولعنات سائقي السيارات ولعنات بعض الزبائن عندما يطلب أجرته ويصر عليها و تكون أزيد مما يقدرونه هم كمقابل لعمله الشاق لا يرتاح إلا عندما يطالع وجه عم " نادي أبو موسى" صاحب مطعم الفلافل الذي يبتاع منه رغيفاً وقرصين من الطعمية الساخنة يفركهما داخل الرغيف ثم يلتهمه في سرعة عجيبة بعد ذلك يذهب إلى تعريشة "أم رجب" يحتسى كوباً من الشاي المغلي ومعه يدخن "الجوزة" في استمتاع غريب ثم يمدد جسده الواهن ساعة العصرية فوق عربته التي يركنها أسفل إحدى الأشجار القريبة من مؤسسة بيع السلع الغذائية بالجملة ..يظل نائماً حتى يوقظه أحد الزبائن سمجي الطلعة لكي يقوم بتوصيل طلباته إلى المكان الذي يريده...بعد ذلك يعود إلى المنزل ... يحاول أن يودع شقاء اليوم وتعبه في قلب "الطشت" المليء بالماء الدافئ لكن يد أبيه المعروقة تفسد عليه إتمام طقوسه اليومية المقدسة،كذلك قلة حمد أبوه لربنا ولخيره الذي رزقه به ؛فأبيه دائم السؤال عن النقود وكم جمع منها... وكم انفق... ويا ويله لو أخبر أبيه أحد أنه ضبطه في مطعم "على أبو هاشم" يأكل اللحمة أو حتى يأكل خضاراً(قرديحى) فقط ... يكون يومه أسود من قرن الخروب .... بعد أن يأخذ دش أبوه الساخن يجده فجأة يهزه من كتفه بعد أن يشم رائحة فمه الغارق في دخان "الجوزة" ويقول له :-

  ولا يهمك .... أنني أريدك رجلاً .

يسمع كلمات أبيه على استحياء ثم يذهب لكي يلعب قليلاً مع أقرانه في الشارع لكن لا يلبث أن يجلد صوت أبيه أذنيه لكي يحثه على ضرورة نومه في الحال حتى يستعد للعمل في اليوم التالي .. اقترب منه رجل من أصحاب الجنازة ومد يده له بورقة مالية لمع طرفها في عينيه قبل أن يطويها في "سيالته" دعا لصاحب العزاء بطيلة العمر والبقية في حياته وحياة أولاده ... كلمات تدرب عليها كثيراً وحفظها جيداً ... نظر إليه الرجل الوقور نظرات طويلة ثم أنصرف ومعه باقي المعزين. دخل فرحاً للرجل العجوز يزف له بشرى حصوله على مبلغ كبير من(البيه)، وأنهما سوف يشتريا اللحمة والخضار وقليل من النبيذ الذي يفضله ... ابتسم في وجهه الرجل كعادته وكان ينظر له نظرات ذات معنى لديه ويقول له :-
  ربنا يهديك ويصلح لك الحال.

يتعجب من كلمات العجوز ويقول بصوت يكاد يكون مسموعاً :-

  يا تُرى ما الذي لا يعجبك فيّ حتى تدعو لي بالهداية ؟
يرد عليه الشيخ العجوز ويقول له كلماته المعتادة:-
الذي في النفوس لا يعلمه إلا الله يا ابني، ومهنتنا هذه علمتنا أنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة فقط في هذا الكون الزائل هي الموت ... الموت .... هنا الصدق الحقيقي يا ولدي.
  لماذا دائماً تقول لي هذا الكلام يا ... يا أبي ؟
يرمقه الشيخ العجوز بنظرة من نظراته الحادة التي لا يستطيع أن يفهم منها شيئاً. يخرج مفكراً في كلام الشيخ له والذي لا يمل من قوله له وتكراره على أذنه ويجعله يعدد الأسباب والاحتمالات التي تجعل الشيخ يقول له هذا الكلام .
  هل من الممكن أن يكون قد رآني مرة وأنا ... ؟
استبعد هذا الاحتمال فهو لا يقوم بفعلته إلا بعد أن يغط الشيخ في نومه العميق؛ فكيف له أن يراه؟ استراح أخيراً حين أهتدي إلى أن ما يقوله الشيخ مجرد حكمة علمته له طبيعة المهنة وطول السنين التي عاشها فيها. بعدها ذهب إلي السوق لكي يشتري طعامه المفضل .على السجادة الممزقة كانت نومته المفضلة دائماً فهذا أفضل مكان ينام عليه في البيت بعد الفراش الناعم المخصص لأبيه وزوجته .. فهو أفضل من أخوته الذين يفترشون الأرض في أحد أركان الحجرة الوحيدة التي هي كل منزلهم حتى الغطاء كان ينعم به هو عن باقي أخوته ... يفرح كثيراً لهذه المقارنة التي تأتي دائماً في صالحه .كان يبرر كل هذه المزايا التي يحظى بها بأنه رجل البيت وهو الذي ينفق عليه وليس أبيه السكير /المدمن لذا يجب أن يستريح حتى يواصل العمل وجلب النقود ليظل البيت مفتوحاً ... بعد أن فرغا من تناول طعام العشاء الشهي الذي قام بطهيه كالعادة بنفسه شربا الشاي ثم ذهب الشيخ العجوز إلى المسجد الذي يرقد على بداية طريق المقابر لكي يصلي فرض العشاء وانفرد هو بنفسه مع "الجوزة" يدخنها بنهم شديد ... اشتد الإدمان بأبيه حتى أنه كان دائم الغياب عن الوعي لا يدري من يحدثه أو أين هو ؟ وماذا يفعل ؟ ضاقت زوجة أبيه بتلك الأفعال والحالة التي وصل إليها الأمر الذي جعلها تفتح بيت أبيه للآخرين فقد كان يرى بعيني رأسه الكثير من زملاء أبيه "العربجية" الكبار في الموقف يترددون على منزلهم في أوقات مختلفة من النهار والليل ويقومون بدور والده مع زوجة أبيه ... حتى "جمعة" الذي انتشله أبوه من التشرد والضياع وأواه في منزلهم و أغدق عليه من كرمه الفياض على آخرين فقط دونهم، كان يأخذ نصيب الأسد من جسد زوجة أبيه الفائر ... عاد الشيخ من صلاته... بخطى ثقيلة وصوت واهن قال له :-

  تصبح على خير.
دخل الشيخ لينام... بعد أن ملأ أذنيه صوت شخير الشيخ المعتاد أتجه صوب المقبرة التي أسكنها هذا الصباح بجسد شهى ،ثم أخذ يمارس هوايته الأثيرة قبل أن يشق نور الصباح ستار الليل.
إحساسـي مـات ... مــات

في لحظة ما ... في مكان ما ... في لقاء ما ... بينه وبينها ... ولد بعد لحظات مخاض عصيبة وبعملية قيصرية جاء إلى الحياة ... من رحم الغيب أطل بوجهه الصبوح على الدنيا ... من جوف العتمة أشرق بالنور ... أبوه فقيراً لا يمتلك شيئاً في زمن لا يعترف بذلك .. أمه ترفل الحياة على أطراف أناملها... تتمرغ على وسائد طرية ... تركت كل شئ حين اشتعلت الشرارة وتكونت البويضة في موعدها تماماً ... تناست كل شئ حينما هجم الحيوان المنوي بكارة وجدانها واخترق حصونها ثم خصّب بويضة وعيها ... كانت ترى الدنيا خضراء وأنه سوف يأتي اليوم ليجنيا معاً ثمار شقائهما .. بعد أن تسرب الخبر وملأ الدنيا كلها لم يجد بدا من الهروب فأهلها يحتقرونه وأن أطالته أيديهم سوف يمحون كل حرف من حروف أسمه من قاموس الوجود فر من أمامها وتركها وحيدة مع إحساسها الوليد / البكر تحاول أن ترعاه وتحوطه بالأمن من أي خطر محدق به ... لكنها فشلت؛ فمع أول دور سخونة هاجمت الوليد ممهورة بذلك الذي طلبها بماله الكثير مات ... مات إحساسها.

  إحساسي ميت .

لم تصدقها حينما قالت لك ذلك ... كنت تتوهم أنها تحاول الفرار من أسر نظراتك وخاصة أنها لم تنكر أو تؤكد أن مشاعرها بعد –محب- قد تحركت قليلاً ناحيتك لكن زواجك وأولادك وخطيبها كلها أشياء جعلتها هذه المرة تكتم ولا تستسلم... حاولت معها كثيراً ... فردت ذراعيك أمامها ... أغلقت كل طرق الهروب منك وإليك أمام وجهها ... لكنها كانت تقول لك دائماً ..
  إحساسي ميت وفوق هذا فأنني محصنة نفسي جيداً .
حينما جمعكما جلسة مصارحة بين الحصص في المدرسة التي تعملان بها بحت لها بحبك الذي اخترق كل قواعد وقوانين اللعبة الأزلية بين الرجل والمرأة .. لم تنكر أنها كانت سعيدة وهي تسمعك .. بل لا تعرف هل قصدت أم لم تقصد تعرية جزءاً صغيراً من نهدها الذي كاد أن يفر من سوتيانها المحزق؟ كأنها كانت تعلم مسبقاً أن هذا هو اليوم الذي حددته لكي تعلن لها فيه عن حبك فلبست أجمل ثيابها وتزينت وتعطرت وكأنها تهئ نفسها للزفاف عليك ... حين هاجم مشرف اليوم مجلسكما البعيد عن الأعين عنفها بشدة لتركها حصة فصل (1-1)وجلوسها معك ... كنت لا تعرف ماذا تفعل حيالها؟‍! هل كنت تثور في وجه المشرف فيكشف كل شئ ؟ أم تجلس تهدهد قلبها المضطرب من ضغط كلماتك الحانية عليه.
  كيف عرفت عني كل هذا ؟!وحياة مريم ابنتك تقول لي ؟!
لم تشأ أن تخبرها كيف عرفت ... لكن كل ما كان يشغلك هو ماذا عرفت ؟ وهل هو صحيح أم لا ؟
يظل رفضها القاطع بان شيئا من كل هذا لم يحدث مطلقاً معلقاً على حافة أذنيك ولا تريد أن تدخله إلى عقلك ... كنت متيقناً أنها تحبك رغم علمك الأكيد أن تجربة حبها الأخير مع محب كانت قد دمرتها تماماً حتى أنك كنت تشير إلى صدرها وتحديداً إلى ذلك الجزء الذي يرقد فيه قلبها الصغير وتقول :-
  هنا يوجد قطعة من الفحم الخام .
لا تضحك كعادتها ولا ترد عليك بل تتركك تكمل حديثك لأن ذلك يشجيها ويعذبها كثيراً ذلك العذاب الذي تعودت عليه منذ زمن ... كل يوم كانت تأتي إلى المدرسة متعبة ... خائرة ... منهكة القوى وعندما كنت تسألها عما بها كانت ترد بلا مبالاة :-
  أبداً ... لا شئ ... فقد نمت بالأمس في الرابعة صباحاً .
حينما كنت تفغر فاك وتنطق – رغما عنك- بصيحات التعجب والاستغراب وتتساءل فيما تنفق كل هذا الوقت كانت تعاجلك :-
  كنت جالسة في السرير أفكر ... فيمن لا أعرف ؟
حين كان تصدمك ملابسها الغالية / الأنيقة وطقم الذهب اللامع الذي كانت تزين به معصميها وجيدها ويصعقك خاتم الزواج وهو يزين بنصرها الأيمن كنت تقول لها :

  هل تحبينه هو الآخر ؟
  مــن ؟!
  صاحب هذا الخاتم.
كانت تنظر إليك ثم تنظر إلى الخاتم وتقول لك :-
  أحبه أو لا أحبه لم تعد تفرق .... كله سواء.
كنت تقول لها دائماً فكري في خطيبك فهو الحياة والوجود والأمل للتخلص من كل ما تعانيه الآن ... كانت تنظر إليك باستهزاء وتقول :-
  ما الأمل ؟ وكيف أجده ؟ لم يعد هناك أملا في حياتي !!
تحاول أن تذكرها بالنعيم الذي ترتع فيه... جمال تحسدها عليه البنات ،ومال غير متوافر لكثيرات وشهادة عليا (بكالوريوس تربية) ومكانة كبيرة في قريتها الصغيرة لها ولخطيبها الدكتور أيضا ....عندما كنت تهم باستكمال حديثك كانت تقاطعك بحدة :-
  كل هذا لا يهم .... المهم ...
رغم أنك لا تقاطع حديثهاً حتى تعرف عنها أكثر إلا أنها لا تكمل حديثها وتتركك وحيداً تنهش قلبك وعقلك الحيرة والتساؤلات .
 ماذا تريد هي؟ ماذا تريد من حياتها؟ من وجودها ؟
دائماً كنت تعجز عن إيجاد أي إجابة لأي تساؤل من كل هذه التساؤلات فكنت تعاود الكرة مرة أخرى وتلقى بنفسك في بحرها المضطرب عل يحدث ما تتمناه منذ زمن وتحملك إحدى موجاته إلى بر الحقيقة أو ترسلك على شاطئ آمان يفسر لك لغز قلبها المحترق.

انتهي العام الدراسي سريعاً كما بدأ وجاءت الإجازة الصيفية الطويلة المملة واقترب موعد زفافها ... عندما حل اليوم بعينه دعتك لحضور هذا الحفل ... لم تتوان لحظة في تلبية دعوتها فقد كنت تتوق لرؤيتها في ثياب الزفاف وكنت تتوق أيضاً لرؤية زوجها الذي عاد من الخارج قبل موعد الزفاف بأسبوعين كاملين. عندما حضرت حفل الزفاف وفعلت مع زوجها مثلهما فعل باقي المدعوون من أحضان وقبلات لامست يدك يدها الباردة رغم الجو الخانق في إحدى ليالي سبتمبر الحارة .. حين رمتك بنظرتها الجارحة التي اخترقت جدار قلبك حتى أدمته تأكدت وقتها أنه بالفعل إحساسها مات ... ومات منذ زمن ليس بقصير عندما قابلتها بفعل فاعلة – بعد مرور شهر كامل على زواجها وهجرة زوجها إلى البلاد البعيدة وتركها وحيدة .. صدقت أخيراً وتأكدت أكثر أن إحساسها مات بالحقيقة مات وأعادت على مسامعك جملتها القديمة :-
  إحساسي ميت.
لم تشأ أن ترد عليها بل تركتها مع صديقتها وصديقتك الفاعلة,ولم تعرف إلى أين تذهب ؟

إهـــداء

إلى تلك التي ترقد في تجويف القلب
منذ زمن
عله يسرى في بدنها البارد
نفحة وجودي
وتدب فيها الحياة
فــــــتفر من ليلها الأبدي البهيم


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى