السبت ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

زائرة الليل

يا زائرتي في منتصف الليل! تريدين منّي أجوبة؛ هيا اسأليني، فأنا غير قادر على مغادرة الفراش، بسبب حمّى الزمهرير .

ماذا فعلتُ بسنوات عمري وماذا أنجزتُ خلال عبوري في الحياة؟ حسناً! أعطني مهلة لكي أجيب؛ فأنا غير خائف منك، وبستان «اليازير»1 هو ما أريد؛ لأنّ روحي الثانية هناك.

يا زائرتي في «مكان الترك»؛ هاتِ تلك الزجاجة وكأساً ومكعبات الثلج، لكي نشرب نخب التعارف الذي سيجمع بيننا! واسقني من يدك الأخرى بعض الدفء، وأما اليدُ الحاملةُ لمنجل السفر الأخير، فواريها خلف ظهرك لِحين.
أزفت لحظة الرحيل. أعلم. زمن الوجود قد بلغ حدَّه، وما فتاتُ الوقت الذي أعيشه ـ الآن ـ سوى فضلا منك لأحكي. فهل تريدين حقّاً أن أحكي لك عن حياة العزلة والغربة في هذا الليل« الثليج»؟

انظري! يدان ألبستاني هذه «الذرّاعية»2 البيضاء. أنا لا أحب لون الكفن. رجاءً؛ اصبغيه بالزعفراني حتى أكون عند السفر في لباس الشمس.

أسراري تعرفينها: عاشق بلا حدود للأشياء الجميلة؛ مدمنُ خمر أحمق، محِبٌّ للمرأة والنثر، وجواد بدمي وروحي في سبيل العدل والحرية.

تعلمين أنّي أحبّ الله، ومع ذلك ف«كتاب الخمور» كان ولا زال هو «منهجي» للصلوات النقيّة والتأمّل في أبعاد الوجود.

وتعلمين أنّي كنتُ أدرّسُ «الشك» تفادياً للوقوع في الشرك، وأصوم عن الكلام لأجل بلوغ الحكمة، وأختلي بالطبيعة لسماع الموسيقى الكونية، وأطرح باستمرار أسئلةَ الوجود، وأرتّل حتى مطلع الفجر أشعار التصوّف، وأجني من الندى ما شيء لي من براعم الأزهار، وأسير بين الناس في تواضع...
أهذا ما تريدين؟ عدا هذه الأجوبة ما عندي بعدُ جواب.

يا زائرتي للمرة الأولى والأخيرة؛ أرى مِنجَلَك ملطّخٌ بدماءٍ صدئة. يعلم الله كم طيّرتِ من رؤوس. سؤال: هل لك أخوات؟ بل كيف قضّيتِ حياتَك؟ هل كل ما فعلتِ هو ضرب الأعناق؟

يا لها من حياتك بائسة! أمّا أنا، فحياتي أغنى مما تتصوّرين. أنا أمسك برؤوس الأقلام وأكتب بها كائنات نصّية لا تموت.

انظري أيتها الموت. هناك منديل نظيف. هاته! سأنظفُ بالخمر الباقية ما تكلّس من دماء على شفرة منجلك.
تعلّمي يا موت أن تكوني نظيفة على الأقل! ولا تزوري أحدا ـ بعد اليوم ـ ووجهُكِ باهتٌ وفمك مزمومٌ إلا عن ذلك السؤال الكريه: [ماذا فعلتَِ بحياتِك؟]

الله اكبر وأخفى. الله أعلم وأرحم بمن يعبدونه على طريقتهم. وأمّا أنتِ، فلا شيء. سيأتي يومٌ تجدين فيه نفسك منهكة من لا شيء، وستزورُك زائرةٌ أخرى، وستسألُك نفس السؤال؛ فماذا ستجيبين؟

الله هناك، ونحن هنا أتحدّث. لقد عشت حياتي ما استطعت وأنا غير نادم على كلّ ما فعلت، فهيا؛ أديريه ذلك المنجل الصدئ واضربي عنقي، ولسوف يغسل دمي النقيّ كلَّ الدماء؛ ومن رفاتي ستنبعث الحياة من جديد.
إلا أن تنحني عليَّ لكي تقبليني...

وددتُ لو كانتْ هنا...
حبيبتي هناك؛ في بستان «اليازير»، غير بعيد عن قبريْ والداي... حبيبتي اختطفتها منّي وهي ما زالتْ برعماً زهرياً، وأنا أريدُ أن أنام بجانبها، فاشرعي في عملك القديم... أريد أن أستريح...

1 ـ ندى البحر وهو نبات طبّي

2 ـ لباس مغربي يشبه الجلباب المصري لكنه فضفاض وبدون أكمام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى