الثلاثاء ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
بقلم موسى إبراهيم

نساء 2

(4)

لم تنم بعد، حجرتها الصغيرة المليئة بألوان الزهور، ستائرٌ كبساتين الورد، سقفٌ يتوسطه مصباحٌ بلونٍ أحمرٍ خافت، سريرٌ ورديّ الشراشف، ناعم الملمس، يفصلها عن الأرض بمسافة قصيرة، نافذة يطل منها البدر من خلف قطرات الماء الفضولية كأنه ينتظرها حتى تنام ليطفئ النور، هي لا تعرف النوم منذ أن غادر، تحاول النوم الآن، يربكها الماضي، تؤرقها الذكرى، هل كانت هي فتيلا أضاء الدنيا من أجله؟ أم كان هو زجاجة المصباح..؟ لم تعد قراءة الذكرى، وثبت إلى ذكرى أجمل، في فصل الشتاء يملأ المطر طرقات الحيّ، ليرسم برك الماء الصغيرة ترتوي قطرات مطر غزير لا يعرف الرحمة، كانت عائدة الى المنزل، تحمل كتب الجامعة ومراجعها الثقيلة، مظلة المطر تحاول أن تكف عنها قطرات مسرعة قاسية صلبة، تنظر قرب قدميها وتمشي مسرعة، كان هو عائدا من عمله يجرجر جسده المنهك تحت وقع المطر، بنطاله مبلل من الأسفل، كفتاه يرتشفان بعض الماء السماوي، يفكّر بكوب شاي ساخن يمنحه بعض الدفء، ارتطم جسده المنهك بكتلة أنوثة، شعر بها حين تسلل عطرها الى أنفه، عرفها .. إنها هي.
هي رفعت رأسها لتقابل بعينيها عينيه، كانت أول مره ترى فيها الشمس في عيني رجل، سقطت بين ذراعيه، سندها واعتذر، هي أيضاً حاولت لكن الصمت ألجمها، قلبها الصغير كان يردد: "أعتذر.."، لكنه لم يسمع قلبها فالمطرُ لا يهدأ وعزفه ينفرد ويعلو أكثر، غادر دون أن يترك لها عنوانه كي ترسل الإعتذار بعد أن يهدأ هذا المطر!!

(5)

قاعة كبيرة، تشبه المسرح، "بيانو" يتوسط المكان، وهدوءٌ يخيّم، صمت صمت صمت، هي تجلس أما البيانو، ترتدي ثوباً يرتاح على جسدها الورديّ، شعرها المنثور يغطّي كتفيها، حزنٌ يسكن عينيها، يستمر الصمت ولا يشقّه سوى أنفاسها الناعمة وتنهيدة بين الفينة والأخرى، قال لها: "سنلتقي في هذا المكان.." ومضى، هي منذ الصباح هنا، تنتظر قدومه ولم تبدأ العزف بعد، كانت تفكّر فيما لو حضر أن تبدأ العزف عند بدء اقترابه، تتخيّله - فيما لو حضر - يدخل من الباب، يرسم ابتسامةً كأنها تحية صباحية، كانت تتخيّل - فيما لو حضر - أن يمسك يدها الصغيرة، يقبّلها ثمّ يجلس قربها، ويطلب منها معزوفة أحبها، كانت تتنمى - فيما لو حضر- أن يضمّها إليه ويُنسيها عناء الإنتظار، ووجع أنين الدقائق، كانت تبتسم، وحدها، لم يحضر بعد. هو يمرّ بالمكان، لم يدخل، لا أحد بانتظاره هُنا، لماذا عليه أن يُقحم نفسه في شيءٍ لا يعنيه، أثاره هدوء المكان، أطلّ عليها، رمقها بنظرةٍ وابتسم، لم يكن هو من حضر ولم تكن هي بانتظاره.. غادر.

(6)

هو يمرّ في المكان، الطريق ينصت لعزف الريح، يرتاح الشتاء قليلاً قبل عاصفة أخرى، جميع الأشياء مبللة بالمطر، الشمس تختفي خلف السحب، كانت السحب تعدّ لاحفتالِ مطرٍ غزير، قطة تجثو في مكان قريب، تُرْضِعُ صغارها، تموء، هو ما زال يمشي، تثيرة أجواء الشتاء، يحبّ إغفاءة المطر في السماء، تربكه الريح التي تشي بالمطر، صادفها تتكوّم باقة أنوثة على سلّم البيت، كانت تنظر إلى البعيد، تسندُ وجهها الملائكيّ على قبضة يدها الصغيرة، ترفعُ على إحدى درجات السلّم ساقاً، وتريح ساقها الثانية على الأرض، هي تعشق هذه الأرض، تحبها، تموتُ اختناقاً كلّما ابتعدت عنها، هي تحبّ الزهر والشجر والعصافير ورائحة التراب الممزوج بالمطر. إبتسم لها، صافحت عيناهُ عينيها، أخذت تحدّثه عن الأرض، كان ينصت لها ويبكي، هو ابن هذي الأرض، لكنهم في المنفى لا يسمحون بأكثر من مرور عليها، تسّربت حبات المطر من جيب السماء، عرف أنه قد حان موعد الذهاب، قالت: "إلى أين..؟" أجابها :"إلى السماء... ألا تأتين معي.؟" قالت:"أحبّ الأرض.. هذه الأرض"، نزل المطر .. ترك في قلبها قلبه، تركت في قلبهِ قلبها .. ومضى..

(7)

كانت كثيراً ما تتحدث له عن "جودي أبوت" الفتاة الإنكليزية الحالمة بصاحب الظل الطويل، كثيراً ما تغني له:"من أنت .. يا صاحب الظل الطويل .. حلمت بالسعادة .. حلمت بالحياة .. حلمت بالسعادة .. حلمت بالحيـاة..وسدت الدروب .. واشتدت الخطوط .. فجئت من سراب .. فتحت لي الأبواب .. حملت لي العطايا .. لتزهر الأحـــــــــــــلام..وتضحك الأيام .. ياااااااااااا .. يا صاحب الظل الطويل .. أجبني من تكون .. من أنت من تكون أشعلت بدربي الشمعة..حتى مسحت الدمعة .. فمن تكـــــــــــــــون .. من تكــــــــــــــــــــون .. أجبني من تكون .. من أنت من تكون آآآآه..يا صاحب الظل الطويل .. يا صاحب الظل الطويل"
كان ينصت لها باستغراب، لكن كلمات الأغنية تشدّه، وكأنها تتحدث عنه هو، وهي فعلاً تشبه "جودي" في جمالها وشقاوتها ومغامراتها ولطفها وأنوثتها البريئة، عندما سافر، توسّلت إليه أن يعود قريباً ليأخذها معه. بعد أعوام طويلة، هاتفها وأخبرها بأنه عائد، فاتفقا على اللقاء في ذات المكان على ذات المقعد الخشبي في ظلّ أغصان الصفصافة العجوز، وصل إلى المكان وأخذ يتخيّل شكلها، شعرها الكستنائيّ ذو الجديلتين، وجهها الملائكي المليء بالحيوية، عيونها الخضر، شقاوتها، أناقتها، عذوبة حضورها وسحر حديثها، هل يا ترى ما تزال تذكر "جودي"..؟ هل ما زالت تشبه "جودي" .. كانت تحب أن يناديها باسم "جودي"، جلس يتخيل المشهد اللحظي حين تهم بالخروج من البيت للقائه، تمشّط شعرها، ترتدي أجمل ثيابها، تلفّ وشاحها حول عنقها، تمشي مسرعةً إليه، تمشي سعيدة إليه، تداعب أوراق الشجر، تلهو مع القط العجوز، تضحك تضحك تضحك .. تسرع الخطى، تهدي الدنيا ابتسامات بريئة، تصل إلى المكان وكالعادة تتسلّق قامته الطويلة، تتعلّق بكتفيه وتصيح: "اشتقت لك كثيراً.... أيها المجنون...!". أفاق من حلمه على صوت نسائي يقول: "مرحبا .. حمداً لله على سلامتك" كانت هي لكنها كبرت، صارت أنثى هادئة، ثيابها هادئة، وقفتها هادئة، صوتها هادئ، شعرها هادئ، حديثها هادئ، شوقها .. حبها .. لهفتها .. كل شيء هادئ .. كبرت هي .. ولكن "جودي أبوت" ما زالت تنتظره في عينيها الجميلتين.

(8)

كانت تمرّ عبر مدخل الجامعة، كانت تسرع المشي متوجهة إلى قاعة المحاضرات، أجواء خريفية تحيط بها، أوراق الشجر منها ما يزال متمسكاً بأغصان الشجر ومنها ما سقط واستراح على الأرض، يزعجها التفكير في ردة فعله عندما تستأذنه بالدخول إلى القاعة، "ماذا سيقول اليوم يا ترى؟ قد يأمرني بالخروج وانتظاره في مكتبه كالعادة، ثم ينهال علي بالنصائح والمواعظ التي تسبب لي الصداع، قد يوبّخني أمام الطلبة، وليكن! ليته يضربني ولكن لا يحرمني من فرصة جديدة لتأمّل وجهه الجذّاب وهو يلقي محاضرته علينا، كأنه يؤدّي أغنية تطربني، بل وكأنه يتلو قصيدة حبٍ نزارية، هذا ما أشعر به فعلاً حين يبدأ هو بالحديث، ليته لا يطردني .. يا رب.." تقرأ تعاويذها الصباحية المعتادة وهي تسرع إلى القاعة، ثم عندما وصلت كان الباب موصداً، طرقته مرّة واحدة ثمّ انتظرت أن يأتي صوته من الداخل، لم تسمع شيئاً بعد، طرقت الباب مرّة أخرى أقوى بقليل، وانتظرت لتسمع صوته، لم تسمع شيئاً، همّت بفتح الباب، لتفاجأ به خلفها:"صباح الخير يا آنسة، أنتِ متأخّرة إذن؟" كان هو.. لم يعطها فرصة للرد وأردف قائلاً:"لا عليكِ .. فأنا أيضاً تأخرت .. ولهذا لن أعاقبك بالطرد .. تفضّلي .." كان لبقاً، مبتسماً، أنيقاً.. كأنه يدعوها لاحتساء فنجان قهوة في إحدى مقاهي المدينة الهادئة، لم تصدق نفسها، قالت:"شكراً لك أستاذي .. أوافق" نظر إليها مستغرباً وقال:"موافقة على ماذا يا آنسة..؟" وقتها فقط استيقظت من حلمها القصير .. "أرجوك اعذرني فقد اختلطت عليّ الأمور..!" دخل القاعة .. وهي تتبعُه بابتسامة عريضة .. وقلبٍ يخفق...

(9)

في حانة صغيرة، تعوّد هو أن يقضي ليله الطويل فيها، يحتسي الخمر مع رفاقه، ثمّ يستمعون إلى الغانيات يؤدّين حفلات غنائية متتابعة لا تنتهي أبداً إلا عندما يشقشق الصبح، اليوم كان ثملاً لدرجة كبيرة، رقص كثيراً، لعب كثيراً، غنّى كثيراً، بعادته لا يقترب من النساء، يحب أن يقضي ليلته بعيداً عن الفاحشة، كان في غاية السعادة، يضحك بصوتٍ عالٍ، ويخبر الرفاق عن أحداث الأسبوع الكثيرة التي مرّت به. كانت هي تعدّ الكؤوس لهم، تقف صامتة، تسكب الخمر، ولكنها لا تطلق ضحكات عاهرة كالأخريات، لا تكشف الكثير من تضاريس جسدها الأبيض، ولا تنحني أكثر من حاجتها لسكب الخمر في الكؤوس، شدّه حضورها اللطيف الهادئ، كأنها ليست من هذا المكان، كأنها ضيفة عابرة، كأنها لا تعمل هنا أو أن هذه أولى ساعات عملها في عالم الحانات، نهض وانتصب، أطلق سهام عينيه نحوها، قال:"يا حلوه .. هل تعملين هُنا..؟" تفاجأ رفاقه منه، فهذه هي المرة الأولى التي يتحرش فيها بفتاة في الحانة! قالوا: "ما بك ..؟ إنها فتاة عادية ..! ما الذي أعجبك فيها لتكسر قاعدتك!" لم يعرهم انتباهه، ثمّ كرّر السؤال عليها .. لم تجب والتزمت الصمت، ثمّ ابتعدت عنهم، لحق بها حتى استقرّا في مكان هادئ، ثم سألها من جديد: "يا آنسة .. هل أنتِ تعملين هنا من مدة طويلة؟" قالت: "وماذا يهمّك..؟" قال: "دفعني فضولي لأستفسر منكِ، فأنتِ لستِ مثل الأخريات!" قالت: "نعم أنا لستُ مثلهنّ..صدقت" قال: "ولكن كيف..؟" قالت: "هنّ عاهرات .. وأنا طالبة في كلية الطب!"

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى