الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
عن الحضارة «11»
بقلم محمد متبولي

ثورة العلم والمعرفة والثورة الشاملة

إذا كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن الثورة الفكرية على أنها أحد المحفزات الرئيسية لإعادة بناء تصورات الإنسان حول ربه ونفسه ومجتمعه وعالمه، من أجل أن يصبح أكثر قدرة على التقدم الحضاري، فالوجه الآخر لهذه الثورة والمحفز الثاني لعملية إعادة بناء التصورات تلك، وأحد أهم الخطوات الأصيلة لتحقيق الثورة الشاملة هى ثورة العلم والمعرفة، ولو أردنا تحديد أهداف تلك الثورة سنقول، إنها ثورة تهدف إلى إحداث تغيير جذري في منظومة التعليم، ونشر المعرفة على نطاق واسع، والتحول من مرحلة استهلاك العلم والإنتاج المحدود له، إلى مرحلة التوسع في الإسهام العلمي على مستوى الحضارة الإنسانية وتوجيه المجتمع لتبنى رؤية علمية للأمور، ببساطة هدف هذه الثورة هو جعل المجتمع أكثر عقلانية ورشدا وقدرة على استغلال طاقاته وموارده.

إن في مقدمة أهداف العملية التعليمية في ظل تلك الثورة، هو إتاحة التعليم لكل أفراد المجتمع بكافة السبل الممكنة وتحويل عقل الإنسان من عقل نقلى يجمع المعرفة وينقلها دون أن يمعن فيها إلى عقل نقدي قادر على استيعاب المعلومات وتحليلها وربما إنتاج معلومات جديدة أو بالأحرى معارف جديده في ضوئها، كما ستتبنى منظومة التعليم تلك مهمة تمكين الإنسان من اكتشاف قدراته ومهاراته الخاصة وتنميتها وإصقالها وإضافة قدرات ومهارات جديدة له، علاوة على توسيع مداركه وجعله أكثر مقدرة على استيعاب ما يدور حوله في العالم خاصة العلوم والمعارف الجديدة والمتطورة، ومن أهم معالم هذه العملية التعليمية الجديدة أيضا هو نقل ما توصل له المجتمع من نتائج وهو يراجع أفكاره من خلال الثورة الفكرية إلى مناهج التعليم مباشرة، فينشأ الأفراد على المفاهيم الجديدة والمصححة التي أنتجها العقل الجمعي الجديد للمجتمع، وهو ما سيعنى أن الجيل الثاني على جيل الثورة الفكرية لن تكون مهمته البدء من الصفر، ولكن ستكون استكمال وتطوير عملية نقد مفاهيم وأفكار المجتمع، وإنتاج أفكار جديدة تستفيد منها البشرية وتصبح إضافة أخرى للحضارة الإنسانية.

وهنا تظهر فكرة هامة ومحورية وهى كيف سيتطور العقل الجمعي للمجتمع دون أن ينشأ أفراده على فكرة الحوار وتبادل الأفكار والآراء، وكيف ستنشأ فكرة الحوار مع الآخر ولدينا مناهج تعليمية تقدم المعرفة من وجهة نظر أحادية، لا تراعى التنوع الثقافي داخل المجتمع، ومصحوبة بوجهة نظر معينه، ويظهر ذلك بشكل واضح في العلوم النظرية خاصة التاريخ الذي عادة ما يقدم المعلومات التاريخية في صورة وجهة نظر أكثر منها معلومة، والجغرافيا التي قد تغفل تركيبات سكانية معينه داخل المجتمع، وحتى العلوم الطبيعية لا تسلم من ذلك التحيز عندما نقدم نظريات مثل النشوء والارتقاء وغيرها، فكل ذلك يأصل أحادية التفكير وعدم الاهتمام بالآخر، ويكفينا أن نقول كم سمعنا عن بحث هام أو مشروع متقدم خرج من بلادنا وذهب لبلد آخر لمجرد أن أساتذة الجامعة لم يستمعوا لتلميذهم أو أن المسئولين لم تكن لديهم مقدرة عالية للإنصات، ولو تطرقنا إلى الحوار على المستوى الخلافات الفكرية والثقافية فحدث ولا حرج، لذا فالمناهج التعليمية يجب أن تضمن إعلاء قيم الحوار وتقبل الآخر، وتقوى قدرة الإنسان على الاختيار دائما بين ما ينفعه وما لا ينفعه، وبمعنى أكثر وضوحا إن أهداف العملية التعليمية في ظل ثورة العلم والمعرفة لن تكون مجرد تخريج كوادر تسد احتياجات المجتمع من التكنوقراط، ولكن إخراج كوادر قادرة على قيادة المجتمع نحو العبور من عصور الظلمة إلى عصور النور مودعا خلفه الجهل والتخلف، قطعا إننا لا نخترع العجلة فلدينا الكثير من تجارب الدول التي كانت مماثلة في الظروف والبحوث التي يمكن أن نلجأ لها، ولكن المؤكد أن الأهداف التي نرجو الوصول إليها من خلال العملية التعليمية والطريقة المثلى لتحقيقها لن يحددها سوى نحن.

وننتقل إلى ما يخص فكرة نشر المعرفة، وهنا علينا القول إن المعرفة يجب أن تكون متاحة لمن لم يحالفهم الحظ في استكمال تعليمهم أو حتى لم يتعلموا بالفعل، ولمن نالوا قدرا معقولا من التعليم حتى يتمكنوا من تحديث معرفتهم وتنمية قدراتهم بشكل مستمر، وأخيرا لمن يهتمون بالمعرفة بشكل عام ويسعون للحصول على أكبر قدر منها وأغلب هؤلاء هم إما من الباحثين أو المثقفين أو بمعنى أدق قيادات طبقة النهضة، إن الخطوة الأولى والمنطقية لنشر المعرفة هى نقل كل ما توصلت إليه الإنسانية من معارف من كل مكان في العالم، فلا يصح أن يظهر كتاب أو بحث جديد في أي فرع من أفرع المعرفة في أي بقعة على وجه الأرض ولا يكون لدينا نسخة منه، وأن يكون ذلك متاح أولا للمتخصصين المهتمين بهذا الفرع من المعرفة، ثم تنشط حركة الترجمة لتقديم هذه المعارف إلى المهتمين بها بشكل عام، ثم يتم بعد ذلك نشر هذه المعارف على نطاق واسع، وتشمل عملية النشر تلك تبسيط هذه المعارف وتقديمها في وسائل مختلفة باستخدام التقنيات الحديثة سواء كانت إليكترونية أو مرئية أو مسموعه، ولكى نبسط الفكرة أكثر سنفترض أن لدينا أسره مكونه من جد وأب وأبن، فالجد يعرف النظرية النسبية لاينشتين لأنه شاهد فيلم قصير عنها، والأب أستاذ في الجامعة يستخدمها في أبحاثه بعد أن قرأ دراسات مطولة عنها، بينما يقوم الابن بحل تمارين على الحاسب الآلي عن النسبية لأنه يدرسها في منهج الفيزياء، إن ذلك يعنى أن كل فرد في المجتمع سيكون لديه قدر من المعرفة العلمية والإنسانية بقدر احتياجه وقطعا سيؤثر ذلك إيجابيا في طريقة تفكير المجتمع وتنمية العقل الجمعي له.

إن التوسع في التعليم والارتقاء بجودته ونشر المعرفة على نطاق واسع، سيوجد رغبة شديدة لدى المجتمع في إنتاج المعرفة لا نقلها فقط، وسيكون ذلك بدعم البحث العلمي في مختلف العلوم، من أجل أمرين أولهما التغلب على مشاكل المجتمع القائمة وتحقيق الاستغلال الأمثل المبنى على المعرفة العلمية لقدراته البشرية والاقتصادية، والثاني تحقيق مكانه مرموقة للمجتمع وسط العالم عن طريق مساهمته الفعالة في إنتاج الحضارة الإنسانية، فعندما يضع المجتمع أحد أهدافه الرئيسية دعم الكوادر العلمية وتمكينها علاوة على الاعتماد على العلم في حل مشاكله، سيكون هناك رؤية أوسع لتلك المشاكل وأفكار مبتكرة وخلاقة للتعامل معها مما سيجعل حتما حياة المجتمع أفضل وسيعظم من إسهامه الحضاري.

قد يستغرب البعض أننا تحدثنا عن المجتمع، ودوره في ثورة العلم والمعرفة ولم نتحدث عن دور الدولة، ولكن علينا أن نلحظ شيئا هاما إن الدولة في ظل الثورة الشاملة ليست هى من سيوجه المجتمع ولكنها ستكون انعكاس لفكره ورغباته، إن ما نحاول تحقيقه منذ بداية سلسلة مقالات عن الحضارة وحتى الآن هو أن نقول إن البناء الحضاري يبدأ من أسفل، أى من الإنسان نفسه لا من أعلى أى من الدولة، والآن فلنحاول أن نتخيل شكل المجتمع الذي أنجز قدرا كبيرا من ثورة العلم والمعرفة، إنه مجتمع يمثل فيه المتعلمين والمثقفين أغلبية، لا يتقبل الخطابات البسيطة الضحلة، ولا يمكن أن يضع قيادته في يد من لا يملكون رؤية واسعة وعميقة، ولا يقبل أن يقدم له أحد مجموعة من الاستنتاجات والتصورات الغير مبنية على قدر معقول من الدراسات والمعلومات، إنه مجتمع لديه قدر معقول من الوفرة والرفاهية لأنه يستغل إمكانياته الاستغلال الأمثل، ويوضع فيه كل شخص في مكانه الأمثل الذي يمكنه من الإبداع فيه، وعندما تواجهه مشكلة لا يتجه نحو الحلول الارتجالية أو العنتريات الشخصية أو حتى الخرافات، ولكنه يبحث عن الحلول عند العلم أولا، ثم يجمع مفكريه ومثقفيه وساسته ليتباحثوا معا بنية إخراج المجتمع من أزمته لا بنية فرض الرأي، إنني لا أتحدث هنا عن المدينة الفاضلة ولكنني أتحدث ببساطة عن مجتمع عقلاني رشيد يقدر قيمة العلم والمعرفة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى