الخميس ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
بقلم فيصل سليم التلاوي

أبو محمود لا يرد السلام

أبو محمود رجل جاوز الخمسين من عمره، تفصح عن ذلك صلعته العريضة، وهجوم الشيب على ما تبقى من شعيرات تراجعت إلى خطها الدفاعي الأخير على جانبي رأسه، وكثيرا ما يعبر عن ذلك متفاصحا مرددا قولته التي حفظها عنه معظم زملائه:

 أزرى بيَ العاديان الشيبُ والصلعُ.

غير أن أبا محمود على تقدم سنه، كان أوفر نشاطا وأعلى همة منا جميعا نحن زملاءه من المدرسين الشباب، الذين كنا في مثل سن أبنائه. فقد كان أبكرنا حضورا على بعد مسكنه عن المدرسة، وأكثرنا انضباطا وحرصا على مواعيد حصصه في بداياتها و نهاياتها.

راقبته عن بعد زمناً دون أن أدعه يلاحظني، محاولاً فك رموز هذه الهالة من المهابة التي تحيط به، لعلي أظفر بسرٍ من أسراره، يدلني الطريق للسير على خطاه، فما وجدت فيه أمراً غيرعادي. وجدته يحرص على بداية حصته حرصه على صلاته، ولا يستوقفه في الفصل عند نهايتها مستوقف أبدا. يوقره طلابه ويجلونه عن بعد، ولا يلتفون حوله في أي مكان كما يفعلون مع غيره من المدرسين، وخمّنت أن بينه وبين الكراسي خصومة قديمة، فما ضبطته قط جالساً وإن تتابعت حصصه، بينما يمضي غيره من المدرسين الشباب معظم حصصهم قعودا.

أقسم لي المرشد الطلابي الذي يمر على فصول المدرسة يومياً لتسجيل الغياب، أنه ما دخل يوما على فصل أكثر هدوءاً و انضباطا من الفصل الذي يكون فيه أبو محمود.

لكن أمراً واحدا ظل يحيرني ويستعصي عليّ فهمه في سلوك معلمي وقدوتي (أبو محمود)، وهو أمر لا يلاحظه إلا من تخصص مثلي في تتبع دقائق أموره. ذلك أنه لم يكن ليبدأ شخصاً منفردا بالسلام، ولا يرد تحية المفرد ولا يحادثه إلا باقتضاب شديد، بل يلوذ بالصمت المطبق، أو يتشاغل عنه بقراءة أو كتابة، أو ينسحب مخلياً المكان، فإن كانت الجلسة جماعية ألفيته أكثر القوم أنساً وحديثا ومباسطة وعلما، حتى كنا نحن الشباب نألفه أكثر من ألفتنا لآبائنا، وكنا نلقى منه عطفاً وحُنواً وإرشادا لا نلقاه من آبائنا.

فما سر عزوفه عن الشخص المنفرد وتجاهله له؟ حتى أنا الذي أُجِلُّهُ والذي أخذ مني إعجابي بشخصيته كل مأخذ، يتحاشى النظر إليّ أو محادثتي عندما أكون وحيدًا في غرفة المعلمين، أو في ركنٍ من أركان الفناء.

هذه هي الثغرة الوحيدة التي لاحظتها في بنيان هذه القلعة الحصينة المكناة (أبو محمود)، ولقد عزمت على النفاذ منها رغم ضيقها، ومحاولته تمويهها بالانسحاب والتشاغل واختلاق الأعذار والموضوعات الجانبية، للتغطية على انسحابه في كل مرة يستشعر فيها أنني مزمع على طرح سؤالي المحير، فيقطع عليّ الطريق قبل الولوج فيه.
 أستاذ أبو محمود كنت...

• نعم يا أستاذ خالد، سأعود إليك بعد أن أرى ماذا يريد المدير مني وقد استدعاني للتو. ولا يعود إلا وقد تيقن من وجود معلمين آخرين في الغرفة، فيبادر مذكراً إياي:

 تفضل أستاذ خالد، ماذا كنت تريد أن تقول؟

وهوعلى ثقة أنني لن أطرح سؤالي على مسمع أحد، فأجيبه:

 شكرا يا أبا محمود، مرة أخرى إن شاء الله.

 وأؤجل السؤال الذي يعتلج في صدري إلى حين، حتى أقتنص فرصة مواتية في نهاية يوم مناوبته، وقد هدأت الساحة وانصرف معظم الطلبة والمدرسين، فأبادره دون مقدمات:
 عمي أبو محمود، أريد أن أسألك...

 وعمّ ستسألني؟ وقبل سماع سؤالك أشترط عليك أن ترد لي لفظ (عمّ) إلى أصله، وتبين لي ما فيه من إدغام وحذف، وإن عجزت فسنؤجل سؤالك إلى يوم غد، ويتشاغل عني في زجر بعض الطلبة العابثين، بينما أحار أنا مدرس العلوم في فك طلاسم لغزه اللغوي، الذي قذف به بين يديّ ليلهيني به.

حتى إذا كان صباح اليوم التالي بادرني على رؤوس الأشهاد مستفسراً عن سؤال الأمس، وهويعلم علم اليقين أنني لن أطرحه على مسامع ملأ من الناس، فأرد وقد أفحمني:

 لقد أنستني أحجيتك سؤالي، عندما أتذكره سأعاود طرحه. وأكرر المحاولة ثالثة ورابعة كلما سنحت سانحة، لكنني أجده في كل مرة متمترساً جاهزا لسد الثغرة الوحيدة في هذا البناء الذي أراه شامخا. كأنه قد فطن جيدا إلى أن الإجابة على هذا السؤال هي خط دفاعه الأول، وعليه أن يشتت ذهن السائل ويصرفه عن تكرار سؤاله بكل السبل.

فلما أعيتني الحيلة، وانقطعت بي سبل النفاذ إلى أغواره، وعجزت عن الوصول إلى سره الدفين الذي يخفيه عنا جميعا، وأيقنت انه لن يُمَكنني من ذلك، أقلعت عن محاولات اقتناص الفرص لطرح سؤالي زمنا، ولاحظ أبو محمود ذلك، واستشعر فداحة هزيمتي أمام طول قامة انتصاره عليّ، فما راق له ذلك ولا استساغه، وهو الذي يؤثرني على غيري من المدرسين، ويحنو عليّ حنوه على أبنائه، ولا يرضى ليَ الخذلان في مواجهة حتى لو كان هو ذاته خصمي فيها.

صباح يوم خميس وأنا أتمشى مطرقاّ وحيدا في فناء المدرسة، إذا بيد تربت على كتفي، التفت مندهشاّ عندما طالعت وجه أبي محمود على غير عادته، يقصدني ليحييني منفردا ويقول لي:
• أود أن نجلس سوياّ خارج مكان العمل، فإن عندي حديثا أُسرّه إليك، وإجابة على سؤالك المتكرر، الذي لم تواتك الفرصة لطرحه.

• أذهلتني المفاجأة وطارت بي فرحاّ، فأجبته على الفور مستعجلا اللقاء:

• متى؟ أنا تحت أمرك.

• كنت أود أن أدعوك لضيافتي في منزلي، لكنني لا أرغب في أن يلتقط أحد بعض كلمات إجابتي ممن لا يعنيهم الأمر، ولم يلاحظوه ولوكانوا من اهل بيتي. أنت وحدك جدير بالإجابة، فاختر المكان والزمان المناسبين لك.

• بل تختار ما تراه مناسبا من الأماكن التي تألفها، والوقت الذي يلائمك، وأنا طوع بنانك.

• إذاً نلتقي في العاشرة من صباح غد أمام بوابة الحديقة العامة.

لو قلت إن ومضة أخرى غير فكرة اللقاء ما طافت بخيالي، ولا غمض لي جفن بعد ظهيرة ذلك اليوم، وطوال الليلة التالية وحتى موعد اللقاء، ما كنت مبالغاً في قولي.

حرصت أن أكون مثل أبي محمود في دقة مواعيده، وأن أثبت له أنني تلميذ نجيب يستحق أن يكون كاتم أسراره، فوصلت المكان في الموعد المضروب تماما. ويا لخيبتي الكبيرة عندما أدركت أنه قد هزمني حتى في هذه، عندما ألفيته يستقبلني بترحاب أمام البوابة، وأنا الذي كنت أحرص على أن أسبقه لأعبر له عن مدى تشوقي للقائه وسماع حكايته.

انتبذنا من الحديقة مكانا قصيا، وجلسنا على مقعد خشبي في ظلال شجرة وارفة، وأنا مطبق صمتا، متلهف لسماع حكاية أستاذي (أبو محمود) التي انتظرتها دهرا، ولم يبطىء عليّ في حديثه الذي ابتدأه قائلا:

• أنت يا أستاذ خالد تريد أن تسألني عن سر إعراضي وتجنبي لكل شخص منفرد، بينما أقبل على الجماعة بانسجام وألفة.

• نعم. هو ذا سؤالي الوحيد الذي حيرني طويلا، وعجزت عن إيجاد تفسير له، وما رغبتي في سماع إجابتك إلا لأتعلم درساً من دروس الحياة، فإني أستشعر وراء موقفك هذا تجربة مُرةً تحاول نسيانها، وعدم الوقوع فيها مرة ثانية، فإن كانت الإجابة سراً تخفيه، أو أمرا لا ترغب البوح به، فإنني أتراجع عن سؤالي، وأعدك أن لا أكرر المحاولة أبدا.

• لو رغبت في إخفاء الأمر عنك أكثر من ذلك، ما ضربت لك موعدا وما لقيتك، لكنها تجربة مضحكة مبكية، سأحكيها لك، فاستمع إليّ:.

• لقد أنفقت يا بني معظم سنوات عمري مغتربا تطوّح بي الأيام من بلد إلى بلد، مفتقدا دفء العلاقات الحميمة وصلات القربى والروابط الاجتماعية، ومبادأة الناس بالسلام والتحية والرد عليها بأحسن منها، مما ألفته طفولتي الريفية، واختزنته ذاكرتي طويلا، وبقيت الوحدة والوحشة نقطة ضعفي الوحيدة، وظللت عمري كله أسير الحنين لمجتمع يسلم الناس فيه على بعضهم، ويحادث أحدهم الآخر حيثما لقيه وأينما رآه، في المسجد، في الطريق، في الحقل، في شرفة منزله، أو على سطح بيته.

ولما قُدّرلي أن أعود إلى الوطن منذ عامين، ظننت أنني أعود إلى حلمي القديم الذي ظللت متعلقاً به عمري كله. عالم إفشاء السلام وإطعام الطعام، وتبادل الكلام ودنيا الوئام والانسجام.

وكم أسفت عندما فوجئت بموت ذلك العالم الشَيّق الذي كنت أعيش في غربتي على ذكراه، واكتشفت سريعا أنني أذرع الأرض الخراب، خراب في الروح وفي الصِلات وفي الأرحام وفي كل شيء. خراب هائل يفوق الذي عايشته وتجرعته طيلة سنوات اغترابي.

لكنني - رغم نصح الناصحين وتحذيراتهم - أزمعت أن أضيء شمعة، وأسير بها وسط قِطَع الليل وعصف الرياح، ورحت أغرد بعيدا عن السرب، أرد السلام على الماشي، وأحادث الواقف، وأجالس الجالس.

مضت على هذه البداية أيام عندما بادرت جاري القريب بعد صلاة العشاء مصافحا قائلا:

• تقبل الله

• الله يقبل منا ومنك صالح الأعمال، ويرضى عنا وعنك ويدخلنا وإياك جنته.

وظل ممسكا بيدي مستطردا في حديثه ومواعظه حتى غادرنا المسجد. فسحبت يدي من يده مستأذنا بالانصراف، لكنه استوقفني بأدب جمّ و ورعٍ بادٍ على محياه:

• ألا أدلك يا جارالرضا على تجارة رابحة؟

• تجارة؟ أي تجارة؟

• (تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم)

وكررها بأموالكم فقط، فالأنفس كثيرة ولا تجد من يجهزها. مددت يدي إلى جيبي وناولته كل ما كان فيها دون أن أعلم مقداره. أليست أفضل الصدقات أن لا تعلم شمالك ما تنفقه يمينك؟
بعد ذلك بيومين استوقفتني شابة أنيقة، تقف عند منحنى الشارع في ميدان رئيسي في المدينة بإشارة من يدها، بينما كنت أسير مندفعا مستغرقا في التفكير في بعض شؤوني، وهي تهمس في حياء ظاهر:

• لو سمحت لي بكلمتين يا عم؟

• تفضلي يا ابنتي، ماذا تريدين؟

• عفوا، كنت أريد أن أستشيرك في أمر خاص فأنت في مثل هيئة وسن والدي، وقد انفتح قلبي للحديث إليك دون سائر المارة.

• وما الأمر يا ابنتي؟

• إنه زوجي، زوجي يا عم يذيقني الأمرين من يده ولسانه، وليتك تحادثه فيستمع إليك ويخفف عني بعض ما ألاقيه منه.

• أنا لا أعرفه با ابنتي، فكيف لي بالحديث مع شخص لا أعرفه في أموره الخاصة؟ لماذا لا تكلمي أحدا من أهله أو أهلك ليوفق بينكما؟

• وأين هم أهلي؟ وكيف أستطيع الوصول إليهم وهم في مدينة بعيدة، وقد طردني من المنزل بلا مال أو أسورة أبيعها فتمكنني من الوصول إليهم.

مددت يدي إلى جيبي ونقدتها ما تيسر من مال قائلا:

• أوصلك الله إلى أهلك سالمة يا ابنتي.

لم تكن قد مرت على هذه الحادثة سوى أيام قليلة، عندما لوّح لي ذلك الشاب الباسم الثغر من الرصيف المقابل، وهو يرتدي الزيّ الرسمي لأحد الأجهزة الأمنية مبرزا الشعار والعلم الوطني. وقد اندفع نحوي محييا مُصبِّحا كأنه يعرفني منذ زمن بعيد، ثم استطرد سائلا:

• هل مجمع رغدان للسفريات بعيد من هنا ياحاج؟

• بعيد جدا، نحن الآن على مقربة من دوّار الداخلية وما عليك إلا أن تأخذ (السرفيس) من أمام مستشفى الأمل ليوصلك إلى المجمع.

• أقصد مشيا على الأقدام، هل يستغرق وقتا طويلا؟

• يستغرق نصف النهار، وما الذي يضطرك للسير على قدميك؟ ومتى ستدرك دوامك؟

• أنت لا تدري ما الذي يضطرني يا حاج، لقد فقدت محفظة نقودي، وربما تكون قد نُشلت مني في زحام الحافلة، ولم يُبق لي ابن... حتى أجرة السرفيس.

نقدته ما كان في جيبي من نقود معدنية، ومضيت غير ملتفت إلى وجهته.

• كم أنت طيب يا أبا محمود، لقد تغير الزمان وأهله،( وبدّلت الدنيا قرودها بغزلانها).

• لا تقاطعني يا بني حتى أفرغ ما في جعبتي.

• أنا متأسف، ومعذرة على أنني لم أطق صبرا على سماع ألوان الابتزاز التي تعرضت لها دون تعليق. تفضل أكمل حديثك، وكلي آذان مصغية، ولن أنبس ببنت شفة.

في مساء اليوم نفسه، وبينما كانت مشاهد الدمار والخراب الذي ألحقته قوات الاحتلال الصهيوني بمخيم جنين لم تبرح الذاكرة بعد لقيتها، أو لأقل لقيتني في وسط الميدان، بثوبها المطرز المميز الذي لا تخطئه العين، وقد استوقفتني من دون المارة:

 ابنتك يا حاج من مخيم جنين، وقد فقدت الزوج والولد ولم يبق لها سند، وأجهشت في البكاء. فأبكتني لبكائها، ومددت يدي إلى محفظتي ونقدتها ما بها، وعدت إلى المنزل دون أن أشتري الحاجة التي خرجت لشرائها.

في اليوم التالي وبعد أن انفضت المسيرة، التي بُحت فيها أصواتنا من الصراخ تأييدا لأهالي مخيم جنين وضحايا حارة الياسمينة في نابلس، وبينما كنت عائدا وحدي إلى منزلي، استوقفني ذلك الكهل بطربوشه وقمبازه المُقَلم وحزامه العريض ولهجته النابلسية التي لا تخطئها أذني:

 مسّاك الله بالخير يا حاج.

• مساء الخير والرضا.

• والله يا حاج نحن من حارة الياسمينة، والأحوال على الله، الله لا يحوجك.

تناولت ما في جيبي من نقود ودسستها في جيبه، ودعوت الله أن يفرج همه وأن يعيدني وإياه إلى موطني وموطنه.

ولبثت على هذا المنوال شهورا، ما أيقظني من غفلتي إلا امرأة لقيتني ظهيرة ذات يوم أمام المخبز، وأنا أهم بركوب سيارتي وقد اشتريت خبزا وكعكا، بادرتني بثقة واطمئنان:

• أليست طريقك إلى حي كذا يا حاج؟

• بلى

• ألا توصلني في طريقك بدلا من طول انتظار الحافلة وزحامها.

ولما كانت متقدمة في السن، في مثل سني تقريبا، لا مطمع فيها ولا ريبة في حملها، إلى جانب أنها تنوء بأحمال من الخضار والفواكه في أكياس تحملها، أشفقت عليها وخجلت أن أرد طلبها فقلت لها:

• تفضلي

واسترسلت طيلة الطريق تحدثني وتحدث نفسها، كأن بيني وبينها معرفة قديمة، سألتني عن مسكني وعملي وأولادي حتى قطعنا المسافة دون أن ندري.

قبل أمتار قليلة من بلوغ منزلي، وأمام دكان جزار استوقفتني لتنزل قائلة:

• أريد شراء لحم وقد نفدت نقودي ألا تسلفني عشرة دنانير ياحاج؟ وأعيدها لك فأنت جارنا، لقد عرفت بيتك، وكنت صادقا عندما قلت لها:

• لم يبق في جيبي سوى دينار واحد.

• دينار واحد؟ وماذا أفعل بالدينار الواحد؟ قلت لك عشرة يعني عشرة. تدفعها فورا قبل أن ألم عليك كل أهالي الحي وأفضحك أمامهم.

عقدت الدهشة لساني من هول المفاجأة وهمست متمتما:

• أقسم لك يا امرأة أنه ليس في جيبي سوى دينار واحد.

• ألست في حيك وكل هؤلاء التجار يعرفونك؟ انزل واستلف من أحدهم عشرة دنانير.

• أمرك. حاضر. ونزلت خجلا مرتبكا، وبادرت أول صاحب دكان أعرفه متلعثما – أنا الذي ما استدنت مليما واحدا طيلة حياتي -.

 هل أجد عندك عشرة دنانير؟ وأعيدها لك عندما أصل المنزل.

• نعم. تفضل يا أبا محمود، أعدها وقتما تشاء، أو لا تعدها فالجيب واحد، وعدت أجر خطاي إلى السيارة، التي كانت لم تبرحها بعد ونقدتها ما طلبت، فأدارت ظهرها تؤرجح عجيزتها ذات اليمين وذات الشمال زهوا وظفرا، بينما تسمرت على مقعد السيارة ذاهلا متخيلا حجم الفضيحة التي كانت ستغرقني بها. وأقسمت من يومها أن أضع على عينيّ برقعا حيثما كنت، وأن لا أكلم شخصا منفردا ولو بتحية.

• وهل وضعت برقعا فعليا يا أبا محمود؟! وكيف؟

• البرقع يا أستاذ خالد في تعريفه المعجمي هو( قناع النساء والدواب)، وليقيني أنني لست من الصنف الأول، فإن برقعي الذي تبرقعت به كان من الصنف الثاني، وهو ما يوضع على جانبي وجه الدابة، كي لا تبصر أبعد من مواطئ قوائمها، وحتى لا يفزعها ما تراه على جانبي الطريق.
من يومها لزمت برقعي لا أخلعه أبدا، فلا أبصر إلا موطئ قدمي، ولا ألتفت يمنة أو يسرة، ولو انقلبت الدنيا رأسا على عقب، ولا يستوقفني مستوقفٌ ولو أخذ بجُمع ثيابي.

ومع ذلك كله ومن وراء برقعي، ما زلت أرى جاري القريب ينفرد كل يوم بوجهٍ جديد بعد صلاة العشاء، مواصلا جمع التبرعات للمجاهدين، وما تزال المرأة التي طردها زوجها تبحث كل يوم عن حكم ليس من أهله وليس من أهلها، وما يزال منتحل شخصية رجل الأمن يصطاد يوميا عابر سبيل يسأله عن الطريق إلى مجمع رغدان، ولا تزال امرأة مخيم جنين تذرع الميدان يوميا بثوبها المطرز، ورجل حارة الياسمينة بقمبازه المُقَلّم ينصب كمينه كل ليلة لعابر جديد. أما امرأة الفرن فلا زالت كل يوم تعلم رجلا جديدا التوبة عن فعل الخير.

• أيكفيك هذا يا أستاذ خالد؟ وهل أجبت على سؤالك أم أنك ستعاود طرحه يوما ما؟
وارتفع صوت المؤذن مناديا لصلاة الجمعة، فسكت أبو محمود عن الكلام، ونهض واقفا وودعني ومضى لصلاته، وظللت ذاهلا مما سمعت إلى يومي هذا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى