السبت ٤ آب (أغسطس) ٢٠١٢
بقلم أحمد الاشقر

ناجي علّوش، يبقى فكره منارة

رحل عنّا ناجي علوش فجر يوم الأحد الموافق 29 من شهر تموز الماضي بعد أن أعيا جسده المرض، إلا أنّ روحه بقيت متقدة، كما بقي فكره منارة يستهدي بها أبناء أمتنا. رحل عنّا المناضل والمفكر القومي العميق والصلب والعنيد الذي جبل الكلمات بالرصاص. رحل في ذكرى تموز الناصرية 1952: حين أُنجز تأميم القناة والإصلاح الزراعي، والتصنيع والتعليم المجاني؛ وتموز المقاومة اللبنانية 2006 التي فرضت على العدو أن يعود إلى المربع ويعيد التساؤل: هل وجود دولة إسرائيلية ضروري لليهود؟ هل دولة إسرائيل هي الأكثر أمناً وأماناً ليهود العالم؟ وتموز اليوم يمثل المرحلة المفصلية التي تصارع فيها أمتنا على مستقبل أفضل في بغداد والقاهرة ودمشق وحلب. لقد رحل عنّا وهو المؤمن بانتصار الأمة مهما طالت الهزيمة والنكبات.
تعرفت على ناجي علّوش عندما كنت في نهاية المرحلة الثانوية في سبعينيات القرن الماضي. تعرفت عليه من خلال المجلة العبرية "همزراح هحداش/ الشرق الجديد" التي كان يحضرها أخي محمود طالب الكيمياء في الجامعة العبرية بالقدس حينها. قرأت مقالات علوش ودراساته المُترجمة إلى العبرية في هذه المجلة، التي كان يصدرها قسم الدراسات الشرق أوسطية والإفريقية في الجامعة العبرية في القدس، وكان يحررها "يهوشَفاط هركابي" أحد آباء الإستراتيجية النووية للكيان الصهيوني. تعرفت عليه في خضّم الخلاف الفلسطيني- الفلسطيني على التسوية وإقامة دولة مستقلة وما إلى ذلك من مقولات كانت ولا تزال تهدف إلى تثبيت وجود العدو على أرضنا العربيّة في فلسطين. وكما فهمت من تلك الكتابات، كان ناجي علّوش رافضاً للتعاطي مع أية فكرة من هذه الأفكار، كان فكره وومارسته مشدودين نحو التحرير فقط. وتم تصنيفه حينها كأحد مفكري الفكر القومي ومنظريه الأشدّ عداء للكيان الصهيوني ضمن حيز الفكر وحركة المقاومة الفلسطينية.

تعرفت عليه (أيضًا) في ثمانينيّات القرن الماضي عندما كنت طالباً جامعياً، حينه كانت أدبيّات ناجي علّوش الأكثر رواجاً وقراءة بيننا نحن الطلبة الذين كنّا ننتمي للاتجاهات القومية واليسارية. قرأت/ قرأنا وقتها "الثورة والجماهير"، دون أن نعي أن هنالك قوى تعمل على تحويل الجماهير إلى العداء للثورة؛ وقرأنا أيضا "المقاومة العربية في فلسطين" قبل أن تتحول هذه "المقاومة" إلى نقر على الطناجر وعزف على الآلات الموسيقية ضدّ الجدار الذي نظّر الكيان لإقامته في العام 1949؛ وقرأنا "الماركسية والمسألة اليهودية" قبل أن تتحول قضية فلسطين برمتها إلى زاوية من زوايا المسألة اليهودية؛ وقرأنا "الحركة القومية العربية" دون أن ندرك أن البعض يفصلون ويخيطون الدشاديش الباكستانية لأبناء الأمة. كان ناجي علّوش في الأدبيات مشدوداً إلى وحدة الأمة العربية ومنحازاً إلى المُنتجين الفعليين من أبنائها في الطريق إلى تحرير فلسطين "من رفح للناقورة" و "من الميّ للميّ" كما تقول الأغاني والأهازيج الشعبية الفلسطينية. وحينها لم نلتف إلى دراساته الأدبيّة ودواوينه الشعرية، لأننا كنّا مشدودين إلى السياسة التي تبدو هزيلة، لا بلّ وميتة، بدون الأدب والفكر بحقوله ومجالاته المختلفة.

وتعرفت عليه في المرّة الثالثة عندما بدأت أتردد على العاصمة الأردنيّة، عمّان منذ العام 1995، فيها تعرفت على أبي إبراهيم وزرته مراراً في بيته. كانت معرفتي الشخصية به دروساً لا يمكن نسيان الرسائل التي وصلتني أنا ومن شاركنا مجلسه خلالها دون أن يخطط لها، فقد كانت جزءاً من بنية تكوينه النفسي والوجداني والمعرفي والسياسي. كان الأكثر تواضعاً وإنسانيّةً ورقّةً وإخلاصاً بين القيادات والمفكرين الذين عرفتهم، سواء مع مزدوجين أو بدونهما: كان هادئاً يتحدث دون تشنجّ؛ وكان بحراً في المعرفة والأدب والثقافة والفكر دون ادعاء؛ كان يتحدّث عن النضال والمعارك التي خاضها هو ورفاقه كواجب، أو فرض عين كما يقال؛ ورغم أنه اختلف مع الكثيرين في حياته، لم يتعرّض للحياة الشخصية لأحد، بل كان يؤكد على الخلاف في سياقه الفكري والسياسي. ولرقتّه وتواضعه وشهامته كنت أخاله فلاحّا في بير زيت، تلك القريّة الساحرة التي تُمّكّن الناظر من أعلى نقطة فيها من رؤية البحر الذي حملنا من فلسطين، والبحر الذي سيعيدنا إليها. وفهمت فيما بعد لماذا لم يتعرض أحد من خصومه لحياته الشخصية أيضاً، التي كانت اشتباكاً حقيقيّاً مع العدو.

جمعني مع أبي إبراهيم، المعلم والأستاذ، الاهتمام بالتاريخ والتراث الكنعاني والعقيدة اليهودية. فقد تحدثنا طويلاً عن بعض موضوعاتها، قبل أن يتحول هاجسي بمعرفة اليهودية وعقيدتها إلى تخصص أكاديمي أكتب المقالات والكتب عنه. كان أبو إبراهيم يدرك أهمية معرفة التاريخ الكنعاني والعقيدة اليهودية كنقيضين. ويمكنني أن أضيف هنا من خبرتي المعرفية فيهما: أنه لن تقوم قائمة لا للسياسة ولا للفكر العربي ككلّ إلا إذا حضر الكنعاني واليهودي كنقيضين في فكرنا وممارستنا اليومية. حين يدرك الطفل الفلسطيني، قبل الأكاديمي والعامل والفلاح أن صراعنا مع اليهود- الصهاينة هو "منذ مقتل المصريّ في الوادي".

في بيت أبي إبراهيم تعرفت على ولده إبراهيم الذي عاد من أمريكا يعتني بوالده بعد أن داهمه المرض، وأصبحنا صديقين. وإبراهيم عزاؤنا بوالده. الذين يعرفون أبا إبراهيم يعرفون من أين تأتي سعة معرفة إبراهيم وحماسه وإصراره وثباته على المبادئ والنهج القومي الذي لا يساوم على مصير الأمة أبداً؛ ويعرفون أيضاً من أين أتى إبراهيم بكلّ هذا الصدق والإخلاص. فإبراهيم مهما اختلفت معه تظل تنظر إليه بإعجاب وتقدير بالغين وتحجم عن الاختلاف معه أحياناً كثيرة.

وفي بيت أبي إبراهيم تعرفت على أخيه اللغوي والشاعر المرحوم جميل علّوش؛ والحديث مع جميل لا يختلف عن الحديث مع أبي إبراهيم سوى في الموضوع. ساعدني حديثي مع المرحوم جميل على ترتيبب بعض أفكاري فيما يتعلق باللغة والقرآن، والشعر الكلاسيكي والحديث.
وفي بير زيت تعرفت على شقيقهما الصيدلي والباحث موسى علّوش. تعرفت على موسى لأني مهتم في الأدب الشعبي (مع أني لست باحثاً فيه) ويهمني تحديداً حضور الرموز الدينية في الأدب الشعبي. وقد عمل موسى على جمع بعض هذا الموروث في كتب ومقالات وكتب القصة أيضاً، كذلك حقق ديوان والدهم "الأغنية الشعبية في فلسطين".

ما قلته هنا ليس أكثر من كلمات وفاء لأبي إبراهيم وكل من ذكرتهم في هذا النصّ، ومن تعرفت عليهم في بيته. هذه كلمات وفاء للبيت الطيب الذي ربّى ناجي علوش وولده واخوته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى