الخميس ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم مصطفى أدمين

معزة الجندي عُمر

كنتُ أعتقد أنّ الجنود لا يستطيعون الحكيَ إلا عن الحروب والقتال والدماء؛ وأنّ ذاكرتهم ما فيها سوى صُورَ الأعناق المنحورة، والبطون المبقورة، والأعضاء المبتورة، والأشلاء المتناثرة... دماء في دماء... أعتذر.

الشعر العربي القبإسلامي نوّه بالقتال وتفاخر به؛ لكن الحرب هي الحرب والدم هو الدم والجثث هي الجثث؛ ولا إمكانية للأدب أن يتخلّل صور البشاعة... أعتذر.

أعتذر لأنَّ هاتفاً من داخلي يقول لي:«أيها الأديب الراشفُ من كأس ِ السِّلم، قـُمْ بالحرب من أجل السلام!» ولأنَّ هاتفاً من خارجي يقول لي:«من المستحيل أن تعيش قِصّة حبٍّ وأنتَ في قعر خندق وفي يدِك بندقية بدل قلم»...أعتذر.

جنديٌّ بسيط ٌ رابط في الحدود بين بلدي وبلد شقيق. لعشرين سنة أو أكثر تحمّل بندقيته في مواجهة عدوّ مفترض. وفيما هو يطلق النار على ذلك العدوّ، كان لا يرى سوى نفسه: الصحراء سراب... الصحراء مرآة؛ والحربُ ماذا تكون إن لم تكن كذبة دامية؟

[كاد يفقد عقله من فرط التوجس والانتظار. وأمّه هناك في أدغال الأطلس المتوسط. «العدوّ ضمير مستتر تقديره هو... أم أنّه أنت... ولعلّه أنا» يقول لنفسه. لعشرين سنة. وزوجتُه الصغيرة هناك في جبال الريف لا يراها إلا عندما تأتي لرؤيته. «شختُ في الحرب، وأبنائي الثلاثة لا أعرفهم كما ينبغي» يقول لي. «اصبر يا أخي! فكلـُّنا جريحٌ ومحروم» أقول له.]

يحكي الجندي البسيط أنَّ صديق عمره الجندي البسيط الآخر، صوّب فوهة بندقيته الرشاشة نحو صدره وهمَّ بالضغط على الزناد... الصحراء. الخلاء. المرآة. الوحدة. العبث... ذات ليلة صقيعية. ذات صداقة حقيقية. «ناورته بالكلام وفي طرفة عين ضربتُ سلاحَه إلى بعيد، وارتميتُ عليه بالحضن والمحبّة... أذكر أنـّه بكى الليل كلـّه».

[... ونحن في الخندق، أقبلتْ علينا معزة. انحدرتْ إلينا وتخطّتنا جميعا إلى أن بلغته ودخلتْ في حضنه لأجل الدفء. لم نشعر إلا ونحن نهتف:«شواء من السماء يا عُمَرْ!» فانتفض وسدّد بندقيته نحونا وهو يصرخ:«من يلمس هذه المعزة سأقتله». فكانتْ بينهما صحبة ثم ألفة ثم صداقة.]

[...بعد أسبوع لا غير، جاز للجنود المرابطين على الحدود المغربية ـ الجزائرية أن يلقبوه بـ «أبو معزة» من دون أن يثير هذا اللقب أدنى إحساس بالدونية لديه. فصارت المعزة صديقة الجميع؛ تمشي في صفوفنا بأمان، وتأكل معنا في أوقات، وتدفِئُنا من صقيع الليالي الصحراوية، وتغنـّي معنا أغاني انتهاء الحرب والصلح والتوافق على حلّ سلمي لقضية الصحراء المغربية...]

[وفي ليلة أخرى ـ يحكي صديقي الجندي البسيط ـ اقترحتُ على صديقي الجندي عُمر أن نعطيَ اسماً لمعزته؛ فاجتمع الجنود في الخندق لمناقشة هذا المقترح؛ غير أنّ صيحة ً من القبطان استوقفتنا:«يا جنود... انتبهواْ! الكولونيل ماجور هنا» انقلعنا من التراب، وأدّينا التحيّة العسكرية. لنسمع القائد يقول:« سنسمّيها تصالح»]

بحلول فصل الربيع والدفء، رأى الجنود أمراً لا يُصدّق؛ وبرَ تصالح الأسود يتساقط يوما بعد يوم إلى أن لم يبق لها وبر. وعلى الرغم من تأكيد الجندي الطبيب بأنّها سليمة من أيّ مرض، ظلَّ عُمر يفحصُ لسانها وعينيها وسائر أعضائها ويجسُّ نبض قلبها ويراقبُ حرارتها وأكلها ومشيتها ونومها إلى أن انتصف الربيع...

[آنذاك رأواْ أمرا آخر لا يُصدّق، تصالح تكتسي تدريجيا بوبر ٍ في مثل بياض الثلج. فرحنا. فرح عُمر. فجاء الكولونيل ماجور لزيارتنا مرّة أخرى؛ ليرى بعينيه التحوّل المستحيل ـ الممكن الذي طرأ على المعزة. فانحنى عليها ومرّر يده على وبرها برفق؛ ثم أخرج من جيبه عقداً من حبّاتِ الياقوت الأصفر الذهبي وقلـّد به عُنُقـَها]

في الصيف؛ في قيض؛ سُمعَ صراخٌ: عُمر. تصالح غائبة. فبدأ البحث عنها في كل مكان. تصالح غائبة؛ هل تعرّضتْ لاغتيال؟ «تصالح جازت الحدود وذهبتْ إلى الجهة الأخرى» قال أحد الجنود.

[لم يتردّد عُمَر لحظة. ألقى بسلاحه أرضاً وتوجّه نحو أرض العدوّ المفترض ويداه فوق رأسه وهو يصيح:«أريدُ معزتي البيضاء... اقتلوني إن شئتم لكن أعطوني معزتي» فسمعنا طلقات نارية. طلقات في الهواء؛ وعُمر يتقدّم نحوها كالمسحور.]

يحكي صديقي الجندي البسيط أنّهم استعادوه وهو في حالة شديدة من البؤس الروحي؛ بعينين شاخصتين في الفراغ، ولسان ٍ بطول صيحة طويلة من فمه، وجسد مثقل بالرمال؛ وراقبوه لليلة ونهار إلى أن جاء القائد واستفسره:

ـ تصالح ضاعتْ أيها القائد، وأنا من دونها سأقتل نفسي. قال عُمر.

[وما هي إلا ليلة أخرى ونهار، حتى هبطتْ علينا طائرة ٌ مروحية في ملك الأمم المتحدة، وكان أوّل من نزل منها المسؤول عن تدبير ملف الصحراء المغربية، ثم جنديان كنديان، ثم تصالح البيضاء...]

أجل يا قـُرّاء، يمكن للأدب أن يعبّر عن نفسه حتى في ظروف الحرب والقتال...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى