الأربعاء ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦
بقلم عائشة بنت المعمورة

أكذوبة البوح

استسلمت له في لحظة هيام وراحت تداعب أحلامها معه وهو يشد على يدها.. يقبلها.. يحضنها، أعمت كل العيون التي كانت تنظر إليها.. استطاعت أن تسكت سخرية صديقاتها بها وأنه ليس من مستواها العائلي، بركوبها سيارته الفاخرة..

كل يوم ينتظرها عند باب المبنى الجـامعي يغريها بهدايـاه وبالأغـاني الصاخبـة وبالبحر وزرقته وافتراشهما الرمل تحت جـدائل الليل البهيم يتأملان النجوم والقمر الساطع..

جاءت "سعـاد" من أقصى الخريطة الجغرافية.. حالمة بالمستقبل تحمل على كتفها حقيبة رمادية صغيرة.. مرتدية جلباباً يميل إلى الأزرق الداكـن، تغطـي رأسها بخمار أسود.. تنتعل حـذاءً بنياً، ولشدة حيائها لا ترفع عينيها كلما تحدث إليها أحد فتطرق ببصرها إلى الأرض خجلاً.. متفوقة في دراستها لكنها متقوقعـة على نفسها بحكم تربيتها المتشددة وعادات وتقاليد بيئتها الصغيرة.. أفهمتها أمها منذ نعومة أظافـرها أن الشرف غال وأن كل رجل يتحدث معها أو يقترب منها يـود الظفر بها، وكانـت تلـك وصية أمها الدائمة ((حذار من الرجال يا ابنتي..)).

هذا الهاجس المتردد في مسمعها المتمرد على ذاتها لم يفارق جوفها وتحسب خطواتها به كلما أراد أحد الزملاء في الصف التحدث إليها…

نادتها "أحلام" في أمسية يوم الأربعاء بعد خروجهم من المدرج ساخرة "بالقطة العمياء" وهي ابنة العاصمة المتمرسة، وكم أثّر ذلك فيها أمـام الجميع وهي تنظر إلى هندامها البسيط ويدها تتحسس خمارها الأسـود الذي لا يـنزلق من علـى رأسها وتحمر وجنتاهـا خجـلاً، ثم خرجــت مسرعة باتجاه الشجرة الكبيرة التي اعتادت الوقوف تحت ظلها وكل واحد ينظر للآخر ساخـطاً.. ضاحكاً.. مشـدوهاً.. إلا هـو وقف مسندا ظهـره إلى الحائـط يعيد كلام "أحلام" في تفكير عميق،، يصول ويجول وقد انفتحت أساريره لهفة وجنوناً؟؟

"كمـال" لا يكتـرث بالدروس وبالمستقبل المنشـود.. طباعـه شرسة،، لكن وسامتـه وطريقة كلامـه وإشـارات يديـه تزيـد من احتوائه للآخريـن، فرحلات أوروبا تضمـن لـه الحيـاة الرغدة والسيـارات الفاخـرة تكسبه الرهبـة والطاعـة وبذلاتـه الأنيقـة المختلفـة الألوان تفرض له الاحتـرام والتقدير..

كان يصعد آخر الزملاء، ويسرق أول النظرات منهـا، يتعمد إثارتها وقبوله بها في نفسه،، يدغـدغ مشاعر اللعبة والمساومة كأول الخطوات،، يستفز حياءها بقهقهاته العالية ويسقطها في عناد مكابر..

اليوم بارد والحركة قليلة والبرد يرعش الأجساد فينفـخ الدفء في القلوب الصامتة،، يعاوده الحنين دون أن يشعر بوجود الآخرين غير مبال للغمزات والهمسات التي تلاحقه… عاود الابتسامة نفسها وبإشارة منه حدد اتجاه المكان الذي يراها فيه، فهزت الرأس وبادرته بنظرات الشوق واللهفة وكانت نهـاية البداية حيث كان "كمال" متمرداً على وجع الذاكرة وأحلام العشق، يلقي بجثتـه في دوائر الوهم مجنونـاً،، يعلن العشق المتعب وحيداً في فضاء المتاهات.. تشتعل فيه اشتهاءات جسد في ليل مثخن بالجراحات،، يتقزز منه،، يمضي شاهراً عصيانه بأكذوبة شهوة البوح والخطايـا …

زوجتك نفسي وكانت أول القبلات وآخر الكلمات فيتنكر لها المكان والزمان، وتتنكر لها لحظة الولادة الخاطئة إذ ولجت إلى زنزانة الأكذوبة..

اقتادتها أحلامها إلى دنـيء يسقط عند صهيل جسد تملـؤه فاجعة حب امرأة صدقت الأكذوبـة وبقايا العمر أشلاؤه حطاماً منسياً، وعانقت ابتساماتها وحياؤها دموعاً تتوارى في محراب الضياع والرذيلة، وروحاً بريئة تسكن أحشاءها.. منحها العمر موتاً جديداً وليلاً يرخى سدولاً من العار والفضيحة والألم.. أسكنت الغربان في خلدها، فهبت عليها رياح أقصى الخريطة الجغرافية تنذر برحيل أبدي ونسائم موت يطاردها..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى