الأربعاء ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

لقاء بعد ثلاثين سنة

ماذا تريدون معرفته عنها بعدما لم أرها منذ ثلاثين سنة؟ الرأي عندي هو أنّ الشخص الذي لم تره منذ خمس سنوات، يصير شخصاً آخر بالتأكيد؛ فصروف زمننا المتسارع، والتجارب الحقيقية والافتراضية لا بدَّ أن تغيّـِر شيئا فيه، بل هي قادرة على تغييره كلّـِيا. لذا صرتُ لا أكلّم من لم أرهم لمدّة إلا بالكثير من الحذر. كم واحد كان في اليسار، فتحوّل إلى اليمين، أو كان في الشجاعة وصار إلى الجبن، أو في الشعر وسار إلى البزنس...

فاطمة كانت وجودية وهي في العشرين وأنا كنتُ مدمنا على العبادة. هي كانت جريئة مع الذكور وأنا خجولا مع الفتيات. هي تدخن سجائر «كانتْ» المخصصة للنساء، وأنا أصوم كل يوم ثلاثاء وخميس. هي تشربُ البيرة، وأنا أشرب الشاي. هي ضعيفة من حيث التحصيل العلمي وأنا قوي وعلاماتي لا تقل أبدا عن الثمانية عشر على العشرين. لذا جعلت منّي «صديقا» واستدعتني إلى بيتهم لأراجع الدروس معها.

في غرفتها المعزولة عن غرف «ڤـيلّة» والدها المهندس في شركة تكرير البترول، كُنـّا ندرس الرياضيات والفيزياء وعلوم الحياة، كل ليلة ـ تقريبا ـ حتى حدود منتصف الليل. وكانتْ تسألني بفرنسية متقنة عن رأيي في العديد من الأمور، وكنتُ ـ أنا الآخر ـ أجيبها بفرنسية لا بأس بها. إلى أن سألتني ـ ذات ليلة ـ عن رأيي في المعاشرة خارج الزواج؛ فأجبتها بقلب متسارع:«حرام». ومع ذلك حدث بيننا ما كنتُ أخشاه وأتمنـّاه. فاطمة كانت من نوع النساء القويات، وأنا كنتُ مراهقا لا يعرف النساء. ثم ناولتني سيجارة وقالت:«جرّب !»، وبيرة، وقالت:«ذق !».

في بيتنا المتواضع؛ في الغرفة التي أقتسمها مع أربعة إخوة، لم أنمْ من كثرة الندم والشعور بالسقوط في حبّ فاطمة. وتوافدت عليّ الأسئلة:«هل أذهب إليها ليلة غذ؟ هل أخضع لأوامرها الطائشة؟ هل أصرح لها بحبّي؟ هل أقترح عليها الزواج؟ وهل وهل...

في الغد؛ في الفصل، جلستْ لصقي كالعادة. ونحن في درس الفلسفة حول «الأنا والآخر»، أمسكت يدي وتظاهرت بمتابعة ما يقوله الأستاذ. وفيما أنا أحلم بها زوجة لي؛ حلَّ امتحان الباكالوريا. وعندما قرأتُ اسمينا ناجحين في جريدة «العلم» وبحثتُ عنها لأبشرها، لم أجدها.

لم أجدها إلا بعد أربع سنوات من الدراسة الجامعية. صادفتها في حافلة نقل عمومي، وعمُري آنذاك عشراتُ النساء ومئات علب الدخان ومئات القناني وحنكة وشرّ لا مثيل لهما. كنتُ قد تحوّلتُ إلى طالب وحش بعدما اصطدم إيماني بـ«جان بول سارتر» و«ستيرنر وباكونين»، وبالمادية الجدلية وبفكر ماركس ولينين وهوشي منه وعمر الخيام وأبي العلاء المعري... صرتُ قويا على ما يبدو لدرجة أنني لم أتعرفها. قالت:«هل هذا أنتَ؟... أنا فاطمة ك... هل تذكرني؟» فتذكرتـُها... تلك المرأة التي أخرجتني من الإيمان. بدتْ لي امرأة لا ترقي إلى النساء العديدات اللواتي غررت بهن كما غرر بي: طالبات جامعيات، موظفات دولة راقيات، مطلقات... وبانت لي أقلّ من أن أهتم بها. فقبلتها على خذها كما كنت أفعل معها، لكنها شعرت بقبلتي بعيدة وقالت:«هل ما زلت تحبني؟». وكأنها أهانتني من جديد؛ قلت:«اسمحي لي يا ... سأنزل في هذه المحطة» فنزلتُ بالفعل لأغيب عنها ثلاثين سنة.

واليوم، الساعة، اللحظة، أكتب عن لقائي بها صباح يوم أحد في أحد المقاهي بمدينة أكادير. إنّها هي. بحجاب أبيض وحول طاولتها رجلٌ كنت أعرفه. كان تلميذا معنا في صف الباكالوريا، خجولا هو الآخر، لكن أكثر جدّية منـّي. صار هرما أصلع مثلي واسمه أحمد؛ وامرأتان تشبهانهما وأطفال.

وأنا أفكّر في الكتابة عمّا كُنـّاه وما صرنا عليه، كنتُ ـ من حين لآخر ـ أترصدُ ما تتحدّث بشأنه تلك الأسرة لعلّني أسمع كلمة «فاطمة» لأتأكّد من أنـّها هي وليس امرأة تشبهها. ثلاثون سنة جعلتْ أنفها الذي كنتُ أراه نافراً إلى أعلى كرمز للأنفة، منكسراً قليلا. ونظرتها التي كانت ثاقبة، منطفئة قليلا مّا. وصدرها الذي كان ناتئاً، ضامراً بشكل مستحيل؛ وكأنها فقدتْ نهديها في عملية مّا. وفي لحظة، توقفتُ عن التفكير وتقدّمتُ إلى طاولتها:«هل تسمحون لي بأخذ هذه المِطفأة؟» وأملي أن تتعرّف على صوتي من حروف كلمة «م.ط.ف.أ.ة» لأنّها نفس حروف اسمها الذي ناديتها به طوال سنة بلياليها ونهاراتها. فما ارتعش لها طرف عين أو ارتعدتْ لها شفة. وكأنّها لم تتعرّفني.

أخذتُ المطفأة التي ناولنيها زوجها أحمد، وأشعلت سيجارة. ولم تتململ عن موقفها منّي. ففكرتُ في الدرس الذي أعطتني والذي ما زلتُ أتذكرها به: كيفية تقشير الطماطم (البندورة). حدث هذا قبل الليلة إيّاها. قالت:«أمّي وأختي وفاء مسافرتان ولم تتركا لنا ما نتعشى به؛ علينا صنع عشائنا بنفسنا» فقمنا إلى المطبخ وأمسكتْ حبّة طماطم وسارت تحكُّ جلدتها بظهر سكين، ثم شرعت تنزع قشرتها برفق، وقالت:«هكذا يتمُّ تقشير الطماطم، فتعلّم».

هم كثر حول الطاولة، وأنا وحيد على طاولة مجاورة. هم ليسوا هنا، وأنا هنا وهناك. وفي لحظة، سمعتُها تلك الكلمة؛ غير أنّها كانتْ مصحوبة بصفة. سمعتُ أحمد يقول للمرأة المفترضة:«ما رأيك آ الحاجّة فاطمة في أن نتناول وجبة سمك في المرسى؟» فردّتْ:«كما تريد يا سي أحمد».

إنها هي. صارت حاجّة بزوج وبنات وحفدة؛ وأنا ما زلتُ في الشكّ والحيرة. هي من زحزحني عن عقيدتي وأنا لم أزحزحها عن عقيدتها. صارت هي طاهرة على ما يبدو، وأنا تأخرتُ في المدنسات. هي ربحتْ، وأنا صرتُ من الخاسرين. هي ترشف الليمونادا بقـُصيبة. وأنا أتجرّع القهوة المُرّة. فقمتُ إلى زوجها أحمد وقلتُ له بمكر:«السمك في المرسى لذيذ، ولكن لا تأكلواْ السلطة بالطماطم لأنهم لا يعرفون كيفية تقشيرها بظهر السكين وباطنه... أنا من هذه المدينة وأحب أن أنصح الزوار». وما تزحزح لها طرف أو نظر.

وفيما أنا أستجمع نفسي المجروحة للانصراف، نظرتُ إليها؛ فابتسمتْ لي وحركت رأسها...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى