الثلاثاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم مصطفى لغتيري

تـــــــــــــــــــــوق

هناك في قمة الجبل، لمع ضوء، ثم اختفى... لم يلمحه – أول الأمر – إلا قلة، فلم يجرؤ أحد على تأكيد رؤيته.. انشغل الذين رأوه بأشيائهم الخاصة... لكن ما إن سطع في الليلة الثانية حتى تحركت الألسن.. تهامس الناس فيما بينهم.. التقطت آذان الصغار ما حرص الكبار على تمريره – سرا – بينهم.. فتداولوا نبأ الضوء، الذي ينبلج فجأة أعلى الجبل، ثم يختفي كما ظهر.. تنافسوا في تفسيره.. هامت عقولهم الصغيرة في احتمالات لا حصر لها .. لكن الإجابات تعددت وتناقضت في أكثرها.. كان لظهور الضوء، في الليلة الثالثة، تأثير أقوى على القرية.. لم يعد من الحكمة تجاهله.. تطلع الناس، حين انبلج الصبح، إلى مصدر الضوء، فلم يظفروا بشيء... ترنحت الحيرة على وجوههم، وتسلل القلق إلى الأفئدة.. اجتمع الرجال بعد الصلاة.. تداولوا في الأمر، فتباينت آراؤهم.. انقسم الجمع إلى أكثر من فريق.. هناك من رأى ضرورة فعل أي شيء.. ومنهم من سفه الأمر من أساسه، وفريق ثالث ظل التردد يراوده.. تسلل ثلاثة أطفال إلى الجمع، يسترقون السمع، علهم يفهمون شيئا.. لكن ما إن انتبه الرجال إليهم حتى هموا بطردهم.. ابتعد الأطفال، وارتكنوا في مكان غير بعيد.. شيء ما طفق يتسلل إلى أجسادهم الصغيرة..

أحسوا بتأثيره دفعة واحدة، فبدا ذلك على سحناتهم.. تمدد ألق مثير عبر أجسادهم، ليستقر في محاجرهم.. فاكتسبت عيونهم بريقا خاصا.. همهم أحمد " لابد أن نعرف ما يحدث".. ارتعشت أجسادهم وهي تستقبل الكلمات التي تردد صداها في دواخلهم.. تبادلوا النظرات.. رمى خالد السؤال وكأنه يلقيه على نفسه "ولكن كيف؟" وبحركة عفوية تقهقر الصغار نحو الظلال المستلقية على امتداد الجدار المتداعي .. الجدول المترقرق في الجهة الموازية للجدار، يبعث خريرا، لم يحفل الصغار به.. لكن أيمن – أصغرهم – مد بصره عل امتداد مجرى الماء.. رمق امرأة تتطلع إليهم في فضول زائد، فحذر صديقيه.. انخرط الجميع في الركض.. لم يتوقفوا إلا وهم في مأمن من أعين الفضول.. تساءل أيمن " متى نذهب ؟" ران صمت ثقيل.. أجال أحمد بصره في كل الإتجاهات ثم أرسل الكلمات بحذر شديد:" الليلة " تسرب الوجل إلى القلوب.. داري كل منهم خوفه بالعبث بما لديه.. قذف أحمد الأحجار برجله، فيما تناول خالد حجرا.. صوبه نحو شجرة، فانتفضت مجموعة من الطيور، وطارت دفعة واحدة.. الإحساس بصعوبة المهمة ألقى بظلاله على الصغار.. غير أن شعلة من الإصرار تأججت في أعماقهم.. من الصعب إخمادها.. اتفقوا على الوقت المناسب للقائهم.. ثم تفرقوا في اتجاهات مختلفة..

ما إن انتشر، في أجواء القرية، غبش أول الليل ، حتى التأم جمع الصغار.. تقدموا في صمت نحو الجبل.. أقدامهم الصغيرة تتصادم بالأحجار المتناثرة في السفح.. الجبل يتسامق شامخا، جبارا، يطاول السماء.. يكاد يلامسها.. الطريق الملتوي يضيع في تفريعات لا حدود لها.. البرد المتسرب من ثنايا الجبل حرك في أجساد الصغار ارتعاشة خفيفة.. ما فتئت تتوطد مع مرور الزمن.. كان السير في بدايته، هينا خفيفا.. التفتوا إلى القرية..

لاحظوا أنها تنأى عنهم تدريجيا.. إنها تبدو من هذا المكان المرتفع، كثلة من السواد، يصعب تحديد تفاصيلها.. توغل الثلاثة في الجبل.. المسافة تتسع فيما بينهم.. شيئا فشيئا أضحى السير ثقيلا، متعبا.. أحس أيمن أنه يتأخر تدريجيا، فصاح " انتظراني.. لقد تعبت ".. التفت أحمد إليه مشجعا " يجب أن نسرع، وإلا لن نصل أبدا " خطوات خالد تجاري قدمي أحمد.. أصر أن يلازمه رغم التعب الذي أخذ يتسلل إلى أوصاله.. إحساس بالأمان يلفه وهو يلتصق به.. فكر أيمن أن يقلص المسافة التي تفصله عن صديقيه.. ركض، غير أن قدمه اليمنى اصطدمت بصخرة.. انفجرت من أعماقه صرخة تردد صداها في جنبات الجبل.. انذهل صاحباه لا.. توقف عن الحركة.. ثم تقهقرا نحوه.. بصعوبة تبيناه وسط الظلمة.. كان يتلوى من الألم.. أحاطا به، وهو ينشج ممسكا برجله.. حاول أحمد أن يفحص قدمه، فندت عنه صرخة قوية.. جلس الصديقان بجانبه وقد تسرب إلى قلبيهما إحساس بالفشل.. بكاء أيمن لا يتوقف.. أحمد يحاول تشجيعه.. فيما كانت عينا خالد تجولان في رحابة الجبل وشموخه وهو يقاوم البرودة المتسللة إلى جسده.. فجأة صاح منبها صاحبيه " انظرا .. هناك.. في تلك الناحية ".. انعقدت ألسنتهم، وهم يرنون بذهول إلى الضوء، الذي انبلج في قمة الجبل، متوهجا، شديد اللمعان.. وماكاد الثلاثة يتخلصون من ذهولهم حتى اختفى الضوء، مخلفا حسرة تعتصر قلوبهم.. فقد ضاعت فرصة معرفة مصدر الضوء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى